كل شىء مغموس بالسياسة، لا يمكن أن تعثر على موقف
مجانى، الفنان السورى داخل الوطن لا يملك سوى أن يعلن الولاء
المطلق حتى يضمن مواصلة العمل تحت مظلة الأجهزة الفنية والثقافية
التى يملكها ويسيطر عليها بشار ورجاله، فلا أحد يجرؤ سوى أن يقول
نعم للسلطة.
الفنان الذى يريد أن يعمل، يعلو صوته بالهتاف
دائمًا لبشار، الأمر ليس فقط وليد زمن الثورة السورية، ولكن هناك
فنانا قريبا من السلطة يقدم ما تريده الدولة، بتوجيه مباشر أو غير
مباشر، من زمن حافظ إلى زمن بشار، والقاعدة لم تتغير.
فى الماضى صعد اسم عبداللطيف عبدالحميد، كان هو
المخرج الأكثر حضورًا على الخريطة الرسمية للنظام، فهو المنوط به
أن يحمل الرسالة التى تريدها السلطة بكل أبعادها، سياسية كانت أم
اجتماعية، مؤسسة السينما هى الجهة المنوط بها الإنتاج، وذلك فى زمن
لا يجد القطاع الخاص مساحة للتنفس، وفى المرات القليلة التى يحدث
فيها ذلك يقدم القطاع الخاص بالضبط ما تريده الدولة، ظل عبداللطيف
هو المخرج الأول الذى يحظى بتلك المكانة الاستثنائية، إلا أنهم فى
السنوات الأخيرة توجهوا إلى جيل الشباب وعنوانه الآن فى المخرج جود
سعيد.
وعلى الجانب الآخر، هناك معادلات أخرى خارج الحدود،
تعبر عن موقف مغاير يناصر الحرية مثل فيلم (إلى سما) للمخرجة
السورية وعد الخطيب والمخرج إدوارد واتس، والذى سبق انطلاقه، فى
العروض الخاصة لمهرجان (كان)، مايو الماضى، واستقطبه مهرجان
(قرطاج) هذه الدورة، سمحت إدارة المهرجان التابع للدولة بوجهتى
النظر الموالاة والمعارضة، وهو الحل الأمثل الذى ينبغى أن تنحاز
إليه المهرجانات، لدينا فى مصر مثلا مهرجان (الإسكندرية)، صار لا
يعترف سوى بالفنانين الموالين لبشار والتكريمات دائما لهم والجوائز
لا تخلو أيضا من هؤلاء الهاتفين باسم بشار، بينما الآخرون
مستبعدون.
جود سعيد فى العام الماضى عرض (مسافرو الحرب)،
وقبلها (مطر حمص)، وهذا العام جاء مع (نجمة الصبح) فى مسابقة
الأفلام الروائية الطويلة، الفيلم لا يقدم خطابًا مباشرًا، ولكنه
يعبر عن الوجه السافر للحرب، والتى أدت إلى تفسخ حتى الأشقاء
والجنوح إلى التطرف والقتل والدمار، جود سعيد دائما على الشاشة
تحركه التناقضات بين الدمعة والابتسامة، الحياة والموت، الحب
والكراهية، إنه فيلم لا يستند مباشرة إلى وقائع موثقة، ولكنه يرسم
ظلالاً لمعارك بين القوات النظامية والمتطرفين.
على الجانب الآخر يأتى (إلى سما)، والذى ينافس فى
مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، المخرجة وعد الخطيب كانت واعية
ومدركة أن تلك اللحظات من عمرها، والتى عاشتها مدينة (حلب) تحت
الحصار فى أعقاب الثورة السورية، لن تُصبح لقطات عابرة فى الحياة،
سترسم مسار ملامحها وتفاصيل مصيرها، وهكذا وثقت بالكاميرا الثورة
بعيون الطفلة التى ولدت على أصوات المدافع وأزيز الطائرات الروسية
(سخوى)، حيث الضربات العشوائية لتى انهالت على رؤوس الجميع.
هذا الفيلم وصل للذروة بدرجة التماهى التى حققها مع
الجمهور، ولأنه قائم على تجسيد كل تفاصيل الحياة وما جرى فى حلب
السورية من قتل ودمار وتشريد.
اللقطة المسجلة كانت وستظل هى السلاح الأهم الذى لا
يستطيع أحد تجاهله أو التشكيك فى مصداقيته، وثقتها كحد أدنى كاميرا
الموبايل بالآلاف من اللقطات ومن مختلف الزوايا، ولهذا صار
استعادتها من الأرشيف وبثها للحياة، كانت ولا تزال من الأفكار
القادرة على مخاطبة الوجدان.
قطعًا المدن السورية تعرضت للحرب أو شهدت ميلاد
الثورة وأيضا موتها، الشرارة بدأت فى (درعا)، ولكن محافظة (حلب) لم
تكن بعيدة أبدا عن الثورة، ولا عن محاولة أيضا قمعها والكاميرا
كانت جاهزة تلتقط وتوثق.
(سما) تلك الطفلة التى ولدت عام 2012 بينما تعيش
البلد فى أسوأ أيامها، حيث الدمار والقتل العشوائى والدفن الجماعى.
ثلاثية الحب والزواج والإنجاب، جمعت بين المرأة
والرجل فى عز الدمار والدموية، وجاءت بعدها بعام واحد (سما) لتعيش
طفولة بائسة، تسأل الأم دائما هل أخطأت عندما قررت إنجابها فى هذا
التوقيت؟ الأسرة تؤدى واجبها تجاه الجميع، لأن الزوج يعمل طبيبا،
فى مستشفى بلا إمكانيات، بينما الدماء لا تتوقف عن النزيف، الدماء
التى أريقت على الأرض والأجساد التى وارت التراب تبقى فى الذاكرة
محفوظة ولا يجرؤ أحد على اغتيال الحقيقة، الثورة السورية بدأت وهى
لا تحلم سوى بالحرية، ولكن جاء عنف النظام بضراوة، وكانت الضربات
العشوائية تنهال على البسطاء الذين كانوا يهتفون فقط للحرية،
ومزقوا صور وتماثيل بشار وأبيه حافظ، فدفعوا الثمن، ولا يزالون.
شاهدنا العديد من اللقطات التى أكدت أن الرغبة فى
الحياة تمتلك أسلحة لمواجهة الموت، طفل بين الحياة والموت بكل
التفاصيل نراه وتتعلق أنفاسنا بأول شهقة له فى الدنيا.
مخرجة الفيلم وزوجها الطبيب يعيشان فى حلب الحلم
والذكرى، قبل عامين شدت الأسرة الرحال خارج الحدود، واصطحبت معها
تلك التسجيلات ووثقتها فى فيلم، ليصبح شاهد إثبات على كل ما جرى.
لم تعد أوروبا سياسيًا تتبنى هذا الرأى الذى يضع
تنحى بشار مقابل بداية الحل، وأغلب الدول العربية تنازلت أيضا
طواعية عن هذا الشرط المسبق.
هناك توافق شبه عربى، حتى لو اختلف فى التفاصيل،
على القفز فوق تلك النقطة الشائكة، إلا أن الفنان يعيش الحلم ولا
يعنيه فى كثير أو قليل تغير المعادلات على الأرض.
(نجمة الصبح) يعبر عن الدولة والموالاة، و(إلى سما)
لسان حال الحرية والمعارضة، ومهرجان (قرطاج) ترك الكرة فى ملعب
الجمهور.
tarekelshinnawi@yahoo.com |