سرغي دفرتسيفوي المتسابق على الـ"أوسكار":
لا يحمّسني إنجاز فيلم أعلم كلّ شيء عنه قبل التصوير
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
"أيكا"،
دراما قاسية أخرجها الكازاخستاني سرغي دفرتسيفوي، وشهد عرضه العالمي الأول
في مهرجان كانّ السينمائي الأخير ضمن المسابقة الرسمية، حيث فازت الممثّلة
سامال اسلياموفا بجائزة التمثيل. في مطلع هذا الاسبوع، أعنلت أكاديمية فنون
الصورة المتحركة وعلومها دخوله السباق على الـ"أوسكار" في فئة أفضل فيلم
أجنبي. دفرتسيفوي الفائز سابقاً بجائزة "نظرة ما" عن "تولبان"، يحملنا إلى
عمق المعاناة الإنسانية من خلال شخصية مهاجرة تُدعى أيكا (اسلياموفا) تضع
مولودها غير المرغوب فيه في المستشفى ثم تهرب لتعيش سلسلة من المهانات
المتكررة في شتاء موسكو القارس والعنيف.
الطفل ثمرة اغتصاب، لكن قد يكون هذا أقلّ معاناة عندها. لا
تملك أيكا شيئاً سوى كرامتها للبقاء حيّة. يصوّر دفرتسيفوي نزولها إلى
العدم بتفاصيل كثيرة، بأسلوب يذكّر بعض الشيء بالأخوين داردن، الا ان
القسوة أكثر حضوراً وتجسيداً هنا من أي وقت مضى. "أيكا" فيلم عن الألم، كما
يراه سينمائي مرهف يؤمن بسموّ الوجع وبقدرته على رفع الإنسان إلى مرتبة إله
صغير. هنا مقابلة أجرتها "النهار" مع دفرتسيفوي خلال مشاركته في الدورة
الـ٤٠ من مهرجان القاهرة السينمائي.
·
أنت تأتي أساساً من السينما الوثائقية. والفيلم موثّق جداً.
هل كنت تطمح لهذا منذ البداية؟
-
عندما أباشر إنجاز فيلم، لا أفكّر في هذه الأشياء. لا أقول لنفسي "دعني
أنفّذه على هذا النحو كي يبدو وثائقياً". أحاول ان أضع فيه من روحي وحسب.
أحاول ان أضع فيه من إحساسي تجاه الأشياء والحياة. يشغلني أكثر ان أحدد أي
فيلم أنوي إنجازه حول القضيّة المطروحة. وهذا متأتٍّ من طبيعتي كمخرج أفلام
وثائقية. فأنتَ في الوثائقي تتعاطى الواقع الصرف، أي الحياة الحقيقية. وأنا
أحب الحياة وأحب الحقيقة. أفلامي أحياناً تجسيد لهذا الواقع، بمعنى انها
تنطوي على كلّ شيء، على النور والظلام، على الجحيم والجنّة. لهذا السبب،
أميل جداً إلى المفاجأة، إلى تلك اللحظة التي يتعذّر توقّعها، حيث لا نعلم
ماذا سيحصل. لا يحمّسني إنجاز فيلم أعلم كلّ شيء عنه قبل التصوير. لا
يهمّني ان أحوّل السكريبت إلى مجرد صوَر. لا أرتاح إلى مهمة أفلمة الأدب.
السيناريو هو مجرد انطلاقة لي. ثم تطرأ تغييرات كثيرة. أراقب الحياة وأرى
ماذا سيحصل. أكتشف الأشياء خلال التصوير. "أيكا" تغيّر في نسبة ثمانين في
المئة.
·
ذكّرني أسلوبك وتعقّبك لأيكا بكاميرا محمولة بأسلوب الأخوين
داردن. ما رأيك؟
-
لا أعرف كيف يعملان، مع أنني أحبّ أفلامهما كثيراً. عندي يوجد إهتمام أشدّ
بالبيئة، بجوّ المدينة حيث تجري الأحداث، وكذلك بكلّ الشخصيّات الثانوية.
يخيّل إليَّ ان الكاراكتير الرئيسي هو الأهم عند الأخوين داردن. الشخصية
الرئيسية مهمّة عندي أيضاً، فأيكا تقريباً على الشاشة طوال الوقت. هذا
الفيلم كان صعباً، لأن أيكا ليس لديها مَن تصارحه أو تتواصل وإياه. هي
صامتة طوال الوقت، محاطة بالثلوج. كان صعباً جداً تشكيل ملامحها، وخصوصاً
انه لا يوجد شرح. شكّل هذا تحديّاً عندي. كيف أخلقها من دون اللجوء إلى
احتمالات عدّة؟ لم يكن لديّ سوى الثلج والحركة والقليل من الكلام، هذا كلّ
شيء.
·
موسكو المغطاة بالثلوج تكاد تكون شخصية منفصلة؛ شخصية كاملة
متكاملة.
-
هذا ما فعلته أيضاً في فيلمي السابق "تولبان": إستخدام الطبيعة والمساحات
كجزء من التكوين الدراماتورجي. هذا مهمّ في نظري. لأننا جميعاً نعيش طوال
الوقت متصلين بالطبيعة، حتى وإن عشنا في متروبول. طبعاً هذا الشعور يزداد
في الريف. ولكن حتى في المدن الكبرى، الطبيعة تترك أثرها في البشر. الطبيعة
جزء أساسي من "أيكا". هي التي تجعل أيكا أمّاً، وهي التي تتيح لها إطعام
طفلها. كما ان العاصفة الثلجية التي تهبّ على المدينة لها يد في جعل
الأشياء والناس يتصّلون بعضهم ببعض.
·
ثمة مَشاهد قاسية جداً تصعب مشاهدتها. هل قصدتَ ذلك؟
-
تماماً. كيف لي ان أحكي قصّة عبثية كهذه وأنا ألبس الكفوف. ما نشاهده هو
خمسة أيام بعد وضع أمّ لمولودها. كلّ شيء في حال من الجنون. الزمن يتّسم
بقسوة رهيبة. عندما تقرر تصوير شيء كهذا، لا يُمكن فعله بهدف الترفيه. عليك
ان تكون جدياً. الموضوع جديّ والأسلوب جديّ. الموضوع متطرف، على الفيلم ان
يكون كذلك. حتى أنني أؤمن بأنه يجب الحديث عن الموضوع بجديّة، والا عدم
الحديث عنه بتاتاً. لم أُرِد فيلماً لطيفاً لجمهور لطيف. علينا ان نقوم
بعمل جديّ يرتقي إلى جديّة الأدب.
·
هل كنت مدركاً لفخّ الوقوع في استعراض البؤس الشنيع الذي
كان يمكن ان تقع فيه؟
-
بالنسبة لي، هذا فيلم بسيكولوجي عن المعدومين. لم أُرِد إظهار الفقر المدقع
الذي يعيشون فيه. وددتُ تصوير هؤلاء البشر الذين يأتون إلى روسيا بطرق غير
شرعية. حتى لو توفرت لديهم أوراق، فهي مزورة. هذا فيلم عن الإنسان، عن
طبيعة البشر، عن الأمومة وعن الطبيعة التي تفرض على الإنسان ان يبادر إلى
فعل الصواب. كان على أيكا ان تكون أمّا والطبيعة جعلتها أمّاً.
·
يقال إنك صوّرتَ على مدى ستّ سنوات…
-
نعم. طبعاً مع توقّف امتد لأشهر أحياناً. لكن إنتاج الفيلم تطلّب كلّ هذا
الوقت. صوّرنا ساعات كثيرة لم نستعملها، ولكن يمكنني ان أنجز أفلاماً عدة
استناداً إلى المادة التي عندي. اذاً، كما قلت، الضغط المادي أشد وطأة. لا
يمكن ان تتفاوض معه، فهذا مستحيل. يسألك المنتج: "هل تريد تصوير المزيد؟
افعله على نفقتك الخاصة. أو انه الفيلم هنا". التفاهم مع السياسيين أسهل.
المال لا يفهم!
·
كيف اخترتَ الممثّلة سامال اسلياموفا؟
-
من مئة ممثّلة عاينتهن، إثنتان فقط كانا قادرتين على أداء هذه الشخصية.
أيكا أكثر من مجرد دور. كان عليها ان تتماهى مع ظروف حياة المهاجرين. ليس
من السهل إيجاد ممثّلة قادرة على هذا. طبعاً، هي حملت معها كلّ ماضيها
وتجربتها الشخصية ومخزونها الثقافي لتحوّل التمثيل إلى "قطعة فنية".
·
هل تطلّب التصوير استعدادات طويلة؟
-
دعني أقول لك كيف أستعد للتصوير. أضع الجميع في مكان واحد وأجعلهم يعيشون
معاً تحت سقف واحد. سامال عاشت مع مهاجرين، المهاجرين أنفسهم الذين تراهم
في الفيلم. واستمر هذا لأشهر عديدة.
·
في روسيا حيث تعمل، ثمة موجة أفلام وطنية في الآونة
الأخيرة. "أيكا" بعيد جداً من هذه الموجة. كيف تقاربه السلطات؟
-
السينما الروسية غير التجارية في أزمة كبيرة حالياً. الصناعة السينمائية
تأسست على قياس الأفلام الرخيصة. وعلى رغم ان موسكو مدينة ضخمة تجمع أذكياء
ومثقفين كثراً، يصعب جداً عرض "أيكا"فيها. ليس فقط لأسباب سياسية، بل لأن
الناس لا يريدون سوى الترفيه. يفضّلون مشاهدة أفلام كوميدية. لا يريدون
رؤية الألم، ألم الناس الذين يعيشون حياة قاسية. الروس، كأي مكان آخر في
العالم، باتوا يستهلكون المتعة. طبعاً، لا يزال هناك مَن يريد ان يشاهد مثل
هذه الأعمال، ولكن تنقصنا البنية، من صالات إلى نقّاد، كل ما يُعرف
بالـ"سيستام"، اذ تم تدميره كلياً بعد سقوط الإتحاد السوفياتي.
·
أيجوز اطلاق صفة "بوتينية" على السينما الروسية الحالية؟
-
في الحقيقة، لدينا الآن في روسيا الكثير من المال لتخصيصه للأفلام. وزارة
الثقافة تعطي مبالغ كبيرة. لدينا مصدران للتمويل: وزارة الثقافة وصناديق
الدعم. الوزارة تموّل سينما المؤلف، فيما تكتفي الصناديق بتمويل الأفلام
التجارية الكبيرة. طبعاً، توجد بعض المحظورات السياسية، ولكن لم يتعرض لي
أحد وأنا أنجز "أيكا". كلّ شيء كان على ما يرام. لم يقل لي أحد عليّ ان
أفعل هذا الأمر ولا أفعل ذاك. فعلتُ ما أريد، بلا أي تدخّل من جهة. قرأوا
السيناريو وتركوني وشأني. قد تكون تجربة الآخرين مختلفة. في الحقيقة، نشعر
بضغط جراء المال أكثر بكثير من ضغط السلطة.
·
ولكن في روسيا اليوم، هناك أكثر من مخرج في السجن…
-
نعم، سربرينيكوف. أجد هذا الوضع محزناً بالتأكيد. لكننا نعيش في زمن اختلطت
فيه الأوراق، فلم يعد ممكناً فصل خيط الحقيقة عن خيط الكذب. ماذا حدث؟ ما
السبب خلف اعتقال سربرينيكوف؟ أشعر بأسى؛ الزجّ بمخرج في السجن عمل مُدان.
لا أعتقد انه مجرم.
·
ماذا عن تجربتك في مهرجان كانّ؟
-
مهرجان كانّ بوّابة. اذا نجحتَ في عبورها، يذهب الفيلم إلى كلّ مكان. أعتقد
ان أي مخرج يستطيع ان ينجز فيلماً ويشارك في كانّ. الأمر يتوقف فقط على
المستوى الفني. لا أعتقد ان هناك أحداً ينجز فيلماً جيداً ولا يأخده كانّ
لسبب ما.
·
هل افتُتِحت عروض الفيلم في روسيا؟
-
ليس بعد. الشهر المقبل (كانون الأول). أنتظر بشغف لمعرفة كيف ستستقبله
السلطات، وكيف سيستقبله الناس. أريد لهذا الفيلم ان يكون مؤثراً لتغيير وضع
المهاجرين واعطائهم المزيد من الحقوق المدنية. |