علي بُعد
خطوات من معهد السينما، كنت علي موعد في كوخ صغير، هو ذلك المكان الذي تخرج
منه كل إبداعات المخرج المتميز جمال قاسم، والموعد كان علي هدية جديدة من
هذا المبدع لمشاهدة أحدث إبداعاته.
قطعة فنية
خصني بمشاهدتها جمال ـ كعادته في إبداعاته الجديدة دائما ـ غير أنني شعرت
هذه المرة بأن الخصوصية مقصودة، وأن هذه المعزوفة الجديدة ملك لي وحدي.
علي مدي
17 دقيقة ـ هي مدة عرض الفيلم ـ وجدت نفسي مأخوذا إلي عالم السحر والجمال
من خلال الفيلم التسجيلي القصير "طبيعة حية" الذي كتب له السيناريو وأخرجه
جمال قاسم، ليكون إضافة جديدة ليس فقط لصناع الفيلم، يتقدمهم جمال قاسم، بل
ولجهة الإنتاج، وهي المركز القومي للسينما، الذي يعد الملاذ الأخير لكي
نشاهد من خلاله سينما حقيقية، سينما بها روح مازالت تنبض بالحياة، وهو ما
يحسب لكل القائمين علي المركز يتقدمهم المبدع علي أبو شادي.
17 دقيقة
عرفت متي بدأت غير أنني لم أشعر بأنها انتهت، عشت فيها مع اثنين من أكثر ما
أعشق، السينما والفن التشكيلي، باعتباري عاشقا قديما للفن التشكيلي، وربما
بنفس القدم للسينما.
فلم يمهد
جمال قاسم في فيلمه للمتلقي، فمنذ اللحظة الأولي تأخذك موسيقي شريف نور،
كأنها تهيئك مزاجيا للدخول إلي هذا العالم الساحر، الصندوق المليء
بالموسيقي والألوان.. والسينما، لتعيش لحظات من الفن الجميل، عبر رحلة
شديدة البساطة، شديدة النعومة، من خلال كادرات كأنها لوحات تشكيلية صنعها
ببراعة شديدة مدير التصوير عبد الحكيم الريماوي، بلمسات متأنقة لفوزي
العوامري، لتجد نفسك وسط عالم "خضرة، ومني، ومجد السجيني".
عالم
الفنان التشكيلي وعلاقته "بالموديل"، تلك العلاقة الملاصقة الأبدية، بالغة
القدم، بالغة الحساسية، التي بدأت مع بداية الفن التشكيلي، والتي من
المفترض أن تزيد هذه العلاقة التصاقا بمرور الزمن، غير أننا وفي ظل ما
نعيشه من ردة ثقافية حقيقية، وعقول ظلامية، توارت هذه العلاقة، بل وكادت
تختفي، وكما تنسحب الحياة من كل شيء جميل، لتتركه لنا "أصم وأجوف"، انسحبت
الحياة من الفن التشكيلي ليكون قاصرا علي "الطبيعة الصامتة" ولم يعد هناك
مكان "للطبيعة الحية".
فقد انصب
اهتمام وبحث جمال قاسم في فيلمه التسجيلي القصير علي "الطبيعة الحية"
الموديل النابض بالحياة، وليس مجرد الطبيعة الصماء، حيث تنعكس هذه الحيوية
بدورها علي اللوحة والألوان، وكأنها تعانقها تمنحها "قبلة الحياة" الأبدية،
فتظل نابضة حتي برحيل أصحابها "موديل وفنان".
بنعومة
شديدة يصحبنا جمال في رحلة مع "خضرة" أقدم موديل حي باق من زمن الفن
الجميل، حيث مازالت تعمل مع طلبة كلية الفنون الجميلة، تبدأ رحلتها في
الصباح الباكر قبل وصول الطلبة والأساتذة، تجهز المرسم وتحضر "الطين" بعجنه
وتقسيمه إلي كتل، ولا تنسي أن تترحم علي "أيام زمن الموديل" قبل أن تجلس
مستسلمة، إما للفرشاة والألوان، أو لأنامل فنانين صغار تنغرس وسط "الطين"
لتشكل عملا إبداعيا جديدا.
ويأخذنا
مونتاج مها رشدي المتناغم مع الألوان والموسيقي، دون أي قطعات فجائية،
لنشاهد رحلة "مني أحمد" الموديل الشابة، التي تؤمن بقيمة الموديل، لأن
لديها خبرة فنان، ووجهة نظر فنية تشرحها، فهي ليست قطعة صماء تجلس مستسلمة
لمن يحركها، لديها ثقافة تشكيلية بارعة، بالأسلوب ورشاقة الفرشاة والألوان،
والتحليل الدقيق لكل حركة، واستيعاب حقيقي لأهمية أن تكون "موديلا" يؤرَخ
به لمشوار فنان، وهو ما يوضحه الفنان التشكيلي مجد السجيني، نجل الفنان
جمال السجيني، ويوضحه الفنان جورج البهجوري، والفنان السكندري عصمت
داوستاشي، في رحلة معجونة بطمي النيل، ممزوجة بالألوان الحية.
"طبيعة
حية" قطعة فنية جميلة شديدة البراعة، ربما عابها أنها أقصر مما توقعت، فلم
أشعر بانتهاء الرحلة إلا مع تترات النهاية، رحلة جميلة غير أنها لم تشبعني
لم ترو ظمأ سنوات العطش التي نعيشها، غير كافية لأن تعيد إلينا الحياة التي
نفتقدها في كل شيء "صم وأجوف"، وإن كانت تزف إلينا بشري جميلة بأن هناك
إمكانية لأن تعود الحياة إلي الطبيعة التي حُرمت طويلا منها.
مرة أخري
أجدني مدينا للمخرج جمال قاسم بشكر جديد علي معزوفته "طبيعة حية" بعد "مقهي
ريش، وبثينة" وللمركز القومي للسينما، علي هذا التميز، وللناقد علي أبو
شادي لتبنيه مثل هذه الأعمال التنويرية التي ربما تسهم في عودة الحياة
لنا.
العربي المصرية في 14
يناير 2008
|