ملفات خاصة

 
 
 

خلفيات جوائز «مهرجان ڤينيسيا» في دورته الثانية والثمانين

«أب أم أخت أخ» و«صوت هند رجب» أمام فرص جوائز أخرى

ڤينيسيامحمد رُضا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

توزّعت جوائز «مهرجان ڤينيسيا» على مستحقيها غالباً. هذا الاستحقاق يشمل الفيلم الفائز بالجائزة الأولى (الأسد الذهبي)، والفيلم الفائز بالجائزة الثانية (الأسد الفضي) الذي يُطلق عليه أيضاً اسم «جائزة لجنة التحكيم الكبرى»، وجوائز أفضل تمثيل (نسائي ورجالي) وأفضل إخراج، وأفضل سيناريو من بين جوائز أخرى.

في الواقع هناك مسابقتان رئيسيّتان، واحدة لأفلام المسابقة الرئيسية، والأخرى لأفلام قسم «آفاق» والنتائج كانت عادلة وواقعية بالنسبة للمسابقتين في حفل حاشد ختم به المهرجان دورته الثانية والثمانين.

دورة رائعة

ترددت الآراء ما بين أن دورة العام الحالي جاءت أفضل من العام الماضي، وأن أفلام هذه الدورة كانت أفضل من أفلام دورة «مهرجان كان» المنافس.

كلا الرأيين انتشر بين كثير من النقاد والصحافيين الذين قصدوا المهرجانين الكبيرين. الجانب الذي يحتاج إلى جهد أفضل من قِبل «ڤينيسيا» هو عملية توزيع الأفلام المشتركة (9 أقسام) على نحو يؤكد أهميّتها أكثر من مجرد تركها لشأنها بعد برمجتها وتوزيعها على الصالات الـ11 المخصصة للمهرجان والمتقاربة ضمن مساحة جغرافية واحدة.

الجوائز الممنوحة كانت من التنوّع بحيث لم يتم إغفال فيلم أحدث ضجة بعد عرضه، خصوصاً فيلم كوثر بن هنية «صوت هند رجب» الذي تعامل مع القصّة الحقيقية للفتاة ذات الـ12سنة التي وجدت نفسها بين جثث أقارب لها بعدما استُهدفت السيارة التي كانت تقلهم.

لساعة ونصف الساعة، نسمع تضرعها عبر تسجيل صوتي فعلي لها استُخدم جيّداً وبشكل مؤثر. لا مشاهد لهند رجب كون الأحداث الدرامية اختيرت لها. وبمهارة أيضاً، تدور الأحداث في مكاتب «الهلال الأحمر الفلسطيني» في رام الله.

تمتَّع الفيلم بأفضل استقبال تحقق لأي من أفلام المهرجان. ليس لأن التصفيق الحاد الذي تبع عروضه امتد أكثر من 20 دقيقة فقط، بل أساساً لأمانة وإخلاص عرضه لتلك المأساة التي انتهت باستشهاد الفتاة بعدما طال انتظارها النجدة.

أحد الذين اقتربوا من الممثل معتز مليس، الذي لعب أحد الدورين الرجاليين الرئيسيين (لجانب عامر حليحل)، كان الممثل الأميركي خواكين فينكس، الذي طبع على خد معتز قبلة تجسد مشاعره.

كثير من الحضور مسح دموعه، والأكثر منهم من منحه إعجابه على نحو أو آخر تجلى مع استقبال جيّد من قِبل نقاد عالميين كثر. كان واضحاً كذلك أن الفيلم مرشح للفوز بإحدى الجائزتين الأولى أو الثانية، وهو مُنح فعلاً الجائزة الفضية وسط تصفيق حار آخر.

إلى محافل أخرى

بالمناسبة، تردّد اسم فلسطين إيجاباً 4 مرّات خلال حفل الاختتام. مرّة عندما وقفت المخرجة الهندية أنوبارنا روي التي تسلمت جائزة أفضل مخرج عن فيلمها «أغاني الأشجار المنسية» (Songs of the Forgotten Trees)، ومرة ثانية عندما فاز المخرج المكسيكي ديڤيد بابلوس بجائزة أفضل فيلم في مسابقة «آفاق» وعنوانه «على الطريق» (En El Camino)، ثم مرّة ثالثة على لسان الممثل الإيطالي توني سرڤيلو حين تسلم جائزة أفضل تمثيل رجالي عن بطولته لفيلم «شكر» (La Gracia). المرّة الرابعة هي عندما وصل إعلان الجوائز إلى ذروته بتقديم الفيلم الفائز بالذهبية وهو «أب أم أخت أخ» للأميركي جيم يارموش، الذي طالب باحترام كرامة الفلسطينيين.

«أب أم أخت أخ»، هو جديد المخرج المستقل جيم يارموش، والوصف «مستقل» ينطبق على أعماله جيّداً، كما على أعمال رئيس لجنة التحكيم ألكسندر باين الذي صوّت، مع أعضاء اللجنة، لفوز هذا الفيلم بالأسد الذهبي.

دراما تتخذ سبيلاً مختلفاً في عرضها للعلاقات العائلية بين أفرادها الأربعة عن كل فيلم آخر سبق أن تعرّض للهامش العريض نفسه. منح يارموش بطولة هذا الفيلم إلى مجموعة واثقة بالممثلين من بينهم أدام درايڤر الذي سبق له أن ظهر في فيلمين سابقين ليارموش هما «باترسون» (Paterson)، و«الموتى لا يموتون» .( في (2016 و2019 ،(The Dead Don’t Die)

الجائزتان، الذهبية والفضية، تبدوان «كارت بلانش» لمزيد من الجوائز في المحافل والمناسبات المقبلة.

بين الأفلام الفائزة بجوائز «ڤينيسيا» «تحت السحب» (Below the Clouds) لجيانفرانكو روزي: فيلم تسجيلي عن المصير الذي تتوقعه مدينة نابولي لنفسها مع البركان الذي يطل عليها والهزات الأرضية التي تعيش فوقها. نال الفيلم جائزة لجنة التحكيم الخاصّة (البرونزية حسب تواردها).

وإذ فاز توني سرڤيلو بجائزة أفضل ممثل كما ورد، تم منح الممثلة جين شيلاي المقابل النسائي عن دورها في الفيلم الصيني «الشمس تشرق علينا جميعاً» (The Son Rises on Us All).

جائزة أفضل إخراج نالها الأميركي بني سافدي عن «الآلة المحطِّمة» (The Smashing Machine) هذه هي الجائزة الوحيدة التي كانت هناك بدائل لها من بين الأفلام المتسابقة. دراما رياضية من بطولة دواين جونسن وإميلي بلنت حول صعود وهبوط المصارع الحر مارك كير. الفيلم جيد التنفيذ، لكن جودته لا تنطلي على اختيار معالجة فنية ترتقي بحكايته.

ما ينتظره المتابعون بعد نهاية المهرجان الحافل هو توجه الفيلمين الفائزين بالجائزتين الأولى والثانية («أب أم أخت أخ» و«صوت هند رجب») إلى دخول عرين السباقات الأخرى في أوروبا (عبر جوائز بافتا وغيرها) والولايات المتحدة (عبر الأوسكار). وبالنسبة لفيلم كوثر بن هنية، فهذه فرصة سانحة لدفع الفيلم لمزيد من الجوائز وسط وعي إعلامي وجماهيري جديد وغير مسبوق بما يقع في تلك الحرب غير العادلة.

 

####

 

مريم التوزاني لـ«الشرق الأوسط»: «شارع مالقا» يستعيد أثر العائلة في طنجة

فيلمها حصد جائزة الجمهور بـ«فينيسيا»... والمغرب رشحته لـ«الأوسكار»

القاهرةأحمد عدلي

قالت المخرجة المغربية مريم التوزاني إنها بدأت العمل على فيلمها الجديد «شارع مالقا» بعد رحيل والدتها، مؤكدة أن تلك اللحظة المفصلية دفعتها إلى إعادة النظر في علاقتها بالذاكرة والبيت والعائلة مع شعورها بحاجة داخلية ملحة إلى العودة لطنجة، المدينة التي ولدت فيها، ونشأت بين أحيائها، لتستحضر من خلال الفيلم ما تبقى من أثر والدتها وجدتها.

وأوضحت في حوارها لـ«الشرق الأوسط»، أنها رأت في السينما مساحة شخصية للتعبير عن هذا الفقد، وفي الوقت نفسه وسيلة للاحتفاء بالحياة التي تستمر رغم الغياب، وأضافت: «علاقتي بموضوع الفيلم تعود إلى طفولتي مع جدتي الإسبانية التي جاءت إلى المغرب في عمر السابعة، ولم تغادره حتى رحيلها، حيث عاشت سنواتٍ طويلة في بيت العائلة بعد أن انفصلت عن جدي المغربي، وكانت جزءاً أساسياً من تكويني الشخصي والثقافي».

وعرض فيلم «شارع مالقا» الذي رشحه المغرب لتمثيله في «الأوسكار» للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان «فينيسيا» بدورته الأخيرة، وحاز على جائزة الجمهور بالمهرجان، قبل أن تنتقل مخرجته إلى مهرجان «تورنتو» في عرضه الثاني بالمهرجانات السينمائية حول العالم، وتدور قصة الفيلم حول «ماريا» وهي امرأة إسبانية تبلغ من العمر 79 عاماً، تعيش وحدها في طنجة، وتتشبث ببيتها العتيق الذي صار جزءاً من ذاكرتها وهويتها.

لكن حياة «ماريا» تنقلب رأساً على عقب حين تعود ابنتها «كلارا» من مدريد لتبيع المنزل باسمها القانوني، محاولة دفع والدتها إلى ترك المكان الذي عاشت فيه 40 عاماً. لكن رفض «ماريا» مغادرة بيتها يقودها إلى رحلة معقدة بين استعادة الأثاث المبيع وإعادة ترتيب عالمها الخاص، وفي خضم ذلك تنشأ بينها وبين أحد جيرانها علاقة إنسانية تتجاوز حدود الصداقة.

تقول التوزاني إن «الفيلم يروي قصة مقاومة صامتة لامرأة ترفض الاستسلام لفكرة التضحية الدائمة من أجل الأبناء، وتصر على التمسك بحقها في العيش بكرامة وحرية حتى في أواخر العمر، من خلال الكشف عن صورة أوسع للمدينة التي تحمل في طياتها تداخل الهويات الإسبانية والمغربية، وعن معنى الانتماء المتعدد دون إلغاء الآخر».

وأضافت أن جدتها ظلت إسبانية في تفاصيل حياتها اليومية، في طبخها وفي إيمانها، لكنها في الوقت نفسه كانت مغربية القلب والهوى، تعشق طنجة وتعتبرها وطنها الحقيقي، لافتة إلى أنها رأت في جدتها صورة ملموسة للانتماء المزدوج الذي لا يلغي الآخر بل يتعايش معه ويصنع منه ثراء إنسانياً خاصاً.

واعتبرت التوزاني أن شخصية «ماريا» تجسد هذه الازدواجية امرأة إسبانية الهوية لكنها مرتبطة بعمق بالمغرب الذي احتضنها، وأصبح وطنها بالتبني، مؤكدة أنها أرادت من خلال الفيلم أن تقول إن الإنسان ليس مضطراً للاختيار بين هويتين، بل يمكنه أن يكون أكثر من شيء في وقت واحد، لأن الهوية ليست قالباً جامداً بل تجربة معيشة تتشكل من التفاعلات اليومية والذكريات والعلاقات، وهو طرح يعكس أيضاً تجربتها الشخصية بوصفها «امرأة مغربية نشأت بين لغتين وثقافتين متداخلتين»، على حد تعبيرها.

وأوضحت أنها كبرت وهي ترى أصدقاء جدتها من الجالية الإسبانية التي استقرت في طنجة وتطوان هرباً من الحرب الأهلية الإسبانية، وكانت تراقبهم وقد تقدم بهم العمر، فيما عاد أبناؤهم إلى إسبانيا ولم يرجعوا، بينما ظل الكبار في المغرب حتى آخر لحظة من حياتهم.

وأكدت المخرجة المغربية أن «من الجوانب التي حرصت على إبرازها في الفيلم تصوير الشيخوخة بوصفها مرحلة مفعمة بالجمال والكرامة، لا عبئاً أو نهاية، لقناعتي بأن التقدم في العمر امتياز وفرصة لمواصلة التجارب الإنسانية، بما فيها التجارب العاطفية والجسدية»، مشيرة إلى أن علاقتها بالمدينة كانت حاضرة بقوة في بناء الفيلم، فقد أرادت أن توازن بين وجه طنجة التاريخي المتمثل في العمارات القديمة والبيوت العريقة، وبين وجهها المعاصر المليء بالحركة والأسواق والبائعين والشباب.

ولفتت إلى رغبتها في إظهار كيفية تجاور الماضي والحاضر في الشارع ذاته، وكيف تظل العلاقات الإنسانية في الأسواق الشعبية مصدر إلهام وجمال، على عكس المدن الكبرى الأخرى التي فقدت هذه الروابط، معتبرة أن طنجة بالنسبة لها ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي شخصية حية تتنفس مع أبطال الفيلم.

قالت مريم إن «التعاون مع زوجي المخرج نبيل عيوش في إنتاج الفيلم كان امتداداً لشراكة فنية وإنسانية بدأت منذ سنوات، فقد شاركت معه سابقاً في كتابة فيلم (الكل يحب تودا)، وهو بدوره كان سنداً أساسياً لي في مراحل تطوير الفيلم، ووجوده منتجاً للفيلم أتاح لها التركيز الكامل على الجانب الإبداعي من دون القلق بشأن التفاصيل التنظيمية».

وفي الختام أعربت مريم التوزاني عن سعادتها بردود الفعل التي لمستها في عرضه الأول بمهرجان «فينيسيا» خلال الأيام الماضية، لافتة إلى أن عملية توزيع الفيلم وتسويقه تسير بشكل جيد مع الاهتمام بعرضه في عدد من الدول مما عكس وصول رسالتها عبر القصة الإنسانية التي تقدمها بالفيلم.

 

الشرق الأوسط في

07.09.2025

 
 
 
 
 

وثائقي يرصد نضال حركة “فلسطين أكشن” في بريطانيا..

قراءة في فيلم “لتحطيم آلة الحرب

إسلام السيد

في لحظة تاريخية فاصلة، تتقاطع فيها السياسة مع الفن والمقاومة مع التجريم، تظهر نوعية من الأفلام مثل “تحطيم آلة الحرب” (To Kill a War Machine) في لحظات يائسة، لتكون شاهدا على محاولة السينما الوثائقية في مواجهة آلة الحرب والقمع، وإن كانت فقط قادرة على تقديم سردية مضادة تُطمس.

هذا الفيلم أخرجته حنان مجيد و”ريتشارد يورك”، وأنتجته “مجموعة قوس قزح” (Rainbow Collective) ، وهو لا يكتفي بتوثيق أنشطة “حركة فلسطين” (Palestine Action) البريطانية، بل يمارس مناهضة سياسية نُشاهد تبعاتها، لا سيما بعد قرار البرلمان البريطاني في 2 يوليو 2025 تجريم الحركة، فسحب المنتجون النسخة الإلكترونية من الفيلم مؤقتا، ومنعوا كل عروضه الأخرى حتى إشعار آخر.

يحمل ذلك مخاطرة قانونية في ظل التعسّف ضد كل شكل من أشكال مناهضة الحرب على غزّة، لكنه يطرح تساؤلات جوهرية حول دور السينما الوثائقية في زمن الأزمات، لا سيما في ظل جريمة إنسانية تحدث في فلسطين، والعالم والمسار القانوني والدولي يقفان أمام ذلك، ما بين التواطؤ والصمت، أو رد الفعل المحدود على أقصى تقدير.

فهل يمكن أن يجد هامشا جانبيا من حرية التعبير، يكون الفاعل فيه الموازنة بين الفن والنشاط السياسي؟

إن المشروع السينمائي هنا يتجاوز كونه مجرد عمل فني، ليتجسد بيانا سياسيا، يتحدى السرديات الرسمية، ويقدم سردية مضادة للسردية السائدة.

كيف تُقاوم آلة الحرب؟

لفهم السياق الذي يتحرك فيه الفيلم، لا بد من ذكر حيثيات وجود “حركة فلسطين”، التي تأسست في يوليو/ تموز 2020 على يد هدى عموري، وهي ناشطة بريطانية من أصل فلسطيني وعراقي، و”ريتشارد بارنارد” الناشط اليساري.

هدى عمّوري و”ريتشارد بارنارد”، المؤسسان المشاركان في حركة “فلسطين أكشن

جاءت الحركة استجابة لتصاعد العنف في فلسطين، بهدف مواجهة الشركات في المملكة المتحدة، التي تزود إسرائيل بالسلاح والتقنيات العسكرية، وتسعى الحركة إلى تعطيل سلاسل الإمداد العسكرية، والضغط على الشركات المتواطئة في الصراع.

وتشمل أساليبها مجموعة متنوعة من أدوات المناهضة، بداية من الاعتصام على أسطح مصانع الأسلحة، إلى أعمال التخريب مثل كسر النوافذ ورش المباني بالطلاء الأحمر، ثم التعطيل المباشر لخطوط الإنتاج، وإتلاف المعدات العسكرية.

رشّ مقر هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بطلاء أحمر، وسط تظاهرة حاشدة مؤيدة لفلسطين في لندن. احتجاجا على تغطيتها للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وقد انتقد بعض المشاهدين “بي بي سي”، لرأيهم أن تغطيتها غير متوازنة بما فيه الكفاية

تتخذ هذه المناورات قيمتها الأخلاقية من قدرتها على التطرف، ويبرر ذلك مستوى كارثية ما تناهضه. وتتضمن أنشطتها أعمالا دعائية رمزية، منها استهداف مواقع تاريخية مرتبطة بالاستعمار البريطاني في فلسطين، كما حدث لمقر هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في 2025، فغُطي المبنى بالطلاء الأحمر، احتجاجا على ما رآه النشطاء انحيازا لإسرائيل.

اتجاه الذاكرة المضادة

يُفتتح فيلم “تحطيم آلة الحرب” بأغنية “إن أن” لثنائي الراب “شاب جديد”و “وضبور”، وهما فنانان فلسطينيان تمحورت أغانيهما حول الحياة اليومية في فلسطين، ولا يعتمدان في تعاونهما أو عملهما منفردين على الأحداث الكبيرة، بقدر ما تعكس أغانيهما هموما يومية وذاتية.

مع ذلك، فإن هذه الأغنية بالتوازي مع تسجيلات مجموعة “الموقف الفلسطيني” وهي تقتحم مصنع سلاح بالمملكة المتحدة، مثّلتا تمازجا نوعيا، يقدّم الوضع الفلسطيني كأن لديه قدرة ما، لا ترتبط به مباشرة، لكنّها جزء من حقه في ظل ما يناله من قتل دائم.

تستعيد هذه القوة فكرة أخلاقية مطموسة تماما في حياتنا المعاصرة، ولعلها مُتكررة تاريخيا، وهي وجود صوت موضوعي يستطيع التحيّز للشأن الفلسطيني، ويستطيع أن يقول علينا أن نوقف قتل المدنيين بشتّى الطرق، بما فيها الطرق العنيفة والمانعة.

اشتباك مع موقف الحركة

يتناول الفيلم نشاط الحركة بحوارات متعددة مع الناشطين بها، وأولياء أمور المعتقلين على إثر نشاطهم بها، وكيف أسسوا أدوات مناهضة مُغايرة، لا تقوم فقط على الإدانة الخطابية، بل تحاول أن تستخدم العنف في اتجاه مُبرر، يجعل قتل الفلسطينين شيئا يجب التفكير بشتّى الطرق لإيقافه.

يوازي الفيلم بين تسجيلات من قلب قطاع غزة، وأخرى من الضفة الغربية، متعلقة باعتداءات من الاحتلال تعود إلى عام 2020، وفي فضاء صوتي صاخب ومتنوّع، يعرض أغنيات عربية عدة معنيّة بالشأن ذاته.

يقدم الفيلم سردية متشابكة قائمة على العبور الإنساني وتجاوز الفروق العقدية، فنحن أمام هذا الفيلم لا نشاهد عرضا خطيا تقريريا، بل تُستعاد الأحداث بأثر رجعي، لبناء سجل تاريخي يقوم على انتقاء أرشيفي مكثف، تتبيّن به الرواية التي يحتاجها العالم، أو عليه أن يترك تجاهلها وطمسها.

تكمن إحدى نقاط قوة الفيلم في مباشرته، وفي الاشتباك الحاد مع موقف الحركة من الشأن الفلسطيني، إذ يعبر جميعهم عن ضرورة التفكير في وسائل دائمة، تدفع العالم إلى التفكير فيما يحدث للفلسطينيين.

يشمل ذلك تصدير العنف، وتعطيل موارد التسليح وتحطيمها، وتصوير هذه الممارسات لوضعها في إطارها المُحدد، وهو مناهضة قتل الفلسطينيين، لأنها بطبيعة الحال عُرضة للتجريم دائما.

النشطاء الفاعلون الساردون

لا يبدو المحتجون هنا مجرد مخربين، بل هم أفراد يجمعهم سياق مُشترك في الحديث، وتضامن أخلاقي جماعي يُبرر المخاطرة المستندة على موقف جماعي وإيمان ضروري بالإنحياز، ويقف هذا التوجه أمام التمثيل الإعلامي السائد، الذي غالبا ما يسطح الوضع الفلسطيني، ويحركه من إبادة وتهجير إلى “صراع”.

كذلك تظهر الدوافع الأخلاقية والإنسانية وراء التخريب وتصدير العنف على أنه نوع من المقاومة، بالاشتباك المباشر مع الفاعلين في الحركة، فنراهم واعين بهذه الأفعال، وتحديد حيثيات ممارستها، وتوقيت ذلك، وكيف يمكن الضغط بها لإبراز صوت آخر مضاد للسائد.

تأخذ الأفعال العنيفة هنا بُعدا جدليا يضعها في مساحة إشكالية، فهي من الجهة القانونية تلاقي ما لاقت الحركة، فتنتهي بالإدانة القانونية والإدراج ضمن قوائم الإرهاب، فتُمنع من وجودها الشرعي، وتكون وجودا موصوما بشعارات ترهيب مُستهلكة. ومن جهة أخرى، يتمثّل في تصدير العنف -كما يوضح الفيلم- أسلوب من التعبير له ضرورته.

مُخرجا الفيلم حنان مجيد و”ريتشارد يورك” صانعا أفلام معروفان في مجال حقوق الإنسان، قدّما فيلما عن عمال النسيج في بنغلاديش، هو فيلم “دموع على القماش” (Tears in the Fabric) عام 2014، وقد جمعا المواد لهذا الفيلم من شبكات النشطاء ومواقع التواصل، ليضعا النشطاء في موقع الفاعلين والساردين في آن.

الانحياز فنيا وأخلاقيا

يتخذ فيلم “تحطيم آلة الحرب” موقفا واضحا من الأحداث التي يوثقها، رافضا الادعاء بالحياد أو الموضوعية المزعومة، على عكس الجهات الدولية والإعلامية، التي تفتعل اتخاذ موقف، وتسطح فِعل الإبادة، وترواغه لغويا بمفردات مثل “الصراع”.

يختار  الفيلم أن يُظهر انحيازه بوضوح، فيرفض مسافة التقرير الموضوعي، ويقدم النظر عن قرب في مسائل التمييز العرقي وحيثيات الإبادة، والضرورة المشتركة للعمل الجماعي.

يأخذ هذا الانحياز ضرورته من الحق الفلسطيني في أن يكون مرئيا، لا أنه إحصائية رقمية، أو قتيل محتمل، أو إرهابي حين يخرج عن صمته، بل هو مُمثّل لوجود إنساني أصيل، له حق في الأرض والحياة وتحديد المصير.

نشطاء من حركة “فلسطين أكشن” يسكبون الطلاء ويحطمون النوافذ، أثناء احتجاجهم على سطح مصنع محركات الطائرات المسيرة المحدودة في شينستون، ليتشفيلد، وسط إنجلترا

ولذلك لا يحاول الفيلم إبراز السردية الأخرى، بوصفها فقط حقيقة غائبة، بقدر ما هي أيضا في حاجة إلى إقحام المشاهد، ليكون جزءا من بنية تُدين الوجود الإنساني جُملة.

يظهر ذلك في تأسيس الفيلم بأسلوب ديناميكي ومتقطع، فينتقل بين الحوارات ولقطات النشطاء وهم يحطمون النوافذ ويتسلقون الأسطح، وإعلانات شركة التصنيع المُسلّح “إلبيت”، التي تتباهى بالدقة في منتجها، تتبعها لقطات ضبابية مروعة لأطفال ضحايا تلك الدقة.

تاريخ من الاحتجاج المنظم

لا يمكن فهم “حركة فلسطين” وفيلم “تحطيم آلة الحرب” إلا بوضعهما في سياق العلاقة مع تاريخ أوسع، في إطار تقليد طويل من حركات المقاومة التي استهدفت صناعة الأسلحة، فقد شهد التاريخ حركات مماثلة، اعتمدت العمل المباشر والتخريب المحدود وسيلة للاحتجاج على الإنتاج والتصدير للأسلحة المستخدمة في قمع الشعوب.

ومن أبرز تلك العمليات ما فعل نشطاء “بلوشيرز” (Plowshares) عام 1980، حين دخلوا مصنعا لصناعة القنابل النووية في ولاية نيويورك، وكسروا المعدات، ورشوا الدم على الآلات احتجاجا على تطوير الأسلحة النووية.

اعتُقل النشطاء وحوكموا، وحُكم عليهم بالسجن زمنا طويلا، لكنهم اتخذوا المحاكم منصة لتوضيح موقفهم الأخلاقي والسياسي. وقد أدت هذه الأعمال دورا في زيادة الوعي العام بالأسلحة النووية، وطرحت تساؤلات أخلاقية حول إنتاج الأسلحة، وضلوع الأنظمة الكُبرى الحالية في تصدير واسع للعنف.

محاصرة نظام الفصل العنصري

في سياق أكثر قربا من الشأن الفلسطيني، وخلال الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مارست حركات مدنية ضغطا شديدا على الشركات الغربية، التي زودت الدولة بالأسلحة.

تأسست مجموعات صغيرة متخصصة في العمل المباشر ضد مصانع الأسلحة والمخازن العسكرية، مع التركيز على منع تصدير الأسلحة التي تُستخدم لقمع السكان السود.

كانت هذه الحملة جزءا من نضال أوسع ضد نظام الفصل العنصري، وأظهرت أن المجتمع المدني يمكن أن يؤدي دورا حاسما في تغيير السياسات الحكومية.

شملت أساليب هذه المجموعات اقتحامات صغيرة لمصانع الأسلحة وتحطيمها، ونشر تقارير وأشرطة فيديو إلى المجتمع الدولي، لإظهار صلة الشركات الغربية بالقمع العنصري، والضغط على المصارف والمؤسسات المالية، لوقف تمويل الشركات المصنعة للأسلحة.

مواجهة الأنظمة القمعية

نجد عبر الفيلم أن الاعتراض القائم على تصدير عُنف مماثل، لإثبات موقف سياسي وأخلاقي يقوم على التضامن، كان حاضرا في التاريخ الحديث، وعبر سياقات شتى.

فخلال السبعينيات والثمانينيات، واجه عمّال في أمريكا اللاتينية أنظمة سياسية قمعية، كانت ضد صورة مقاربة للأنظمة السياسية والشركات العابرة للقارات، المتواطئة معها في الشأن الفلسطيني.

شملت عمليات الاحتجاج وتحطيم الآلات مصانع المعدات الثقيلة وتصنيع الأسلحة، وتعاظم حضورها بسبب رد الفعل القمعي تجاهها، وكوّنت مجموعات يسارية مسلّحة وشبه مسلحة، رأت تخريب الآلات والمعدات وسيلة فاعلة للتعبير والرفض.

سردية السينما الوثائقية

يمثّل فيلم “تحطيم آلة الحرب” نموذجا مُلتزما للسينما الوثائقية، التي تُحاول المشاركة في صنع سردية على يسار مجريات تفاعل أنظمة العالم الأول وقطاعه الخاص، الذي يرتكز على دعم ممارسة إبادية، بتجاهله الأخلاقي، وتواطؤه الجماعي.

ينطلق الفيلم من فكرة تُقدّر مأساة الشأن الفلسطيني حاليا، وهي ضرورة الانحياز لصوت كتيم. يحضر المُنتج الفنّي المُشبّع بالمادة السياسية، ليؤكد قيمة هذه الأداة في مثل هذه الأوقات، التي تحتاج إلى كل أشكال التسليح الممكنة، لإحداث تغير اجتماعي، مهما كان ضئيلا.

لا يعد هذا التغير بالضرورة ذا تأثير مباشر ولحظي، لكنه تأثير يظل محفوظا للتاريخ صوتا آخر، يعيدنا إلى التفكير في علاقة الوضع الفلسطيني بتواريخ تُشبهه، وأخرى تشترك معه في ضرورة استخدام العنف أداة للتعبير.

فحين يُحاول الفيلم أن يضع ما يلقاه الفلسطينيون في إطار تاريخي أوسع، ينتج سردية تُقاوم السردية السائدة، من حيث توجيه النظر إلى الفلسطينين بعين إنسانية، تُدرجه ضمن حركة التاريخ، بدلا من إقصائه في عدّة أطر سطحية، تُشكّلها خطابات وإدانات آمنة، أما فعل القتل فيظل مستمرا، وله مُبرراته المدجّنة.

وعلى مستوى تاريخي، ينفتح موضوع الفيلم على المجال التاريخي، فيربطنا بحراكات مُشابهة حدثت في سياقات شتى، تتعلق بالعرق والصراع الطبقي والحقوق العمالية.

يفتح ذلك سياقا أوسع لفهم الوضع الفلسطيني، الذي يعود إلى سياق طويل من الاعتداء، يجعلنا نُفكّر في علاقة النظام العالمي الحالي وروابطه الاقتصادية المتمثلة في القطاع الخاص، وأي علاقة تجمع هذه الأطراف بصور وتنويعات من الاعتداء والقمع المؤسسي.

ناقد سينمائي مصري.

 

####

 

فيلم الحرب على غزة “صوت هند رجب”

يحصد الجائزة الثانية في مهرجان البندقية السينمائي

خاص-الوثائقية

فاز الفيلم الدرامي-الوثائقي “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية بجائزة الأسد الفضي – جائزة لجنة التحكيم الكبرى، وهي ثاني أرفع تكريم في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، يوم السبت 6 سبتمبر/ أيلول 2025.

يتناول الفيلم أحداث 29 يناير/ كانون الثاني 2024، حين كانت الطفلة هند رجب (5 سنوات) الناجية الوحيدة في سيارة استهدفتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكانت تحاول الفرار مع عائلتها من جحيم العدوان على غزة.

خلال الهجوم، أجرت هند مكالمة يائسة مع متطوعي الهلال الأحمر الفلسطيني، تستغيث لإنقاذها، وقد حاول المسعفون البقاء على تواصل معها وإرسال سيارة إسعاف، لكن الرصاص أصاب المركبة والطفلة قبل وصول النجدة.

وبعد تسلم الجائزة، ألقت المخرجة كوثر بن هنية كلمة، أهدت فيها التكريم إلى الهلال الأحمر الفلسطيني، وأشادت بالأبطال الذين يعملون في فرق الإنقاذ تحت القصف والخطر.

وقالت في كلمتها: كان صوت هند صرخة استغاثة سمعها العالم بأسره، لكن لم يُجِب أحد. سيظل صوتها يتردد حتى يتحقق الحساب والعدالة. السينما لا تستطيع أن تعيدها إلى الحياة، ولا أن تمحو الجريمة التي ارتُكبت بحقها، لكنها قادرة على حفظ صوتها.

ثم قالت إن هذه ليست فقط قصة هند، بل هي أيضا قصة “النظام الإسرائيلي المجرم الذي يتصرف بلا رادع”.

وإن الحكاية ليست ماضيا يروى فحسب، بل هي أيضا قصة استعجال راهنة، فما زالت أسرة هند -مثل آلاف العائلات في غزة- تعيش تحت الخطر والجوع والخوف، في ظل قصف يومي متواصل، داعيةً قادة العالم إلى التحرك.

ثم ختمت بالقول: فلترقد هند بسلام، ولتسهر أعين قاتليها فلا تنام، ولتحرر فلسطين.

وكان عرض الفيلم الأول قد حظي باستقبال استثنائي من الجمهور، وتوج بتصفيق حار استمر أكثر من 24 دقيقة.

أما جائزة الأسد الذهبي لأفضل فيلم، فقد ذهبت إلى المخرج “جيم جارموش” عن فيلمه “أب وأم وأخت وأخ” (Father Mother Sister Brother)، ونال المخرج “بيني سافدي” جائزة الأسد الفضي عن فئة أفضل مخرج لفيلمه “آلة التحطيم” (The Smashing Machine).

 

الجزيرة الوثائقية في

07.09.2025

 
 
 
 
 

«صوت هند رجب» المستغيث... بطل فيلم كوثر بن هنيّة ومهرجان البندقيّة

بيروتكريستين حبيب

يوم صرخت هند رجب في غزة في يناير (كانون الثاني) 2024، ظنّت أن صوتها سيبقى أسير السيارة المحاصرة بالقذائف والرصاص حيث علقت، ملتصقةً بجثث أقربائها الذين سبقوها إلى عدّاد الموت.

لكنّ الصوت وصل، بعد أن انطفأ. سمعه العالم أجمع عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. غير أنّ العالم، كالعادة، لم يستطع شيئاً. فابنة السنوات الـ5، مثلُها مثل أكثر من 20 ألف طفل في غزة، قضت تحت النيران الإسرائيلية وهي بعد تحلم بشاطئٍ وأرجوحة ومثلّجاتٍ بنكهة الفرح.

يحكي روّاد «البندقيّة السينمائي» أن أي فيلمٍ عبرَ في سجلّ المهرجان الإيطالي العريق، لم يحصد 23 دقيقة من التصفيق. وحدَه «صوت هند رجب» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، خرق البروتوكول وجدار الصمت حاصداً ذهول الحاضرين ودموعهم خلال عرضه العالمي الأول في الدورة 82 من المهرجان قبل أيام.

صار الفيلم حديث المهرجان والرأي العام العالمي من دون منازع، وسط توقعاتٍ بأن يجري ترشيحه إلى أوسكار 2026 عن فئة أفضل فيلم روائي أجنبي. نجوم السينما، والنقّاد، وخبراء المجال عبّروا بكاءً وذهولاً بعد مشاهدته. وهم لم يخفوا امتعاضهم عندما حجب مهرجان البندقيّة «الأسد الذهبي» عن الفيلم، مكتفياً بمَنحه الجائزة الثانية، أي جائزة لجنة التحكيم المعروفة بـ«الأسد الفضّي».

لكنّ ما حصل في البندقية ربما يكون أهمّ من الجوائز. فصوت هند رجب عاد إلى الحياة ليخترق الضمائر، ويذكّر بآلاف الأطفال الذين ما زالوا محاصرين داخل القطاع الفلسطيني المدمّر. تبني بن هنيّة فيلمها على المكالمة الهاتفية التي جمعت الطفلة هند بفريق «الهلال الأحمر» الفلسطيني مستغيثةً لإنقاذها، بينما الدبابات الإسرائيلية تحاصر السيارة حيث هي. كانت، وأفراداً من عائلتها، يحاولون الهروب من مدينة غزّة عبر تلّ الهوى عندما انهال القصف عليهم فمات الجميع وبقيت هند، قبل أن تنال منها النيران بعد ساعات.

في الشق التوثيقي من الفيلم، استخدمت المخرجة التسجيل الصوتي الحقيقي الذي بدأ بتلقّي الهلال الأحمر في رام الله مكالمة من عمّ هند المقيم في ألمانيا، واضعاً الطفلة على اتصالٍ مباشر مع المسعفين. أما في الشق الدرامي المعتمد على إعادة التمثيل، فيبقى المشهد محصوراً داخل مركز الإسعاف، على بُعد 80 كيلومتراً من غزة. استعانت بن هنيّة بمجموعة من الممثلين جسّدوا شخصيات المسعفين الذين تواصلوا مع هند.

«تعالوا خذوني... كل عيلتي ماتوا»... محصورةً لساعات بين جثث أقربائها، تتحدّث هند بصوتها الباكي والمذعور إلى أفراد الطاقم مداورةً. تتوسّل سيارةً أو أحداً يأتي لإنقاذها. تقول إنها خائفة من الليل الذي بدأ بالهبوط، ومن الدبابات التي تقترب أكثر فأكثر من السيارة. الجميع في المركز يشعر بالعجز، فتأمين عبور عربة إسعاف إلى المكان يقتضي تنسيقاً مع القوات الإسرائيلية غير المتعاونة بطبيعة الحال. مهدي، مدير الفريق، والذي يؤدّي دوره الممثل عامر حليحل، يدرك المحاذير، وهو ما عاد يريد التضحية بمزيدٍ من المسعفين المصفوفة صورُهم على جدار المركز، بعد أن قضوا خلال مهامهم الإنسانية في غزة.

المسعف عمر (الممثل معتز ملحيس) هو أول من تلقّى الاتصال من داخل السيارة المحاصرة. أتاه بدايةً صوت فتاةٍ تلفظ رعبَها وأنفاسها الأخيرة، لتتحوّل الآذان بعدها إلى هند الصغيرة. في المؤتمر الصحافي الذي واكب إطلاق الفيلم في البندقية، شرح ملحيس صعوبة الموقف الدرامي: «لفَرط التصاقنا بصوت هند الحقيقي، ظننّا لوهلة أنها ما زالت على قيد الحياة وأنه بإمكاننا أن نهرع لإنقاذها. وكان اصطدامنا بالواقع أصعب ما في الأمر». في أحد مشاهد الفيلم، يفيض غضب عمر؛ فثمة سيارة إسعاف على بُعد 8 دقائق من المكان لكنها غير قادرة على التحرّك. يصرخ قائلاً: «كيف ممكن تنسّقوا مع الجيش اللي قتلهم؟».

في أقصى لحظات الذعر، تصوّب هند أفكارها باتجاه أمها البعيدة. تتساءل ما إذا كانت ستَراها مجدداً. تصغي إليها المسعفة رنا (الممثلة سجى كيلاني) بتعاطفٍ وتأثّرٍ كبيرَين: «ما رح إتركك قبل ما يجي حدا ياخدك وأطمّن عليكي». تحاول طمأنتها مناديةً إياها «هنّود»، فيأتي ردّ الطفلة مرتبكاً وتائهاً: «ماما؟»، ظناً منها أن أمها على الجهة الثانية من السمّاعة.

لا شيء يوقف عقارب الساعة المعلقّة على حائط المركز، والمسعفون عارفون أنهم في سباقٍ مع الوقت المفقود. ببراءتها تسأل هند المسعفة رنا ما إذا كان زوجها قادراً على المجيء لأخذها من حيث هي. الطاقم هو الآخر يخترع سيناريوهاتٍ طفوليّة، كأن يرسل أحداً كـ«سبايدر مان» يقفز فوق السطوح ويسحب هند من بين الركام والجثث.

لكن بالتوازي مع محاولاتهم تأمين خطة لإنقاذ هند، ينفعلون ويصرخون ثم يقدّمون الدعم لبعضهم البعض بين لحظة انهيارٍ وأخرى، كما يواصلون إلهاء الفتاة والتمويه عنها رغم التراجيديا المحيطة بها. يسألونها عن شعبتها في المدرسة: «صفّ الفراشات»، وعن اسم المدرسة: «الطفولة السعيدة». أما الجواب حول لونها المفضّل فيأتي صارخاً: «ما بحبش إشي!». كيف تتذكّر الزهريّ والبرتقاليّ والأصفر، فيما الدبابة تقترب من السيارة وأزيز الرصاص يلعلع حولها؟

لا يبقى سوى الدعاء. تطلب منها رنا أن تذكر الله... «الله»، تقول. لعلّها الكلمة الأخيرة التي صدرت عن صوت هند رجب قبل أن تنال الدبابة الإسرائيلية منها، ومن مسعفَين اخترقا النيران بعد مرور 3 ساعات على بداية الاتصال، في مسعىً لإخراجها من السيارة السوداء.

أسدل مهرجان البندقيّة ستائره على صور طفلةٍ تلهو سعيدةً على شاطئ غزّة. اسمُها هند رجب وصوتُها وصل. في الأثناء، يواصل الفيلم رحلته إلى العالميّة، مسنوداً من منتجين منفّذين من طراز براد بيت، وخواكين فينيكس، وألفونسو كوارون، ومتطلّعاً إلى جماهير لا تكتفي بالدمع والتصفيق.

 

الشرق الأوسط في

08.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004