- لسنوات
خلت، لم يكن لرومانيا صيت سينمائي يذكر. بل كانت صورة ذلك البلد المتداولة،
وكما اختزلتها السينما ووسائل الإعلام الأخرى، أقرب الى شكل شخصية دموية
ومرعبة اسمها الكونت دراكولا. تلك التي جمع تفاصيل حكاياتها الايرلندي برام
ستوكرن، في إطار بحثه عن قصص وأساطير أوربا الفولكلورية، وضمها لدفات كتابه
المتعدد المداخل في عام1897. وما كان من السينما سوى توظيفها، وفي طبعات
وقراءات مختلفة، بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي وعبر شريط تود بروننيغ في
عام 1931، ووصولاً الى القامة فرانسيس فورد كوبولا في عمله الذي حمل الاسم
نفسه في عام 1992. وزاد من ضبابية صورة رومانيا وعزلتها نظام نيكولاي
تشاوشيسكو التوليتاري الذي اطاحته انتفاضة شعبية، وبتحريض من دول أوربا
الغربية، في أواخر عام 1989.
بين صورة
مصاص دماء، يعيش وسط توابيت الأموات ويخاف ضوء الشمس وصليب ابن الناصرة،
وتركة نظام سياسي حديدي، بما خلفه من مآس شاهدها الأنصع حالة ملاجئ الأيتام
وقطيعة مع سبل العيش الطبيعية ومصادرة الحريات، ضاع والتبس المنتج الثقافي
وعلى رأسه الصنيع السينمائي.
- لكن،
وبعد الانهيار المدوي للنظام السياسي، وفي غمرة حمى الانفتاح على العالم،
وبالتحديد على الجار الأوربي ونادي وحدته الحصرية، جرت إعادة هيكلة
المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية. بالمقابل، سرعان ما تدارك
الرومانيون شؤونهم الإبداعية، وكانت السينما سباقة قبل غيرها من الفنون
التعبيرية في العمل والاستفادة من أجواء الانفتاح والحرية. إلا ان عملية
نفض غبار الماضي لم تكن سهلة، بل كانت أقرب الى العملية القيصرية، ما دفع
بحفنة من الشباب للتنكب لهذه المهمة العسيرة. وبالفعل جاء أول غيث البداية
من فرنسا، وبالتحديد عبر مهرجانها السينمائي العتيد "كان"، عندما منحت لجنة
تحكيم فقرة "نظرة ما" جائزتها لشريط المخرج كريستي بويو "موت السيد
لازاريشكو" في عام 2005، والذي عد مفاجئة غير متوقعة ونبه الى اكتشاف موهبة
سينمائية ناصعة. إثره كرت سبحة الاشتغالات، واستدارت الأنظار، فجاء العمل
الأول والمتقشف لكورنيليو بورمبوي "12.08 شرق بخارست" بعده بعام، ومثله
باكورة الشاب كريستيان نميشكو "كاليفورنيا تحلم"، والحاصل على الجائزة
الخاصة لفقرة "نظرة ما"، بيد ان الموت المبكر خطفه في حادث سير قبل عرض
شريطه في مهرجان "كان" الأخير. وتكللت قائمة جوائز الشرف بفوز شريط "أربعة
أشهر وثلاثة أسابيع ويومان" لمدرس اللغة الإنكليزية والصحافي كريستيان
مونجيو سعفة "كان" الذهبية للعام الماضي.
مفهوم
السينما الوطنية
- سمها
هبة، فورة، ظاهرة وما شئت من التسميات، لكنها في الواقع أعادت الى الأذهان
ما جاءت به نتاجات "الجيل الخامس" في السينما الصينية، ومثلها السينما
الإيرانية من تسعينيات العقد الفائت، ومن بعدها تلك القادمة من كوريا
والبرازيل والمكسيك، لتضع رومانيا وبقوة على خارطة السينما العالمية. وعبر
أفلام سينمائية قليلة، وذات منحى يلامس السياسة مثلما التاريخ ولا ينغمس
فيهما، وتحمل بصمات شخصية متميزة في خطابها وصنعتها. ما حرض، مثلاً، مجلة "
Sight
&
Sound"
البريطانية المرموقة والمتخصصة في الشأن السينمائي من تنظيم حلقة دراسية،
على هامش الدورة 51 لمهرجان لندن السينمائي الدولي، ناقشت فيها مفهوم
"السينما الوطنية" ومعايير تحديدها. ودارت حول؛ هل هي في عدد من الأفلام
ذات القيمة الفنية، والمنتجة في فترة زمنية قصيرة، ويجمعها الانتساب الى
بلد معين؟ وهل هناك نزعة سينمائية تعبر عنها الموجة الجديدة وتجعلها تتقاطع
مع سابقاتها؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يكون على صناع السينما أن يكرروا
نوعاً من الأساليب والمواضيع لإدامة حركة سينمائية محتفى بها، أو هل ترتسم
معالم نتاجاتهم بصورة عفوية وغير قصدية بفضل ما يقتسمونه من ثقافة وتاريخ؟
وعلى الجانب الآخر، خصتها دورة مهرجان القاهرة السينمائي الأخيرة بفقرة
أطلق عليها السينما الرومانية الجديدة، وعبر عرض ثمانية أشرطة منتجة في عام
2007.
جديد
السينما الرومانية
- من
عنوان شريطه المتهكم "موت السيد لارازيشكو"، يحسم الموهوب كريستي بويو قدر
بطله المسن. أما التفاصيل، فهي بمثابة المبرر الدرامي لحكاية السيد
لازاريشكو (أداء رائع لأيون فيسكوتنيو)، ومحنته في طلب العلاج. اللقطات
الأولى تفتح لنا عالم لازاريشكو، وقوامه رجل مسن ووحيد يتقاسم العيش مع
قططه وفي شقة تقع في ضواحي العاصمة، إذ يدفعه ألم في الرأس والمعدة الى
الاتصال في المستشفى، وبحضور جيرانه الذين هبوا لمساعدته لحين وصول سيارة
الإسعاف وفريقها الطبي. ومن هنا تبدأ متاعب لارازيشكو الحقيقية، إذ يقرر
الفريق الطبي نقله الى المستشفى، ولكن يتزامن وصوله مع وصول مصابين إثر
حادثة تعرض لها ركاب حافلة، مما يجعل حالته غير مستعجلة فيركن جانباً.
وبعدها يبدأ فصل جديد،إذ ينقل الى مستشفى آخر، وهكذا تستمر رحلته بين
المستشفيات في ليل بخارست. المخرج بويو، وهو المتأثر بحلقات مسلسل أيي آر
التلفزيونية، حول قصة مريضه الى مكاشفة ومحاكمة علنية لأخلاقيات النظام
الصحي في بلده.
- فيما
يقارب مواطنه كورنيليو بورومبوي في شريطه "12:08 شرق بخارست"، حصل على
جائزة أفضل عمل أول في كان، وبطريقة ماكرة سؤال التاريخ. وعبر استضافة مقدم
برنامج دردشة تلفزيوني لعدد من الأشخاص العاديين، وسؤالهم هل حدثت ثورة او
لا في مدينتكم؟ والمقصود الاحتفال بذكرى الثورة، تلك التي أطاحت بنظام
تشاوشيسكو قبل عقد ونيف، أما المدينة فهي مدينة منسية عاش فيها المخرج.
يجمع المخرج نماذج شريطه وبطريقة كاريكاتورية، وهم مقدم البرنامج، مهندس
سابق في معمل للنسيج ويكره كل من يذكره بماضيه، ومدمن على تعاطي الكحول،
ومعلم مفلس، وصاحب سوابق بتزوير شخصية سانتا كروس. تسلسل أحداث انطلاق
شرارة الثورة في مدينتهم يلوكها الضيوف على مسامع المشاهدين وفي بث
تلفزيوني مباشر، وعبر تلك الشهادات، يدس المخرج تهكمه على أنغام استرجاع
مصطلحات مقتبسة من أفلاطون وهرقل، ويضعها على لسان مقدم البرنامج. وغايته
تستعيد مقولة ماركس الشهيرة في كتابه "برومير الثامن عشر" بان، التاريخ
يعيد نفسه مرة على شكل مأساة وأخرى على شكل مهزلة، ولكنه نسى ان يضيف ان
الاحتفاء بالتاريخ أحياناً يمكن ان يصل الى مستوى جديد من السخف، حسب صحيفة
النيويورك تايمز.
- لكن التاريخ يأخذ معنى ومنحى أخرين على يد كريستيان مونجيو في شريطه
الثالث "أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان". وفيه يستعيد المخرج الأجواء
العامة في بلده، من تفشي حالات الفساد الإداري والرشوة والسوق السوداء
ومصادرة الحريات والقمع، وعبر مسعى طالبة جامعية، وبمساعدة صديقتها، من
تدبير عملية إجهاض تحرمها القوانين المعمول بها، حيث بلغ الجنين من العمر
حمله عنوان الشريط. صحيح ان الطالبتين تمكنتا في النهاية من تدارك الفضيحة
الأخلاقية والقانونية، وعبر الاستعانة بعلاقات مشبوهة وهويات مزورة والمرور
في دروب وعلاقات سرية غير معلنة، نموذجها نصّاب يقوم بعملية الإجهاض. إلا
ان المخرج، لم يكتف بإدانة النظام السياسي وافرازاته الاجتماعية، إنما زاد
عليها بتحميل وزر السكوت على حيف ومصادرة الحريات الشخصية، تفضحها النظرة
الأخيرة للصديقة، بعدما استدانت وذلت وقبلت ممارسة الجنس من أجل تكملة مبلغ
عملية الإجهاض، حيث تصوب نظراتها باتجاه الكاميرا، وكأنها تقول أنتم أيضا
مسؤولون عن الخطأ. وداعاً دراكولا، وفقر ريفي مدقع وعطالة ضاربة، فصورة
رومانيا اليوم محتفى بسينماها في المحافل الدولية.
المدى العراقية في 16
يناير 2008
|