'الجانب
الآخر من الأمل'
فيلم عن المهاجرين العرب
العرب/ أمير
العمري
من أكثر الأفلام قدرة على تحقيق المتعة، الذهنية
والبصرية، من بين الأفلام التي عرضت في مسابقة الدورة الـ67
من
مهرجان برلين السينمائي
(9-18
فبراير)،
الفيلم الجديد المنتظر
“الجانب
الآخر من الأمل”
The Other Side of Hope
للمخرج الفنلندي أكي كوريسماكي، إنه فيلم عن الظلام بقدر ما هو عن
الأمل، وعن الخير الذي ينبع من بين طيات القسوة الظاهرية التي تكمن
تحت قشرة سميكة تحجب المشاعر، لكنها تعلن عن وجودها عندما تظهر
الحاجة إليها.
يبدو
المخرج الفنلندي أكي كوريسماكي وكأنه يكرر صنع أفلامه نفسها في
فيلمه الأخير الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين
السينمائي الـ67
والمعنون بـ”الجانب
الآخر من الأمل”.
هو
مخرج إنساني النزعة، تكمن فلسفته في بساطة أفلامه، وسهولة تلقيها،
في قدرته على تجسيد شخصيات هامشية تكافح من أجل البقاء، لكنها أيضا
تملك من النبل ما يجعلها تلعب دورا إيجابيا في حياة الآخرين.
في
أفلام كوريسماكي عادة حس واضح بالجماعة، بمعنى الانتماء للمجموعة،
أو المجتمع الصغير الذي يتضامن فيه البشر مع بعضهم البعض، بغض
النظر عن خلافات اللون والدين والجنس.
كان
هذا واضحا تماما في فيلمه
“الهافر”
(2011)
الذي
تشترك فيه مجموعة مختلفة الأهواء والمشارب من سكان بلدة فرنسية،
بينهم ضابط شرطة البلدة، في مساندة وتهريب صبي من المهاجرين غير
الشرعيين وإخفائه بعيدا عن عيون السلطات، ومساعدته على عبور المانش
للحاق بأمه على الجانب الآخر.
الفيلم يعتبر أحد أفضل الأفلام الأوروبية التي ظهرت عن المهاجرين
العرب وأكثرها رقة وجمالا وبلاغة
البطل النقيض
لدى
كوريسماكي دائما بطل-
نقيض
anti-hero
يبدو كما لو كان قد برز فجأة من عالم آخر، عالم ينتمي بصوره
وتضاريسه وسلوكياته، إلى الماضي أكثر مما يرتبط بالحاضر، فملامح
الشخصيات والفضاء الذي تتحرك فيه، يجعلانها تبدو كأنها تنتمي إلى
الماضي:
الديكورات البدائية البسيطة، الخلفيات المصممة بألوانها الأولية
التي تبدو مثل ألوان كراسة الرسم عند تلاميذ المدارس، طريقة
الحركة، التجهم الدائم الذي يوحي بجدية مبهمة أو بقسوة غير واضحة
المعالم، الحوار القليل الذي تتبادله الشخصيات والذي يبطن أكثر مما
يظهر، وكأن هذه الشخصيات تتخاطب عبر شيفرة معينة تكفي معها
الإيماءات المقتصدة.
هذا
البطل-اللابطل
هو رجل في منتصف العمر يدعى ويكستروم، ينهض ليرتدي ملابسه الكاملة،
يتطلع إلى صورته في المرآة، يبدو وقد اتخذ قرارا لا رجعة فيه، فهو
يخلع خاتم الزواج من إصبعه ويضعه أمام زوجته مع مفاتيح المنزل، ثم
يغادر معتزما أن يبدأ حياة جديدة.
بائع
القمصان المتجول هذا سيذهب لتسوية وضعه مع شريكه في العمل، ليحصل
على مبلغ ما مقابل التخلي عن ثلاثة آلاف قميص، حصته في الشركة.
هل هو
واهم في قراره هذا، وهل يمكن لشخص في مثل عمره أن يبدأ مشوار
الحياة من جديد، متخلصا من الماضي؟
المشهد
التالي يوضح أن ويكستروم ربما يمتلك خطة ما، فهو يتجه إلى مكان سري
يعرفه، حيث يلتحق بمجموعة من المقامرين يربح أموالهم فيضيف المال
إلى ما معه، ليبدأ مشروعا جديدا، فيشتري مطعما متواضعا يشرف عليه
بنفسه، ليس لديه في المطعم سوى ثلاثة عاملين:
حارس
البوابة، الطاهي، والفتاة التي تقدم الطعام.
على
العكس من الرجل الذي باعه المطعم الذي كان يتهرب من دفع حقوق
العاملين، يلتزم ويكستروم بتعهداته لهم، بل ويدفع لهم مقدما ليضمن
تعاونهم، لكنه قلق، غير راض عن تطور العمل، فيحاول دائما أن يغير
من طبيعة ما يقدمه المطعم من أطعمة، تارة إلى الطعام الياباني
(سوشي)،
وتارة أخرى يجرب الطعام الهندي، وهكذا، مع تغيير ملابس الطاقم حسب
الحالة في كل مرة، ثم يستعين بفرقة موسيقية تعزف أغاني الروك
الشعبي الفنلندي، يستقبل الزبائن بنفسه، ويقوم بالتخلص من القمامة،
ويحرص على منح موظفيه راحة كافية.
ومع
ذلك، يأتي الحدث الأكبر في حياته عندما يصطدم بخالد، المهاجر
السوري الشاب الذي تسلل إلى فنلندا هربا من جحيم الحرب في حلب،
وبعد أن قتل معظم أفراد عائلته، ثم افترق خلال فوضى الانتقال عبر
دول أوروبية عدة، عن شقيقته مريم.
أكي كوريسماكي مخرج إنساني النزعة، تكمن فلسفته في قدرته على تجسيد
شخصيات هامشية تكافح من أجل البقاء بنبل
السلطات الفنلندية ترفض طلب خالد باللجوء وتأمر بترحيله، لكنه ينجح
في الفرار من الحجز، ثم يتعرض خلال هيامه على وجهه في الشارع
لاعتداءات من جانب الجماعات العنصرية الفنلندية، لكنه يجد ملجأ
وعملا ومأوى لدى ويكستروم الذي يصبح بمثابة الأب البديل، بل إنه
يساعده أيضا في استقدام شقيقته وإدخالها سرا إلى البلاد.
يسير
الفيلم في البداية في خطين متوازيين، الخط الذي نتابع فيه ويكستروم
وهو يشق طريقه وحيدا في حياته الجديدة متسلحا بشعار
(ليس
لديّ أصدقاء)..
والخط
الثاني الذي نتابع فيه قصة خالد وعلاقته بالسلطات وما يتعرض له من
اعتداءات، وصداقته مع شاب عراقي لاجئ مثله يزامله الإقامة في مركز
الإيواء، ويساعده بشهامة وتضامن حقيقي.
ومع تشابك الخطين، تتطور علاقة خالد بالعاملين في المطعم، الذين
يتفهمون طبيعة مأزقه الإنساني، ولكن كوريسماكي ليس مشغولا في
أفلامه بالتحليل النفسي للشخصيات، أو بالبحث عن مبررات ودوافع
لسلوكياتهم، فهو يقدمهم كما هم، بطريقة تدهشنا وتجعلنا نتساءل عن
كل ما يخفيه الإنسان في داخله من تناقضات؟
كوميديا المفارقات
خالد
ليس بعيدا تماما عن ويكستروم، فكلاهما وحيد، جاء لكي يبدأ حياة
جديدة منبتة الصلة بماضيه، لكن خالد لا يملك ما لدى ويكستروم من
قدرة على التعامل مع النظام، بل واختراقه أيضا.
ويكستروم يستأجر شابا يجيد تزوير بطاقات الهوية، يدفع له مقابل أن
يستخرج لخالد بطاقة أمام عيون المجموعة داخل المطعم باستخدام جهاز
كمبيوتر شخصي وآلة طباعة صغيرة، ثم يتفق مع سائق شاحنة على أن يأتي
لخالد بشقيقته مريم من بلد آخر ويقوم بتهريبها سرا إلى هلسنكي،
وهذا السائق نفسه يرفض أن يحصل على أجر مقابل هذه الخدمة
الإنسانية، فالأقدار دائما ما تلعب دورها في تحقيق المعجزة
الإنسانية التي ربما تغيب عن الواقع الحقيقي.
وكعادة
كوريسماكي في أفلامه، تنبع الكوميديا من المفارقات التي تقع خلال
الأحداث، ومن خلال غرابة الحوار وطابعه المقتصد، بحيث يبدو كما لو
كان تعليقا شخصيا أو نوعا من
“المونولوغ”
أكثر
مما هو
“ديالوغ”.
ربما
لم يكن كوريسماكي في حاجة إلى تصوير تعقيدات درامية عنيفة في نهاية
فيلمه، لكنه ينهي الفيلم رغم ذلك، بنغمة أمل عندما يستعيد ويكستروم
ثقته في زوجته، بعد أن يكون قد نجح في بناء الثقة مع
“الآخر”.
هذا
أحد أفضل الأفلام الأوروبية التي ظهرت عن المهاجرين العرب وأكثرها
رقة وجمالا وبلاغة، وهو لا يخلو من بعض التعليقات الساخرة التي
تعكس صورة أخرى بعيدة كل البعد عن نمطية صورة المهاجر العربي، صورة
فيها من الإنسانية والرغبة الجادة في العيش الكريم والحصول على عمل
والاندماج في المجتمع دون رفض قيمه وعاداته، مع الاحتفاظ بخصوصيته
الثقافية.
ورغم
الحبكة السينمائية التي تبدو كما لو كانت تدور حول قصة من قصص
الخيال، على خلفية بنايات مرتفعة من الإسمنت والصلب تنتصب وسط
مدينة هلسنكي الخالية المنقبضة، فإن الفيلم لا يخلو من حس إنساني
رفيع، ولا تغيب عنه لمحات واضحة من السخرية القاسية والتهكم
والتعليق الذي ينبع من داخل الشخصيات، كما يتضمن بعض اللقطات
الوثائقية لدمار حلب في معرض تجسيده للتناقض بين الواقع وبين موقف
السلطات الفنلندية التي تخلص في تقريرها، الذي تقرأه الشرطة على
خالد كمبرر لرفض طلبه اللجوء، إلى أن الحالة العامة في حلب لا تمثل
تهديدا على حياة السكان، وأن الأمن قد أصبح مستتبا هناك والأمور
على خير ما يرام.
“الجانب
الآخر من الأمل”
ربما
تنتظره جائزة في برلين قد تكون جائزة الدب الفضي لأحسن إخراج، ولكن
من يدري! |