توفى عمر الشريف يوم الجمعة ١٠ يوليو، وشيعت جنازته يوم
الأحد فى ساحة مسجد المشير طنطاوى حيث تمت الصلاة على جثمانه، ودفن فى
مقابر السيدة نفيسة. وأقامت نقابة المهن السينمائية العزاء يوم الأربعاء فى
مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة. وكان من الغريب عدم حضور ابنه طارق، ولكن
العزاء على أى حال لم يكن فى والد طارق، وإنما فى عمر الشريف، وهو ملك مصر
والعالم العربى والعالم كله، وليس فقط أسرته.
نشر خبير الآثار المصرية القديمة زاهى حواس مقالاً فى
«الأهرام» يوم ١٢ يوليو بعد يومين من وفاة صديقه عمر الشريف قال فيه إنه
ذهب لزيارته فى المستشفى حيث كان يعانى من «ألزهايمر» قبل أسبوع من وفاته،
وأن عمر لم ينطق بكلمة واحدة فى هذه الزيارة، ولكنه كان يفتح شفتيه ويتمتم.
وقال حواس: «تخيلت أنه كان يقول يا رب».
النداء الأخير
أعتقد أن ما تخيله حواس كان صحيحاً. فقد كان عمر الشريف وقد
تمكن منه ذلك المرض بعد أن احتفل بعيد ميلاده الثالث والثمانين فى ١٠ أبريل
٢٠١٥، يشعر بدنو الأجل. وقد أصبحت صورته مع ابنه طارق فى ذلك الاحتفال
والتى صورها أيمن برايز، ونشرت فى الأهرام يوم ١٥ أبريل هى الصورة الأخيرة.
ومن أعراض «ألزهايمر» النسيان، وربما يكون عمر الشريف قد نسى كل شىء، ولكنه
من واقع ما أعرفه عنه لم ينس الله، وظل يذكره.
كان يقول «يا رب» وهو يقترب من العالم الآخر مناجياً رب
العالمين النداء الأخير. كان يقول «يا رب» وهو على وشك أن يفقد الروح التى
لا يعلم بأمرها إلا خالقها. كان يقول «يا رب»، آملاً ألا يطول عذاب المرض،
وأن يموت بدلاً من أن يعيش مريضاً، كما تمنى دائماً، وهو الذى لم يكن
يتناول العقاقير، ولا حتى حبة «أسبرين» كما يقول حواس فى مقاله المذكور.
كان يقول «يا رب» آملاً فى صفحه وغفرانه، والله كما يقول المصريون «رب
قلوب»، والعالم بالنوايا دون سواه، والغفور لكل خطايا الإنسان إلا الشرك
به، والعالم وحده بمن يؤمنون ومن يشركون.
ولد مسيحياً ومات مسلماً
ولد عمر الشريف مسيحياً من الروم الكاثوليك باسم ميشيل
شلهوب. وكان مولده فى الإسكندرية لأب من أصول لبنانية من زحلة يعمل فى
تجارة الأخشاب، وأم من أصول سورية من دمشق. وعندما بدأ العمل ممثلاً فى
السينما عام ١٩٥٣ اختار له المنتج رمسيس نجيب (١٩٢١-١٩٧٧) والمخرج يوسف
شاهين (١٩٢٦-٢٠٠٨) اسم عمر الشريف. وكان المعتاد فى مصر ودول عديدة أن يكون
لأغلب الممثلين اسم يعرف به يكون من السهل تداوله على ألسنة الجمهور.
واعتنق عمر الشريف الإسلام عام ١٩٥٥ حتى يتزوج الممثلة فاتن حمامة
(١٩٣١-٢٠١٥) وغير اسمه رسمياً. وهكذا حمل اسم القديس ميشيل فى المسيحية
واسم الخليفة عمر فى الإسلام.
وبعد زواج عمر الشريف وفاتن حمامة أنجبا طارق عام ١٩٥٧، وتم
الطلاق بينهما عام ١٩٧٤ بناء على رغبتها، وتزوجت الدكتور الطبيب محمد
عبدالوهاب، وعاشت معه حتى وفاتها. واحترم عمر الشريف رغبة فاتن فى عدم
الحديث عن الماضى، واحترم الدكتور عبدالوهاب التزامه بذلك، وكان من
المشتركين فى جنازته. وكانت فاتن قد تزوجت المخرج عزالدين ذوالفقار (١٩١٩-
١٩٦٣) عام ١٩٤٨، وأنجبا نادية عام ١٩٥٠، والتى اعتبرها عمر مثل ابنته بعد
طلاق والديها، واعتبر مارين ابنة نادية حفيدته وورث طارق التسامح الدينى عن
والده حتى إنه تزوج ثلاث مرات من يهودية ومسيحية ومسلمة، وأنجب من زيجاته
أحفاد عمر الشريف الثلاثة عمر الشريف الصغير وكارم ودانى.
ومن يغير دينه لتحقيق غرض دنيوى، يشك بعض الناس فى إيمانه
بالدين الجديد، أو حتى بإيمانه بالدينين الأصلى والجديد معاً. ولم يكن
تغيير عمر الشريف لدينه موضع ترحيب من أسرته، ولكن الأسرة لم تكن متعصبة.
ومن ناحية أخرى، ولد عمر الشريف ونشأ فى مصر الليبرالية المنفتحة على كل
الأديان والأعراق، والتى تتماهى بذلك مع تاريخها الطويل وجغرافيتها
المتميزة، وكانت الإسكندرية أكبر رموز مصر الليبرالية التى كانت.
نشأ ناصرياً ومات ساداتياً
كان عمر الشريف فى العشرين من عمره عندما قامت ثورة يوليو
١٩٥٢، وعاش ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة عبدالناصر المصرية حتى ١٩٥٨، وكان
مؤيداً للثورة التى أعلنت الحرب ضد الفقر والجهل والمرض والفساد، ومؤيداً
لكفاح الشعب الفلسطينى من أجل الحرية، وعبر عن ذلك باشتراكه مع فاتن حمامة
فى تمثيل فيلم «أرض السلام» إخراج كمال الشيخ (١٩١٩-٢٠٠٤) عام ١٩٥٧، وكانت
باقة الورد الوحيدة من العالم العربى فى جنازته من الرئيس الفلسطينى محمود
عباس. ولكن عمر الشريف مثل كثيرين ممن نشأوا فى مصر الليبرالية، لم يؤيد
مرحلة عبدالناصر العربية عند الوحدة مع سوريا عام ١٩٥٨، ولم يؤيد مرحلة
عبدالناصر الاشتراكية مع قرارات التأميم عام ١٩٦١، وتعاظم سطوة المخابرات
قبل حرب يونيو ١٩٦٧.
ولذلك غاب عمر الشريف، أو عمر شريف كما هو معروف
بالإنجليزية، عن مصر نحو ١٠ سنوات من ١٩٦٥ إلى ١٩٧٥، حيث اشترك فى تمثيل
عشرات الأفلام الأوروبية والأمريكية. وغاب عن السينما المصرية نحو عشرين
سنة من ١٩٦٥ إلى ١٩٨٣. وكان غيابه عن مصر، ليس فقط من أجل العمل خارجها،
فقد كان يستطيع بالطبع أن يعمل داخل وخارج مصر، وإنما فراراً من ضغوط
المخابرات عليه وعلى فاتن حمامة، وتجنباً للإجراءات المتعددة والمتشددة
لسفر المصريين إلى الخارج، خاصة سفر الممثلين، وكان يشترط موافقة شرطة
الآداب على سفر كل من يعمل بالتمثيل. وفى نفس هذه الفترة ولنفس الأسباب،
غابت فاتن حمامة عن مصر من ١٩٦٥ إلى ١٩٧١.
بعد موت عبدالناصر عام ١٩٧٠ وتولى السادات، عادت فاتن حمامة
إلى مصر مباشرة. ولكن عمر الشريف عاد عندما التقى مع السادات فى حفل بالبيت
الأبيض فى واشنطن، ودعاه للعودة إلى مصر. وكان عمر الشريف مؤيداً لسياسات
السادات الداخلية والخارجية تأييداً كاملاً، ويمكن القول إنه نشأ ناصرياً
ومات ساداتياً.
أما بالنسبة لعهد مبارك الذى بدأ بعد اغتيال السادات عام
١٩٨١، فقد كان عمر الشريف مؤيداً لسياسات مبارك، باعتبارها امتداداً
لسياسات السادات. وبدأ العمل فى السينما المصرية من جديد فى عهده عام ١٩٨٣.
وكانت البداية فيلم «أيوب» إخراج هانى لاشين من إنتاج تليفزيون الدولة،
والذى عرض فى دور السينما عام ١٩٨٤. ولكن عمر الشريف أصبح أقرب إلى
المعارضة بعد التكلس الذى أصاب نظام مبارك وانتشار الفساد، ولذلك كان أول
شخصية مصرية دولية مرموقة طالبت مبارك بالتنحى يوم أول فبراير ٢٠١١ أثناء
ثورة ٢٥ يناير، وذلك فى حوار تليفزيونى مع قناة
CNN
أذيع فى كل العالم فى نفس اليوم.
وفى الحوار الأخير الذى أجرى مع عمر الشريف قبل أن يشتد
عليه المرض، والذى أجراه صفوت دسوقى فى القاهرة ونشر فى «الوفد» يومى ١٤
و١٥ ديسمبر ٢٠١٤، قال: «سافرت بعد قيام ثورة يناير بشهور، وكانت هناك حالة
من الفوضى، وأثناء إقامتى فى الخارج تابعت الانتخابات الرئاسية وفوز
الإخوان بالحكم. وقد تملكنى الخوف وقلت إن مصر سوف تنهار، لكن الحمد لله،
الشعب صحح المسار وقام بثورة جديدة، واختار عبدالفتاح السيسى ليحكم مصر...
لا أعرف السيسى لكنه رجل وطنى ويحب البلد، والشعب كله يعلق آمالاً عليه».
زهور القرآن
عندما عاد عمر الشريف إلى مصر كان قد تجاوز الأربعين من
عمره، وبدأ التعمق فى الدين الإسلامى، خاصة من خلال الاستماع إلى أحاديث
الشيخ الشعراوى فى التليفزيون.
يقول عمر الشريف فى حوار مع حسن عبدالله بمناسبة عيد ميلاده
الخامس والسبعين، والمنشور فى مجلة «نيوز ويك» الأمريكية الدولية
الأسبوعية، عدد ٢٩ مايو ٢٠٠٧: «أحب الشيخ الشعراوى كثيراً، فهو يفسر القرآن
الكريم بشكل رائع، وله عمق لغوى مبهر. استمعت إليه وهو يفسر آية وسطية
الإسلام، واكتشفت أن هذه الوسطية ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان،
وأنها ما يحتاج إليه العالم الآن ودائماً». وقال: «قمت بعمرة واحدة. كنت
أجلس ليلاً فى صحن الكعبة وأناجى ربى حتى الفجر. كانت لحظات رائعة جداً.
مكة مدينة الله. من الطبيعى أن يأتى كل الأنبياء من الشرق حيث الصحراء
والنجوم والقرب الشديد من الله».
وكان عمر الشريف قد عبّر عن تعمقه فى الدين الإسلامى، وأكد
أنه من رموز الليبرالية المصرية، بتمثيل آخر دورين كبيرين فى حياته، وهو
دور البقال المسلم الذى يتبنى صبياً يهودياً فى باريس فى الفيلم الفرنسى
«السيد إبراهيم وزهور القرآن» إخراج فرانسوا ديبيرون عام ٢٠٠٣، ودور القديس
بطرس فى الفيلم التليفزيونى الإيطالى «القديس بطرس» إخراج جوليوباسى عام
٢٠٠٥. وبعد ذلك فى الفيلم المصرى «حسن ومرقص» إخراج رامى إمام عام ٢٠٠٨ حيث
قام بدور المسلم حسن وقام عادل إمام بدور المسيحى مرقص.
كان عمر الشريف مسلماً بالاختيار وليس بالمولد، كما كان
مصرياً بالاختيار وليس بالمولد. فقد ظل محتفظاً بجواز سفره المصرى طوال
حياته، وكان يستطيع الحصول على أى جواز سفر أمريكى أو أوروبى. ويبدو فى
شهوره الأخيرة وألزهايمر يحوم حوله قبل أن يتمكن منه، ويتم الإعلان عن
إصابته به فى مايو ٢٠١٥، وكأنه كما اختار دينه ووطنه، اختار أن ينسى بعد
موت حفيدته فاطيما فى عمر الطفولة، وموت مديرة أعماله فى مصر وصديقته
المخلصة إيناس بكر فى عمر الشباب، وموت صديق عمره أحمد رمزى الذى يماثله فى
السن. ويبدو عمر الشريف فى أيامه الأخيرة، وكأنه اختار أن يموت بدلاً من أن
يعيش مريضاً وبلا ذاكرة، فقال «يا رب»، وجاء موعد القرار الإلهى كما تمنى
يوم الجمعة الأخيرة (اليتيمة) من شهر رمضان المبارك الذى أنزل فيه القرآن،
وظلت الزهور التى يضعها إبراهيم، وهو اسم أبوالأنبياء، داخل صفحات الكتاب.
samirmfarid@hotmail.com |