(( حققت نجاحا مؤثرا عندما كنت شابا، )) يقول فرانسيس فورد
كوبولا، (( لكنه كان يشبه نجاح المخرجين الأكبر عمرا. )) ربما لهذا السبب
كان الناس يعتقدون انه مارس المهنة في عمر مبكر. لم يصنع مخرج أفلام خالدة
مثل " العرّاب " و " القيامة الآن "، فلما منذ عشرة أعوام، وقد سجّل
إبداعه، كما يعترف هو، إنحدارا منذ خمسة وعشرين عاما. وهاهو الآن يغير
تكتيكه : بما انه لا يستطيع التخلص من القالب الذي وضع نفسه فيه والمضي
قدما، فانه سيحاول العكس. بفلمه القادم، الذي حمل عنوانا لمّاحا، " شباب
بلا شباب "، يعود كوبولا، 68 عاماً، الى مرحلة في مهنته، يشعر انه أنهاها
بشكل مبتسر : البداية. (( في عمر التاسعة والعشرين صنعت أفلام الرجل الأكبر
عمرا [ قوس قزح فنيان ]، )) يقول، (( المخرج الشاب لم يحظ بفرصته أبدا.
الآن أنا أصنع فلم الرجل الأصغر عمرا. ))
" شباب بلا شباب " يمكن أن يوصف أيضا بفلم الرجل الكئيب.
إقتبسه كوبولا من قصة قصيرة للفيلسوف الروماني المولد مرسيا إلياده، فلم
متطفل على الفن بلا خجل، بطولة تيم روث بدور دومينيك ماتي، البروفيسور
اللغوي الكهل الذي يُستعاد شبابه بعد نجاته من صدمة مفاجئة. وبسبب هذا
التجدد يكون قادرا على العمل على تحفته الأدبية التي لم يتمها وملاحقة حبه
الضائع. مع حبكة مكثفة ومركبة، مجتازا قارات وأزمان ولغات متعددة، ومواضيع
شائكة مثل الوعي وطبيعة الزمن، يبدو " شباب بلا شباب " بلا جدال كأنه بعيد،
بأكثر من عشرة أعوام، عن آخر فلم لكوبولا، دراما القضاء التجارية التي
مثلها مات ديمون، " صانع المطر ".
مثل عم مهذار، محتسيا شراب بلودي ماري في الرابعة بعد الظهر في
فندق بيفرلي هيلز، يتحدث كوبولا عن معاناته من أزمة الثقة بالنفس التي شلّت
حركته. في عام 2004 كان المخرج يشبه الى حد بعيد ماتي، قبل أن يتعرّض
للصدمة المفاجئة؛ كان محبطا، موثوقا الى مشاريع مستهلكة لا يستطيع إتمامها.
لقد قضى معظم سنوات الثمانين والتسعين وهو يصنع أفلاما سريعة النسيان مثل "
نادي القطن " و " جيك " لتسديد ديون كبيرة تراكمت عليه، أنفقها على تجربة
واحدة، هو فلم ميوزيكل " واحد من القلب "، عام 1982. ومع ان هناك نقاط
مضيئة في مسيرته مثل " الغرباء " و " زواج بيغي سو "، إلاّ ان معظم أفلام
ستوديو كوبولا، خلال هذا الوقت، تركت المخرج وجمهوره في حالة من الخيبة. في
عام 1986 توفي نجل كوبولا، البالغ من العمر 22 عاما، جيانكارلو في حادث
قارب. يقول (( عندما تفقد ولدك، يكون هذا الأمر أول شئ يخطر في بالك عندما
تصحو صباحا على مدى سبع أو ثمان سنين. ثم بعد ذلك تصحو ذات يوم ولا يكون
أول شئ يخطر لك. حينها تسترد شجاعتك. )) ابناه الآخران، صوفيا ورومان،
يعملان أيضا في مجال السينما، على الرغم من ان صاحبة الاوسكار صوفيا قد
تفرّغت مؤخرا كي تصبح أما. ورومان يعمل مساعد مخرج في فلم " شباب "، وكاتب
سيناريو مشارك في فلم ويس اندرسن الجديد " درجيلينغ ليمتد ".
في آواخر التسعينات، يقول كوبولا، (( أردت فقط أن أجد لنفسي
موقعا. رفضت أن أصبح واحدا من المخرجين الذين يتم تأجيرهم : ‘‘ هاهو
السيناريو، وحصلنا على روبن وليامز ’’ . )) بعد أن خسر المعركة القضائية
الطويلة مع وارنر بروذرز، حول حقوق مشروع " بينوكيو "، يقول (( أدركت اني
لا أملك الكثير من الوقت، وقد آن الآوان لإنجاز المشروع الحلم، وهو المشروع
الأساسي الذي أقوم بكتابته بنفسي، والذي يكون طموحي الحقيقي، ويسهم بأفكار
جديدة في اللغة السينمائية. )) في حين ان " العرّاب " هو الفلم المفضل عند
جمهور كوبولا، فانه يفضل الأفلام التي تستهلك الكثير من النقد قبل أن يتم
تقبّلها، مثل " القيامة الآن "، أو تلك الأفلام التي يكتشفها الجمهور
بنفسه، مثل " ناس المطر ". (( الوسيلة الأسهل التي تجعلك متأكدا من نجاح
فلم هي صنع فلم تقليدي بطريقة جيدة، )) يقول. (( اذا عملت فلما غير عادي،
أو لا يتبع بالضبط الأصول كما يراها الناس، فانك ستواجه المتاعب، أو ــ كما
حدث مع " القيامة الآن " ــ ستنتظر عشرين عاما كي تسمع ثناء عليه. )) قمة
نجاح كوبولا كان مقدرا لها أن تكون في قصة خيالية تدور في مانهاتن تدعى "
ميغالوبوليس "، سيناريو أصيل، شغل نفسه به على غير طائل منذ سنة 1984. ((
هل سمعت عن أولئك الرجال الذين يشتغلون في وكالات الأعلان، والذين يقررون
فجأة التخلي عن عملهم ليكتبوا رواية عظيمة؟ كان الأمر معي على هذا النحو؟))
يقول.
في نفس الوقت فان الأعمال التجارية الأخرى للمخرج كانت تدر
عليه أرباحا أكثر من صنع الأفلام. بحلول عام 2001 حقق مصنع الخمور الذي
يملكه في نابا فالي ( لديه الآن مصنعا آخر في سونوما ) وشركة للمنتجعات،
أرباحا كافية تتيح له البدء بإنتاج " ميغالوبوليس "، لكن 11 سبتمبر دفعته
الى إعادة تقييم مستقبل قصته الخيالية في مدينة نيويورك. الإصرار على مشروع
ما، عام بعد آخر، (( يشبه الوقوع في حب فتاة جميلة ورائعة من طرف واحد، ))
يقول. (( لا تستطيع نيل حبها، بالطبع، لأنها لا ترغب بك، لكنك لاتريد إمرأة
أخرى، لأنك بسببها لا ترى إمرأة غيرها. ))
واحدة من أصدقاء كوبولا، التي أرسلت له ملاحظات مشجعة عن
سيناريو ميغالوبوليس، كانت ويندي دونيغر، أول فتاة قبّلها في حياته، وهي
التي أعارته رواية " على الدرب "، حين كانا تلميذين في إعدادية غريت نك في
لونغ آيلاند في الخمسينات. سافر الى شيكاغو بطائرته الخاصة للقاء دونيغر،
هي الآن إستاذة في جامعة شيكاغو في الهندوسية والأديان المقارنة، وأتى بها
الى نابا كي يناقش معها هو وزوجته اليانور أفكارها حول السيناريو. ومع كؤوس
النبيذ وكوبولا يطبخ، تحدثوا عن سيرة مهنته. (( كان عالقا، )) تقول دونيغر.
(( وللمرة الأولى في حياته، يكون قادرا على تمويل فلم من ماله الخاص، لذا
لم يكن مسؤولا أمام أحد بما يفعله، وكان هذا يخيفه، إذ ليس لديه عذرا هذه
المرّة إن خرج الفلم سيئا. ما يخيفه هو انه يملك السلطة لعمل ما يريده
بالضبط، مما يجعل روحه على المحك. ))
أعطته دونيغر، وهي تأمل بمساعدته في بعض الأفكار التي يصارع من
أجلها في " ميغالوبوليس "، بعضا من أعمال إلياده، ومنها كانت " شباب بلا
شباب ". فغدا هذا الكتاب، الذي كان يُفترض أن يكون ملهما فقط، هوس كوبولا
المفاجئ. (( أدركت في الحال انه بوسعي الذهاب الى رومانيا وعمل هذا الفلم
دون أن أعلم أحدا بالأمر. أخترت السيناريو خلسة، ولم أخبر زوجتي. كنت
مجروحا في هذه السنوات الخمس أو الست، لهذا فأن إمتلاكي مشروعا في السر
منحني شعورا طيبا. يشبه الأمر كما لو أنك تملك مليون دولار في حقيبتك لا
يعلم أحد عنها شئيا. أن هذا يمنحك شعورا بالتفوق. ))
مع شركات العائلة، بوسع كوبولا أن ينجز أي فلم يريد، اذا كانت
نفقاته لا تتعدى 17 مليون دولار. فلم " شباب " بلا شباب، وبفضل الحوافز
المالية التي تمنح للأفلام في أوربا، هو ضمن هذه الحدود. أنشأ كوبولا مكتب
الإنتاج في شركة صيدلة تعود لصديق من بوخارست، وهو يقوم بتجارب الأداء
للممثلين والمصورين السينمائيين وسط مخازن قوارير شراب السعال
والفيتامينات. لقد إستأجر مديرا للتصوير عمره 28 عاما، تخرج لتوه من معهد
الفلم، وصوّر بضعة أفلام ديجيتال فيديو عالية الوضوحية. وبمساعدة صديقة
القديم جورج لوكاس، جهّز كوبولا شاحنة حمل مليئة بكل ما يحتاج من أجهزة
سينمائية، وإستعان بالتقنيين الذين إستخدمهم في فلم " ناس المطر "، عام
1969 حيث عمل هو ولوكاس سويا. للمرة الأولى، منذ فلم " رمبل فش " في 1983،
يقول كوبولا، انه أحّس بالإبداع الحقيقي أثناء إنجاز فلم. (( فلم " شباب
بلا شباب " إنتشلني من الإحباط، )) يقول. (( فأنت تفقد الثقة بنفسك. يحدث
ذلك للناس الذين يشتغلون في الفن، انه اللاتوازن ربما. صار بوسعي الآن أن
أصنع فلما دون أن أطلب الإذن من أحد. ))
تمّ الإعلان للمرّة الأولى عن الفلم في مهرجان روما للأفلام،
حيث تنبأت ردود الفعل بأن كوبولا سيواجه أوقاتا صعبة بعمله فلما عن الشباب
مرّة ثانية. المخرجون المبتدئون يمكن لهم أن يقوموا بالتجريب، لكن كل فلم
لكوبولا هو حدث عالمي. (( لا يفترض بي أن أدعو هذا بانه فلم صغير، أو فلم
تجريبي، )) يقول، لأنه يعرف ان هذا يمكن أن يصرف معجبيه عنه. مثلما قد يحدث
عندما صرّح في تشرين الثاني لمجلة "جي كيو" قائلا انه يشعر بأن روبرت دي
نيرو وآل باتشينو وجاك نيكلسون فقدوا شغفهم بالأدوار الجيدة. في روما أخبر
كوبولا الصحفيين بأن هذا التعليق إجتزأ من نصه، (( لقد فوجئت، لأن هذا لم
يكن صحيحا، وأنا أكنّ احتراما وإعجابا كبيرين لهولاء الممثلين. فهم من أعظم
الممثلين في العالم اليوم، كما انهم من أصدقائي.)) مهما يكن النص الأصلي
الذي وردت فيه هذه العبارة ــ تجنّب كوبولا أن يوضحه لمجلة تايم ــ فانه
ليس الوحيد في رأيه هذا. إذ بينما كان كوبولا، رغم كل شئ، دائب البحث عن
أفكار مبدعة في السينما، كان دي نيرو يمثل في أفلام مثل " لقاء عائلة فوكر
" و " حللْ ذاك".
الآن وقد نفض كوبولا الغبار عن نفسه، فانه سيعود مجددا للوقوف
خلف الكاميرا ويبدأ تصوير فلم آخر في الأرجنتين في شباط المقبل ، عن
سيناريو كتبه بنفسه ــ وهذه المرّة أيضا ليس ميغالوبولس ــ . هذا الفلم ،
الذي يحمل عنوان " تترو " ويؤدي الدور الرئيسي فيه مات ديلون، يتحدث عن ((
الآباء والإخوان والتنافس الخلاّق، تراجيدية إغريقية بعض الشئ . )) في
أيلول الماضي سطا لصوص على ستوديو كوبولا في بيونس آيرس. (( خمسة رجال
أوثقوا العاملين، وطعنوا المصور في كتفه حين حاول مقاومتهم وسرقوا أجهزتنا
الألكترونية. )) بما فيها جهاز كومبيوتر كوبولا، الذي يحوي سيناريو " تترو
". (( كان السيناريو منتهيا. كان سيجعل من هاملت يبدو نفاية، لكنه ضاع
الآن، )) قال بتعبير جامد على وجهه. مع ذلك فان إنتاج الفلم سيأخذ مساره.
سيتم تصوير هذا الفلم بنفس الإسلوب المرتجل المستخدم في " شباب ". حين كان
كوبولا يتحدث عن شاحنة المعدّات، وهي في طريقها الى الأرجنتين، إقتربت من
طاولتنا سيدة جميلة، يبدو عليها في الستين من العمر، وقالت للمخرج انها
كانت تعرفه في لونغ آيلند في الخمسينات. " نحن نعرف بعضنا إذن؟ " سألها،
وهو يحاول أن يتذكر. ثم قال " كيف لنا أن نعود الى الوراء، ونعيش تلك
اللحظات من جديد؟ "
المدى العراقية في 7
يناير 2008
|