"ليلة
الاثني عشر عاما": فيلم "الهرم الذهبي" في القاهرة السينمائي
أمير العمري
موضوع الفيلم مستمد من قصة حقيقية عاشها ثلاثة من مناضلي
حركة التوباماروس اليسارية، وهو يروي أنشودة الصمود في وجه الدكتاتورية
العسكرية.
"ليلة
الاثني عشر عاما” هو الفيلم الفائز بالهرم الذهبي، أي الجائزة الكبرى لأفضل
فيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الـ40، وهو أيضا
الفيلم المرشح رسميا من قبل الأوروغواي لتمثيلها في مسابقة الأوسكار في فرع
أفضل فيلم أجنبي.
لعل أكثر ما يلفت النظر في فيلم “ليلة الاثني عشر عاما”
A twelve Year Night،
وهو العمل الروائي الثالث لمخرجه ألفارو بريخنر (42 عاما) من أوروغواي،
ويجعله أيضا عملا فريدا يكتسب كل هذه الجاذبية ويحظى بالتقدير، أسلوب مخرجه
السينمائي، الذي يكسب موضوعه وهو ليس جديدا تماما، جاذبية وتأثيرا خاصا.
والمقصود بالأسلوب السينمائي: سياق السرد، أي طريقة بناء
السيناريو، وأسلوب الإخراج (استخدام عناصر السينما الأساسية: التصوير
والمونتاج والموسيقى والديكور.. وغيرها) للتعبير عن الأفكار الأساسية في
الموضوع: فكرة قهر العزيمة الإنسانية وكسر الإرادة ودفع الأسير أو السجين
إلى الجنون، والتعامل معه في محبسه وكأنه قد أصبح فأر تجارب.
“نحن
لن نقتلكم لكننا سندفعكم إلى الجنون.. من الآن فصاعدا، أنتم لم تعودوا
سجناء، بل أسرى نفعل بكم ما نشاء”، هذا ما يقوله الضابط المسؤول عن اعتقال
الأبطال الثلاثة – الذين لم يعودوا أبطالا – بهدف إذلالهم ووضعهم تحت أقسى
ما يمكن تخيله من ظروف التعذيب والقهر، وتذكيرهم الدائم بأنهم “خسروا
الحرب” التي خاضوها ضد النظام الدكتاتوري.
عن الموضوع
كان يمكن أن يتحول موضوع القهر والاعتقال السياسي بين يدي
مخرج آخر إلى فيلم عن الحياة داخل السجن، وكيف يتعامل “قطيع” السجناء مع
الحراس ومع بعضهم البعض وما يتعرضون له من تعذيب مباشر، أما هنا فقد شاء
مخرجه ومؤلفه أن يتعامل مع الموضوع من زاوية أخرى، فوضع العقل أمام القوة،
والعزيمة أمام القهر، والداخل العميق الذي لا يمكن لأي قوة في الأرض
اختراقه، أي داخل الإنسان وما يحتويه من أفكار وأحلام ورغبات وأماني، أمام
رغبة همجية في كسر الإنسان وتحويله إلى حيوان فاقد للذاكرة والتاريخ، حتى
يصبح تفكيره بالكامل، منصبا على الحاضر الشاق المعذب الممتد الذي يقولون له
إنه سيكون أيضا هو المستقبل، أي من دون أدنى أمل في النجاة.
كيف يمكن للإنسان أن يقهر مصيره الذي فرضه عليه عدوه؟ كيف
يمكن للماضي، وللتاريخ الشخصي أن يدعم الحاضر ويدفع صاحبه إلى الصمود
والتمسك بالأمل مهما كان ضئيلا، إلى حين أن ينبلج النهار؟
وسط هذه الأفكار كان لا بد أن يصبح مسار السرد في الفيلم
متعرجا، متشعبا، متدفقا، ينتقل بين الماضي والحاضر، من خلال نسيج شعري يربط
بين الوعي والخيال، وبين الحلم والرغبة، وبين الخروج بالذهن والبصيرة
والروح خارج جدران الزنازين الضيقة الصلدة الجامدة، إلى العالم الفسيح
باللجوء إلى الخيال، أقصى الخيال، ومن دون أن يفقد المرء علاقته بتاريخه
الشخصي: أسرته ونضاله ورفاقه.
الموضوع مستمد من القصة الحقيقية أو بالأحرى من تجربة السجن
التي عاشها ثلاثة من مناضلي حركة التوباماروس اليسارية التي انغمست في
السبعينات في حرب عصابات ضد الحكومة العسكرية في أوروغواي، بعد أن شن
النظام الذي أقام دكتاتورية عسكرية استمرت من 1973 إلى 1985، حملات عنيفة
لتصفية عناصر التوباماروس، بالقتل مع الاحتفاظ بعدد صغير للغاية من السجناء
لا يزيد عن تسعة أشخاص، يروي الفيلم قصة ثلاثة منهم، ولكن ليس مهما أن يحفظ
المشاهد العربي أسماء الشبان الثلاثة، فهي قد لا تعني شيئا، لكن المؤكد أن
شخصيات الشبان الثلاثة في تباينها وملامحها المحددة، ستبقى في ذاكرة من
يشاهد الفيلم.
يوضع الشبان الثلاثة في زنازين فردية مصمتة الجدران، يحجبون
عنهم الضوء ويحظرون عليهم الحديث، يلقون إليهم بأقل القليل من الطعام،
يحرمونهم من النوم، يواصلون نقلهم باستمرار من معتقل إلى آخر، ويقال إنهم
انتقلوا بين 40 معتقلا خلال الاثني عشر عاما التي قضوها في الحبس، حيث
تعرضوا للتعذيب والإهانة والتنكيل والإذلال، فقط بغرض جعلهم نماذج لقدرة
الإنسان المتحكم، على تدمير الإنسان المختلف.
إرهاب ثوري
ليس من الممكن اعتبار هذا الفيلم أحد الأفلام السياسية، رغم
الخلفية السياسية التي تلقي بثقلها على موضوعه، أي أنه ليس من أفلام الهجاء
السياسي كما أنه لا يقسم البشر طبقا لمواقفهم السياسية، فلا شك أن الشباب
الثلاثة كما يصور الفيلم بوضوح، قد مارسوا العنف أو ما كان يُطلق عليه –
يساريا في أميركا اللاتينية – “الإرهاب الثوري”، كما أن أحدهم وهو خوزيه
موخيكا (أو بيبيه)، يقر ويعترف بما ارتكبه، ويعترف بأنه قد أخطأ وقد دفع
ثمن خطأه وكفى، إلاّ أن الانتماء السياسي ليس هو الأساس في سياق الفيلم، بل
تلك القسوة والرغبة في تدمير الإنسان من جهة، أمام التشبث بالصمود في وجه
آلة التدمير القاسية الشرسة من جهة أخرى.
إنهم يحظرون عليهم تبادل الحديث مع بعضهم البعض عبر
الجدران، لكن الشباب الثلاثة يبتكرون وسيلة للتواصل من خلال النقر على
الجدران بحيث ينجحون في خلق “لغة” جديدة أو شيفرة للتخاطب ليس بوسع الحراس
إدراكها.
يحرمونهم من رؤية ذويهم، فيلجؤون إلى الخيال: يتحدثون إلى
أحبائهم وأبنائهم وزوجاتهم وآبائهم ويستمعون إلى أصواتهم، ويرون صورهم
ويقضون معهم أوقاتا سعيدة خارج الجدران.. في الخيال، فقد أصبح الخيال بديلا
عن الواقع، وهنا يصبح الانتقال في الصور من خلال المونتاج، إما على شكل
شذرات ونثرات سريعة تعبر الذهن سريعا، وإما على شكل مشاهد كاملة أكثر وضوحا
وتفصيلا واكتمالا لمشاهد الاستجواب والتعذيب والمطاردة والترقب والاستهداف
المتعمد بالقتل لأعضاء التوباماروس، هذه اللقطات التي تتداعى من الذاكرة
وفي الخيال، تخلق صورا مخيفة تصل أحيانا إلى السريالية.
فيلم "ليلة الاثني عشر عاما" مرشح رسميا من قبل الأوروغواي
لتمثيلها في مسابقة الأوسكار في فرع أفضل فيلم أجنبي
وفي أحد المشاهد تهاجم قوة عسكرية مسلحة منزلا يختبئ فيه
قادة الجماعة، تخرج امرأة.. صاحبة المنزل على ما يبدو، تفاجأ بوجود قوة
ضخمة تصوب بنادقها تجاه المنزل، ونحو الطابق العلوي السري الذي يعلو غرفة
الحمام حيث يختبئ اثنان من النشطاء.
تتطلع المرأة مشدوهة، لقد أدركت المذبحة التي توشك على
الوقوع، وفجأة ينهال الرصاص يزق جسدها دون سابق إنذار، ودون أن تكون قد
فعلت شيئا، ويستمر إطلاق الرصاص بشكل عشوائي.. وتخترق الرصاصات واجهة
المنزل، وفي الداخل يفقد أحد النشطاء حياته ثم زميل آخر له دون أي رغبة من
جانب الضابط الكولونيل إيرماندو أكوستا في القبض عليهما فقد جاء ليقتل.
وفي المخزن السري أعلى المنزل يقبض بيبيه على بندقيته، إنه
يستطيع إطلاق الرصاص على الجنود، لكنه يدرك أن المعركة ستكون غير متكافئة
وأن نتيجتها محسومة سلفا، لقد أصيب في القصف العشوائي، ذراعه تنزف الدم
بغزارة، وجندي يدخل إلى الحمام ليغتسل، تتساقط قطرات الدماء من ذراع صاحبنا
المصاب، تخترق أرضية المخبأ الهشة.. يسقط الدم على يد الجندي، يتطلع إلى
أعلى، يدفع ببندقيته قطاعا متحركا من السقف الهش، يكتشف وجود الرجلين، يذهب
ويحضر قائده، يصرخ بيبيه طلبا للاستسلام.
وفي اللحظة التي يكاد يفقد حياته بعد أن يستعد القائد
لإطلاق النار يظهر وكيل النائب العام الذي يوقف القتل ويأمر بالقبض على
الرجلين، “كان يوما لا يمكن لأحدنا أن ينساه”، هذا ما يقوله بيبيه للضابط
في ما بعد قبل أن يستعيد في ذاكرته المشهد الذي وقع فيما يعتبر أكثر الأيام
دموية، في الرابع عشر من أبريل 1972، كان ذلك يوم إعلان النهاية بالنسبة
لحركة التمرد.
تفتيت الحدث
ما الذي دفع السلطة العسكرية إلى الإبقاء على حياة سبعة من
الثوار بينهم أبطالنا الثلاثة (أو تسعة أشخاص حسب المعلومات الموثقة
المنشورة عما وقع في ذلك اليوم)؟ لقد أرادوا في ما يبدو، أن يجعلوا منهم
عبرة لغيرهم، وقد تم تسخير النيابة العسكرية والقضاء، بل وحتى الصليب
الأحمر للرضوخ لتعليمات الحكم العسكري، فرفضوا مجرد الاستماع للسجناء. لكن
السجناء يصرخون في الخيال بما تعرضوا له، وهو أسلوب تفتيت الحدث ونقله إلى
مستوى آخر بالصورة والصوت، في ابتكار فني مشوق ومقنع ويثري الفيلم كبناء
ويوصل المعنى دون انتهاج أسلوب الحكي المباشر الذي أصبح آفة الفيلم السياسي
أو “فيلم الرسالة”.
يأتي حراس السجن فجأة، يضعون مكاتب ورفوف كتب وطعام وأدوات
حديثة داخل الزنازين ويقودون السجناء الثلاثة بعد تغطية رؤوسهم كالعادة
بقلنسوات تحجب الرؤية تماما، لمقابلة ممثلي الصليب الأحمر، مع تهديد
بالعقاب الصارم إذا نطقوا بما لا تحمد عقباه.
وفي مشهد لا ينسى يقف بيبيه أمام المحققين، يصرخ بالحقيقة،
لكنه يتخيل فقط في مشهد آخر متخيل، وبعد أن تنتهي زيارة أمه له ويستولي
الجنود على الطعام الذي أتت به معها، يصرخ من شباك الزنزانة في الجمع
العسكري المحتشد في الميدان خارج أسوار المعتقل يحتفل بذكرى مرور 168 عاما
على تحرير البلاد من الاستعمار الإسباني، يصرخ ويكرر الصراخ ويهدد بفضح
خيانة الضابط لزوجته ويحذر زملاءه من إصابة الضابط بمرض الزهري.. إنه يريد
شيئا واحدا فقط: استعادة الطعام اللذيذ الذي يحبه والذي أتت به والدته
واستولى عليه الجنود وأخذوا يلتهمونه أمام عينيه!
كيف عرف أن الضابط يخون زوجته، لا بد أنه يتنصت من وراء
الجدران، لا بد أن داخل دماغه جهازا غامضا للتسجيل، هذا ما يعتقده الضابط
فيأمر بتفتيشه فينكلون به ثم ينقلونه لفحصه والعثور على ما يوجد داخل رأسه،
لكننا ننتقل من الخيال السريالي إلى الواقع، فنشاهده وهو يشكو للطبيبة
النفسية من الصداع ومن سماع صوت صفير مستمر داخل رأسه، تهمس له الطبيبة
التي تتعاطف معه: إنهم يريدون دفعك إلى الجنون، لا أحد سيأخذ منك ما تخبئه
في رأسك، عليك أن تتمسك بأي شيء تحبه لكي تنجو.
قهر المحنة
تتعاقب السنون.. تظهر التواريخ على الشاشة، مصحوبة بعدد
الأيام التي مرت على اعتقال الشباب الثلاثة، لكن الضباط في السجن يصبحون
سجناء بدورهم، أسرى لضعفهم وقلة حيلتهم وتخاذلهم.. عاجزين عن إقامة علاقات
سوية في الخارج.
ويلجأ أحدهم إلى “روسينكوف” الكاتب والشاعر السجين لكي يكتب
له خطابات للمرأة التي يحبها ويرغب فيها، لكنه لا يستطيع أن يصارحه.. إنه
يعلمه التعبير عن المشاعر بالكلمات، ومقابل ذلك يتمكن من الحصول على بعض
المزايا الخاصة جدا: أوراق وقلم.
لدينا إذن الكاتب الموهوب الذي سيخرج مع زميليه بعد أن
تنتصر الديمقراطية في 1985، لكي يصبح كاتبا وشاعرا وروائيا مرموقا، ولدينا
الشاب الذي كان لاعبا شهيرا للكرة، وأصبح بعد خروجه عضوا في البرلمان ثم
وزيرا للدفاع، ولدينا بيبيه أو خوزيه موخيكا، الذي سيصبح رئيسا للجمهورية
في 2010، وكلها معلومات تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم، لا تضيف كثيرا
سوى أنها تؤكد للمشاهد أن أبطالنا الثلاثة استطاعوا قهر محنتهم الطويلة.
والفيلم مزيج من الواقعية الرومانسية، مع لمسات تأثيرية
تصطبغ أحيانا بالسريالية، وجميع عناصر الفيلم متوازنة: اختيار أماكن
التصوير ومعظمها سجون ومعتقلات حقيقية، الكاميرا التي تتخذ وجهات نظر شخصية
للتطلع من خلال عيون السجناء الثلاثة، تهتز حينا للتعبير عما يشعرون به من
اضطراب وتشوش، أو تتحرك في نعومة ورقة مع تدفق الذكريات التي تحتل فيها
الأسرة والأبناء والحبيبة والزوجة موقعا أساسيا.
تنتقل الكاميرا من اللقطات القريبة للأجساد والوجوه: حدقات
العيون، ارتعاشات الأيدي، ضمور الأجساد.. إلى اللقطات البعيدة الناعمة مع
الموسيقى التي تأتي تارة من المذياع أو من الذاكرة والخيال على مشاهد
متخيلة وسط الطبيعة، بينما ضوء شمس يسطع، وحقول خضراء يتمرغ فوق ترابها
الناعم أبطالنا، ثم إلى تلك الأغنية البديعة قرب النهاية مع الخروج إلى
الحرية.
يقول المخرج إن فيلمه ليس عن المعتقل، بل عن “معجزة أن تكون
إنسانا”، وقد نجح في التعبير عن هذا بأكثر العناصر بلاغة.
المخرج ألفارو بريخنر يقول إن فيلمه "ليلة الاثني عشر عاما"
ليس عن المعتقل، بل عن"معجزة أن تكون إنسانا"، وقد نجح في التعبير عن هذا
بأكثر العناصر بلاغة
كاتب
وناقد سينمائي مصري |