يفتح المخرج المصري شريف عرفة باب التأويلات والنقاش على مصراعيه، عندما
يقول إن أفلامه تُصنع للجمهور أولاً وليس للمهرجانات.
المخرج الأكثر نجاحاً بين أترابه بالنسبة لعائدات أفلامه (وآخرها «الجزيرة
2») كان وقف على منصة المهرجان في يوم الافتتاح لكي يقبل جائزة تكريمية عن
تاريخه السينمائي الذي يشمل، لجانب الإخراج، الكتابة والإنتاج.
هو بلا ريب مخرج يعرف أدواته جيداً، ولديه ثقافة الصورة، وعلى علم بكل
العناصر التي تؤدي إلى نجاح فيلم ما بين الجمهور، على ذلك ليس هناك جديد
بالنسبة لهذا القول؛ فقد سبقه إليه كثيرون ممن لم يؤمنوا بأن هناك أكثر من
فئة جماهيرية بينها فئة الجمهور السائد، وأن المسألة - بالتالي - ليست وجهة
الفيلم صوب الجمهور وليس صوب المهرجانات وجمهوره ونقاده وجوائزه، هي مسألة
نسبية. كم من أفلام المهرجانات سقطت فناً وتجارة، وكم من الأفلام
الجماهيرية سقطت على الرغم من أنها حفلت بكل ما يستفز المشاهد لحضورها.
شريف عرفة، في دراسة موجزة لما حققه من أفلام منذ عام 1987 انطلق جاداً
بأول (وآخر) فيلم من بطولة أقزام («الأقزام قادمون»)، الذي أصاب هدفه بين
النقاد ولم ينجز نجاحاً جماهيرياً. كذلك فعل فيلمه التالي «الدرجة الثالثة»
(1988)، وأنجز إقبالاً أفضل في فيلميه المتواليين «يا مهلبية يا» و«سمع هس»
كلاهما من إنتاج 1991، وهو العام ذاته الذي سجل فيه انقلاباً على ما سبق من
طموحات فاستبدل الفيلم الذي يحمل طرحاً إنسانياً واجتماعياً ما (ضمن إطار
درامي - عاطفي في أكثر من فيلم) في السينما، التي استمر عليها حتى اليوم،
وهي تلك التي تلبّي رغبة القطاع الأعرض من الناس، وذلك بدءاً بفيلم ثالث في
العام ذاته وهو «اللعب مع الكبار».
والنجاح سريعاً ما واكبه في «الإرهاب والكباب» سنة 1992. كلاهما («اللعب مع
الكبار» و«الإرهاب والكباب») كانا من بطولة عادل إمام (نجم نجوم الفترة)
وكذلك «المنسي» (1993)، و«طيور الظلام» (1995)، و«النوم في العسل»
(1996).
ساند كل من المخرج عرفة والممثل إمام الآخر. عادل إمام كان يبحث عن مواضيع
قريبة في أفلام منجزة جيداً، وشريف عرفة كان في سبيل تحقيق المزيد من
النجاح، وعادل إمام كان بمثابة تذكرة إلى هذا النجاح.
واصل شريف عرفة أعماله بعيداً عن مدار النقاد والمهرجانات وأصبح ما هو عليه
حالياً من مكانة جماهيرية عبر أفلام منحته هذه الشعبية، ومنها «مافيا»
(2002)، و«الجزيرة» (2007)، و«ولاد العم» (2009)، و«إكس لارج» (2011)،
و«الجزيرة 2» (2012)، الذي يعرضه مهرجان القاهرة في سياق احتفائه بالمخرج.
سيد حرفته
موقف شريف عرفة مفهوم، ولو اختلفنا عليه، لكن كمّ المهرجانات وقيمة الجوائز
الممنوحة في المهرجانات الكبرى بينها لا يمكن الاستهانة بها أو بالجمهور
الباحث عنها. والسائد حالياً، أن الفيلم الطارح لمسائل إنسانية (كما الحال
فيما سيرد هنا) تحتاج إلى المهرجانات لكي تُعرض وتُدهش وتكشف عما لا تتطرق
إليه الأفلام السائدة.
أحد أهم وأفضل ما هو معروض فيلم ترنس مالك «حياة مخفية»
(A Hidden Life)،
وجمالية هذا الفيلم تكاد تلغي - بقرار من المخرج أساساً - كل الحاجة للنظر
إلى مسألة الجمهور السائد على أساس أنها عصب حياة المخرجين.
يحتوي «حياة مخفية» (المعروض خارج المسابقة في هذه الدورة من مهرجان
القاهرة السينمائي الدولي) على حكاية ذلك الفلاح النمساوي فرانز (أوغست
ديل)، الذي رفض الإذعان للمؤسسة العسكرية خلال الاحتلال النازي لألمانيا
كما رفض القتال والتأييد، وحصد في مقابل ذلك السجن والضرب والإهانة ثم
الإعدام. كل هذا بسبب مبادئه الرافضة التي لم يشأ الحياد عنها.
هو فيلم مأخوذ عن أحداث واقعية في الأربعينات، ويختلف إلى حد لافت عن أعمال
مالك السابقة. هنا لا يترك مالك الكاميرا (لجورج ويدمر) تمضي على هواها كما
يفعل في أفلامه الأخرى. لا يدع الكاميرا تغادر ممثله وهو يؤدي حواره وحركته
لتلتقطه لاحقاً في مكان آخر بعد أن تجوب مناظر أخرى كما يفعل عادة. في حين
أن هذا الانكفاء عن أسلوبه في «شجرة الحياة» و«إلى العجب» وسواهما ضروري
لأنه يعمد لسرد حكاية محددة، فإن التمازج الناتج ليس مريحاً على نحو دائم،
بل يبقى معترضاً بعضه بعضاً في أحيان.
على ذلك؛ لا مجال للشك في أن مالك لا يزال سيد حرفته، وأن أفلامه لا تُصنع
بقرارات سواه، وأنه يمنح الفيلم عنصري الحياة والفن بلا ضعف أو تنازل.
«حياة خفية» عيد للعين وللروح وعند مالك كلاهما توأم الحياة. مالك يحتفي
بكل شيء يصوّره، بالشجرة والنهر والثلج والصخر والعشب، وبكل ما يسمعه من
تعليق فوق الصورة ومن حوار ومن موسيقى كلاسيكية وأخرى مكتوبة للفيلم (جيمس
نيوتن هوارد). على ما ذكرته من سلبيات العمل، يبقى «حياة خفية»، إنجازاً
فنياً بديعاً وجميلاً يخرج منه المرء وقد ربح سبباً آخر لكي يحيا.
قضية لقضايا
بعيداً جداً عن هذا الأسلوب الفني المبهر وغير المطروق كثيراً في السينما،
يأتينا فيلم مسابقة «آفاق السينما العربية» المعنون «من أجل القضية» كسعي
للجمع بين المادة الترفيه وتلك الجادة في مضمونها. إنه كوميديا من المخرج
المغربي حسن بنجلون الذي له باع طويل في السينما اليوم، والذي سبق وتطرّق
لمسائل تتعلّق بهوية يهود المغرب في فيلم نال الكثير من النقاش هو «أين
تمضي يا موشي؟» (2007)؛ إذ اعتبره البعض نداءً لإعادة الاعتبار ليهود
المغرب الذين رحلوا إلى فلسطين واستوطنوا إسرائيل بعد ذلك، واعتبره البعض
الآخر استغلالاً للوضع يهدف إلى ترويج مضمون مسيء لمسلمي المغرب من حيث
تصويرهم مستغلين لوضع اليهود الذين كانوا يمرّون في أزمة هوية وثقة.
الفيلم الجديد يختلف ولا يصح اعتباره لغزياً. هو عن تفاهم وحب بين فلسطيني
لا يجد وطناً ويهودية تتعاطف معه في قضيته. الأول اسمه كريم (رمزي مقدسي)
عازف في المقاهي الشعبية، فلسطيني الهوية يعيش في المغرب ويبدأ الفيلم به
وهو يشارك، بعوده، فرقة من عازفيَن ومغنٍ حين يدخل شخصان أجنبيان هما منتج
حفلات فرنسي (جيريمي بانستر) ومغنية (جولي دراي) ليتابعا عزفه.
ليس مقنعاً أنهما أعجبا جداً بإمكاناته؛ فعزفه (سواء أكان هو العازف فعلاً
أم لا)، لم يأخذ من الوقت إلا بضع ثوانٍ قبل أن يتقدما منه ويطلبانه لحفل
في مدينة وهران الجزائرية. هو سعيد بالعرض، لكنه يدق جرس الإنذار سريعاً:
«عليّ أن أقول لكما إنني فلسطيني؛ وهذا قد تصاحبه مشاكل في اجتياز الحدود».
السفر في البر (من دون سبب إلا لأن الحكاية ستتطلّب ذلك كون وهران ليست
بعيدة عن الحدود المغربية - الجزائرية)، والفلسطيني كريم والمغنية اليهودية
سيرين ينطلقان بكل وسيلة ممكنة صوب الحدود. الشرطة المغربية تدقق وتبحث ثم
تجيز عبور الحدود، والشرطة الجزائرية تدقق وتبحث ولا تجيز الدخول.
السبب هو أن شعر رمزي اليوم طويل وصورته على جواز سفره بشعر قصير. بينما
تنتظره سيرين في المنطقة العازلة بين المغرب والجزائر ينطلق، وبكل وسيلة
ممكنة أيضاً، للبحث عن حلاق في أقرب قرية جزائرية. وحين يفعل ذلك قبل نهاية
النهار يجد بوليس الحدود الجزائري أن عليه العودة إلى القرية لأخذ صورة
حديثة تطابق الصورة التي على الجواز. هذه المرة يصطحب سيرين ولديهما حتى
السادسة صباحاً للعودة إلى الحدود لأخذ الختم على جواز السفر. خلال فترة
وجودهما في القرية يحضران عرساً تقع فيه مشاكل عاطفية، لكنهما يعودان قبل
لحظات من الوقت المطلوب ليكتشفا أن الفلسطيني لا يحتاج أصلاً إلى فيزا دخول
للجزائر.
قصة خديجة
هي مهمة صعبة أن تكون فلسطينياً في العالم العربي (داخل فلسطين وخارجها)،
لكن ما هو أصعب بالنسبة للفيلم، دوزنة أحداثه جيداً. هو كوميديا لديها
أهداف تنساق بصورة آلية: وضع الفلسطيني. تأييد اليهودية له وتفهمها
لمشكلته. مشروع حب بينهما. الزواج بالإكراه في الجزء المتعلق بالعرس القروي
وتأمين العناصر الكوميدية لإنجاح هذه النظرة. كل ذلك جيد كمبدأ لتحقيق
الفيلم، لكن الجهد المبذول فيه متناثر وغير متوازن التفعيل. الحكاية تشط عن
أساسها في عرض ما يحدث في العرس ولمدة طويلة و، كبداية، لا تنطلق مقنعة في
إيجاد الوضع الصحيح لما سيلي ولاحقاً لما هو معروض.
لكن الكوميديا رغم التقصير في وحدة السياق تنجح في إيصال أغراضها المختلفة
وفي بعض ما يترامى من مشاهد ساخرة لبوليس الحدود الذي يتصرف أفراده كل حسب
رؤيته. فأحد الضباط لا يتوقف عن الابتسام وهو يرفض دخول الفلسطيني إلا
بشروط وآخر تلهمه الفتاة بجمالها ويكاد يعرض عليها أن تبقى في المركز
للتمتع بجمالها. على الجانب المغربي نجد ضابطاً من الجدية في مسلكه بحيث لا
يمكن أن يثيره شيء في كل ما يدور.
يكاد الفيلم يتوقف عند هذه النواحي ولو فعل لغاب عن المشاهدين جانب مهم
يبرزه، وهو استعداد الناس العاديين للاحتفاء بكريم لمجرد أنه فلسطيني
ويحاولون مساعدته «من أجل القضية»، كما يعني العنوان هنا. لكن في نهاية
المطاف لا يعدو الفيلم سوى حالة ترفيهية بمضمون يحمل طرحاً لشأن جاد.
وضع قريب ومغاير في الوقت ذاته نطالعه في فيلم المسابقة الرسمية «مدار شبحي»
(Ghost Tropic)
للمخرج البلجيكي باس ديفوس. لأنه إذا كان «من أجل القضية» عن وضع مهزوز
اجتماعياً ورسمياً للفلسطيني الذي يعاني من تبعات هويته، فإن «مدار شبحي»
هو عن أرض غير مستقرة.
بطلة الفيلم اسمها خديجة (سعدية بن طيّب). امرأة مسلمة عربية من أصول
مغربية وتبلغ من العمر 58 سنة. إنها، بعد سنوات مديدة من الهجرة، باتت من
أهل الدار (مدينة بروكسل). تعمل خادمة تنظيف في المكاتب ليلاً، ولا بد أنها
كانت منهكة؛ إذ يخطفها التعب فتنام حتى محطة المترو الأخيرة في عتمة تلك
الليلة. عندما تستيقظ تجد نفسها في منطقة لا تعرفها ومن دون قدرة على
العودة من حيث أتت أو إلى حيث تريد أن تذهب بسبب إغلاق المحطة بابها وتوقف
القطارات منها أو إليها حتى صباح اليوم التالي.
وسيلتها الوحيدة للعودة إلى البيت هي أن تسحب بعض المال من حسابها عن طريق
الآلة المصرفية لكي تأخذ سيارة أجرة، وهذه الآلة تقع داخل «المول»، الذي
أغلق أبوابه أيضاً. يحتاج الأمر من هذه المرأة، التي تضع على رأسها وشاحاً
ما يميزها سريعاً عن باقي المواطنين كمسلمة، إلى أن تقنع الحارس الليلي
للمركز بأن يفتح لها الباب لتنفيذ ذلك. هناك، وقد سمح لها الحارس بذلك،
تكتشف أنها لا تملك رصيداً.
البديل الوحيد هي أن تقطع المسافة الطويلة سيراً على قدميها.
عمق شفاف
هو ليل بارد وهي امرأة وحيدة في شوارع معتمة. لكنها ذات قلب شجاع وإيمان
ثابت. لن يمضي وقت طويل حتى تبدأ خديجة بالتعرض لحوادث مختلفة. ليست كبيرة
الحجم والفعل، لكن مضمونه وأهميته بالنسبة إليها وإلى المشاهدين، مهم
للغاية.
على سبيل المثال، هناك تعاطفها مع عاملة محطة بنزين التي تكتشف أن ابنتها
(وكلتاهما في الأصل مهاجرتان)، تخرج ليلاً وتستجيب لهوى سنواتها المراهقة
في علاقاتها العاطفية. مسألة يكشف عبرها الكاتب والمخرج ديفوس عن ذلك الوضع
الصعب الناتج من اختلاف القيم والمفاهيم الأخلاقية بين الأجيال الأولى
والتالية المولودة في الغرب.
ويحتوي الفيلم على طرح آخر يكشف عن الجانب الآخر من المعادلة. خديجة التي
لا يحتاج البلجيكي الغربي إلى أكثر من نظرة واحدة ليرتاب في شأنها، تتعرض
لواقعة عندما تقترب من منزل كانت تخدم فيه وتنظر من خلال نافذة إلى شاب
يعيش فيه من دون علم أحد. رجل بلجيكي يعيش في الجوار يتقدم منها مرتاباً
بها. وحين تعلمه بأنها كانت تعاين منزلاً خدمت فيه قبل سنوات يخبرها أنه
خال من السكان، ثم يعرض عليها عملاً كونه غير راضٍ عن الخادمة (البولندية)
التي تنظف منزله.
كلا المشهدين يعرض تحت ضوء الليلة الواحدة جانبين من عملة واحدة: المشهد
الأول يوفر جانباً لحياة المهاجرين والثاني يوفر جانباً آخر من تلك الحياة
يبدأ بالريب قبل أن ينسحب الشك في محاولة من الشخص الغربي لتصحيح الوضع
باقتراح مناوئ لمبادرته الأولى.
لا يريد الفيلم الدخول في نقاش مفتوح حول معطيات هذا المشهد. لكن على عكس،
المشهد الأول الذي لا يطرح أسئلة، بل يوضح وضعاً، يعرّض المخرج بطلته لشأن
يثير الاهتمام بالنسبة لها ولوضعها كما بالنسبة للمشاهد، عربياً كان أم
أجنبياً. مفاد هذا الشأن هو النظرة الجاهزة الأولى، ثم غموض ما يليها من
احتمالات.
«مدار
شبحي» عمل جميل وجيد من مخرج جديد نسبياً (الفيلم الثالث)، يوفر نظرة فنية
جميلة لحدث بسيط يقع في ليلة واحدة ويخلو من استغلال بطلته لتقديم قضية
أكبر مما تفرضه الحكاية المنسابة التي تكشف عن عمق شفاف يؤازرها في ذلك
تصوير ممتاز يحيط بالأجواء من دون دكانة مفتعلة أو تحريك كاميرا لأجل
الإدهام أو الاستعراض. ومهم أن نعرف أن المخرج ابتعد تماماً عن تقديم فيلم
تشويقي عن مخاطر الليل أو الحياة الاجتماعية، بل مال لإلقاء نظرة هادئة
لوضع امرأة يمكن لها أن تكون نموذجاً لسواها. امرأة لا تريد أن تحتل من
الحياة أكثر من الرقعة التي هي فيها. |