وجد
الناقد والكاتب السينمائي حسن حداد في ضعف مواكبة السينما المصرية لكل ما
هو جديد، مقارنة بحيوية السينما العالمية، السبب الأساس في تخلفها، ورأى ان
مخرجيها ومنتجيها، وعلى الرغم من عمرها الطويل، يفتقرون الجرأة في تقديم
موضوعات وقضايا جديدة غير مستهلكة، لكنه أستثنى قلة منهم، ظهروا في
ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. فنانون قدموا تجارب لم تعهدها السينما
المصرية من قبل، شكلت تمردا على ما هو سائد، وتصدت للتيار التقليدي المسيطر
والثورة عليه. من بين هؤلاء المخرج محمد خان، الذي كرس له حسن حداد كتابه
الجديد (محمد خان.. سينما الشخصيات والتفاصيل الصغيرة) وهو بمثابة دراسة
نقدية لتجاربه السينمائية ومحاولة معرفة عالمه الفني والفكري بعمق أكبر.
من
الهندسة الى السينما
قبل عرض
وتحليل أفلامه يسرد حداد بعض الجوانب الشخصية لخان وكيف وصل الى عالم
السينما وهو الطالب الذي طالما حلم ان يصبح مهندسا معماريا مرموقا ".. كانت
الهندسة المعمارية هي حلم طفولتي" لكنه في أنكلترا وبالتحديد عام 1956، حيث
قبل طالبا للهندسة هناك، التقى عن طريق الصدفة بشاب سويسري يدرس السينما.
هذا اللقاء سيكشف موهبته ".. لم أكن أعلم بأن السينما تُدَرس، كنت أظنها
موهبة وخبرة فقط، ولكن بمجرد أن ذهبت مع صديقي هذا إلى مدرسة الفنون، لم
أتردد لحظة واحدة بأن أكون مخرجاً سينمائيا".
يصف حسن
حداد هذة اللحظة بمثابة لحظة ولادة مخرج ترك الهندسة والتحق بمعهد السينما
في لندن، مخرج سيساهم في زيادة بريق السينما العربية. قد تبدو هذة النقلة
الحادة غير مفهومة وغرائبية بعض الشيء، ولكن عودة لطفولة خان تكشف ميلا
دفينا وتأثرا عميقا بالسينما، ظل مخزونا في ذاكرته. موقع بيت أهله المجاور
لدار سينما مزدوجة في القاهرة يوضح هذا الإنقلاب ".. كنت أرى مقاعد إحداها
ولا أرى الشاشة، أشاهد الأفلام في اليوم الأول وأتابع شريط الصوت بتركيز
بقية الأيام". الى جانب معرفته الأكاديمية بالتقنيات وأستحدام وسائل
الأنتاج السينمائي غرف خان خبرة كثيرة من مشاهداته لروائع الفن السابع في
انكلترا وتأثر كثيرا بمخرجين عالميين تركوا أثرا على ثقافته السينمائية
وعنهم يقول ".. تأثرت بأنطونيوني على وجه الخصوص، فهو الذي دفعني إلى تغيير
فكرتي القديمة عن السينما، فالسينما ليست مجرد حدوتة تُروى. كان تأثير
أنطونيوني كبيراً عليّ، وقد قررت في هذه الفترة أن أصبح مخرجاً، وأعتقد إن
هذه المرحلة هي التي حددت الاتجاه الذي سرت فيه فيما بعد". بعد أنتهاء
دراسته عاد الى القاهرة وعمل تحت إدارة المخرج صلاح أبو سيف، وذلك بقسم
القراءة والسيناريو ولم يستطع الاستمرار في هذا العمل أكثر من عام واحد،
فسافر إلى لبنان ليعمل مساعداً للإخراج مع يوسف معلوف ووديع فارس وغيرهم.
وبعد عامين من العمل في لبنان، سافر مرة أخرى إلى إنكلترا، حيث هزته هناك
أحداث حرب 1967 وتركت أثرا عميقا فيه ".. شعرت بحالة يأس شديدة، وفقدت
الأمل بالعمل في السينما، فأنشأت دار نشر وأصدرت كتابين، الأول عن السينما
المصرية والثاني عن السينما التشيكية، وكنت أكتب مقالات عن السينما. وفي
عام 1977 عدت إلى مصر وأخرجت فيلماً قصيراً، وشجعتني زوجتي على العودة إلى
مصر والعمل في السينما، وكان تعرفي على المونتيرة نادية شكري دافعاً على
اتخاذ قرار العودة الى القاهرة". هذة العودة ستكون بداية الأنطلاق الحقيقة
لمحمد خان في عالم السينما.
أفلام خان
تحت المجهر
يحلل حداد
في القسم الأول من كتابة أفلام محمد خان. ورغم طابع المراجعة النقدية
الصحفية التي تطبع أغلبيتها إلا انها تكشف عن جهد مخلص يهدف الى رسم لوحة
متكاملة للقاريء عنها. ولأن محمد خان بدأ بفيلم "ضربة شمس" بعد عودته من
لندن، بدأ حداد به أيضا ".. إتضحت قدرات محمد خان في فيلم (ضربة شمس) كمخرج
جديد، يمتلك أسلوباً خاصاً يميزه عن بقية المخرجين المصريين على صعيد
النقاد. إلا أنه في نفس الوقت لم ينس الجمهور الذي سيشاهد فيلمه، وكان
حريصاً على لفت انتباهه إلى الجديد الذي يقدمه له. إنه يقدم له فيلماً
بوليسياً، يقدم له سرقة وقتل ومطاردات، واهتمامه بهذا الجانب قد أثر على
قصته السينمائية، وجعلها تقع في أخطاء وسلبيات ساهمت في ضعف السيناريو".
يتلمس حداد في فيلم "الرغبة" مع الممثل نور الشريف أيضا، تجاوزا لأخطاء
تجربة خان الأولى ".. يصل خان بهذا الفيلم إلى مرحلة أكثر وعياً ونضجاً في
السيطرة على حرفيته الفنية والتقنية. نجح خان بهذه التجربة من تجاوز سلبيات
كثيرة وقع فيها خلال فيلمه الأول، مثبتاً أنه فنان متميز يريد تقديم
السينما ألتي يحبها هو والتي يحملها رؤيته الفنية الأصيلة. إنه في (الرغبة)
يقدم لنا معالجة جديدة لرواية جاتسبي العظيم، ولكنه لا ينسى المحاولة في أن
تكون هذه المعالجة محلية". وعن تجربته مع أحمد زكي يجد فيها المؤلف انتقالا
في شكل العمل السينمائي والأعتماد بالأساس على اللغة السينمائية لا الحوار
الطويل ".. في فيلم (طائر على الطريق)، نستطيع أن نزعم بأن ثمة ملامح سينما
جديدة، تحاول التخلص من الأنماط والشخصيات التقليدية المستهلكة، حيث يصر
محمد خان على إبراز مكانة الصورة السينمائية في التعبير عن الحدث الدرامي،
والاكتفاء بحوار مركز وعميق إذا لزم ذلك". ويتوقف الكاتب باهتمام أمام
(الحريف) الذي يحسبه "تجربة سينمائية هامة وجريئة تعتبر من أكثر التجارب
تطرفاً في السينما المصرية، وهو بالطبع تطرفاً إيجابياً يدعو ويحرض للخروج
على ما هو سائد ومستهلك من أنماط وشخصيات تقليدية".
ويستمر
حداد في عرض وجهات نظره النقدية عن أفلام خان حسب تسلسلها الزمني ليصل الى
"زوجة رجل مهم" الذي يعده عملة فنية نادرة تكشف العلاقة بين الفرد والسلطة
".. لقد أستطاع محمد خان في فيلمه هذا أن يسبر أغوار شخصياته وإظهار ما
بدواخلها من مشاعر وأحاسيس، كما أنه سخر كاميرته لتكون بالمرصاد لكافة
المتغيرات والتحولات التي طرأت على هذه الشخصيات. هذا إضافة إلى أنه قد
أحاطها بالكثير من التفاصيل الصغيرة التي ساهمت في إبراز الجوانب النفسية
والأخلاقية فيها، والتي كشفت أيضاً عن جوانب هامة وخطيرة في تركيبة رجل
السلطة وزوجته". على نقيضه يقف فيلم "أيام السادات" الذي لم يجد فيه بصمة
محمد خان الواضحة كمخرج له رؤية إخراجية فنية وفكرية خاصة.
الصورة هي
الأصل
بعد عرضه
لبقية افلامه (الثأر ـ 1980 ، طائر على الطريق ـ 1982 ، موعد على العشاء ـ
1982، نصف أرنب ـ 1982، خرج ولم يعد ـ 1984، مشوار عمر ـ 1985، عودة مواطن
ـ 1986، أحلام هند وكاميليا ـ 1988، سوبرماركت ـ 1990، فارس المدينة ـ
1991، مستر كاراتيه ـ 1992، الغرقانة ـ 1993، يوم حار جداً ـ 1995) ينتقل
المؤلف الى الجزء الثاني من كتابه لمعرفة عالم محمد خان الفني والفكري.
يبدأ أولا بالتهمة التي عادة ما توجه الى شغل خان كونه يركز على الجانب
الشكلي على حساب المضمون. بدقة أكبر أعتماده على الصورة دون الحتوتة، والتي
لا ينفيها خان نفسه بل يؤكدها عندما يقول.." السينما أصلاً هي صورة ولا بد
من تطوير هذه الصورة والبحث من خلالها". ولأزالة أي ألتباس هنا يتدخل
المؤلف لتوضيح هذا الجانب من عمل خان "بالنسبة لاهتمامه بالصورة، فهذا أمر
يحتاج منا لتوضيح. فصحيح بأن محمد خان في معظم أفلامه قد أعطى للصورة
السينمائية مكانة بارزة، بل وأكد على إظهار إمكانياتها في التعبير التأملي
عن الحدث الدرامي، واكتفى بحوار مركز وعميق ساهم في توصيل المعاني الدرامية
لهذه الصورة ـ وهذا بالطبع مجهود يحسب لصالح محمد خان ـ إلا أنه لم يركز
اهتمامه على إبراز الجوانب الجمالية في تكوينات كادراته السينمائية،
باستثناء فيلمه (أحلام هند وكاميليا)، علماً بأن أفلامه الأخرى قد احتوت
على بعض الكادرات الجميلة والمتفرقة هنا وهناك، لكنها لم تشكل أسلوبا
مميزاً وموحداً لأعماله السينمائية". الملفت ان خان يعود بنفسه ويقر بأهمية
فهم الصورة وحبه وأهتمامه بها.. "هناك استهتار بشع بالتكنيك في السينما
المصرية(...) لن تتقدم السينما عندنا أبداً لأنها لا تهتم بالشكل (...) لن
تكتمل عندنا سينما جديدة إلا لو أعطت اهتماما أكثر بالصورة". ويدرك أسباب
الاهتمام بالصورة في حالة غيباب أو إستحالة وجود مضمون يلتهمها "إنني موافق
بأن الصورة لن تكون مهمة إذا كان المضمون عبقرياً في السينما. إذا وجدت
مضموناً قادراً على التهام الصورة، فأنا مستعد لأن أضع الكاميرا وأصوره
فوراً، ولكن العثور على مثل هذه المضامين مسألة نادرة جداً، وبالتالي تبقى
للصورة الأهمية الكبرى". أما قضية الجمهور والجدل المستمر حوله، فلخان نظرة
مختلفة كما يشير المؤلف "إن أهم ما يميز محمد خان كمخرج كونه لا يفكر في
المتفرج أثناء تنفيذه لأي من أعماله، بل أنه لا يضعه في اعتباره. وصلته
بالمتفرج لا تتعدى متابعة ردود أفعال أعماله على هذا المتفرج". ويعلن خان
بصوت عال.. أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟!.
من ميزات خان أنه يأخذ شخصياته من الواقع ثم يعيد صياغتها سينمائيا، وولوعه
بالمكان وجده حداد في أكثر من فيلم: "هو الذي جعل من حياة سائق تاكسي
موضوعاً سينمائياً، وخلق جواً خاصاً في تنقله بين الطرق الطويلة المتميزة
بين المدن في فيلم (طائر على الطريق).. وانتقل في فيلمه (موعد على العشاء)
إلى الشوارع الخلفية والجانبية ذات الملامح الخاصة بالإسكندرية". يركز
الكتاب على علاقة المخرج بتفاصيل عمله: بمساعديه، بالممثلين، بالجمهور
وبالقضايا الكبيرة التي تتناولها السينما. وفي هذا الصدد فأن خان لا يحمل
السينما ما لا تحتمل. هو لا يؤمن بأمكانية ايجاد حلول لمشاكل المجتمع من
خلال السينما، بقدر أمكانية عرضها واثارة الجدل حولها، وبالتالي تطوير وعي
المشاهد للتفكير بها والبحث عن حلول لها.. " أنه يرفض معالجة هذه القضايا
وطرح الحلول لها، وذلك إيماناً منه بأن الفنان ليس مشرفاً اجتماعيا أو
خبيرا سياسيا، ومهمته كسينمائي وفنان تكمن في إثارة مثل هذه القضايا وترك
الحلول للمتفرج يهتم بها ويتناقش حولها.. يقول خان في هذا الصدد: (أريد أن
يخرج المتفرج من أفلامي وهو يفكر في المشكلة المطروحة أمامه في الفيلم.
والحقيقة إن الجمهور هنا معتاد على المعالجة الفجة، وأنا أرفض هذا الأسلوب.
وقد يكون هذا هو سبب الصعوبة التي تلقاها بعض أفلامي في الوصول إلى
الجماهير العريضة. وأنا مدرك لهذا وواعٍ له تماماً، ولكني مصر على أن العين
ستعتاد تدريجياً على هذا الجديد، وإن المتفرج سيفهم الصورة.. فمثلاً
(الحريف) فيلم يتكلم عن الفقر، ولكنه لا يقول إنه يعالج مشكلة الفقر. إنني
لا أقول يجب عمل هذه الأشياء للقضاء على الفقر، ليست هذه هي مهمتي). وماذا
يطلب من الممثل " أنا لا أطلب من الممثل أن يفعل بالتحديد ما أطلبه منه،
إلا إذا كانت هناك ضرورة ما قد تساعدني في شيء أريده تحديداً.. ما أقوم به
هو أن أشرح له اللحظة، ولو كنت أعرف أشياء عنه فيساعدني ذلك كثيراً للوصول
إلى داخله".
حسن حداد
في كتابة يعطينا صورة واضحة عن فنان يعيش السينما التي يصنعها، ويقف على
أرضية فنية صلبة. كتابه ممتع، وهو واحد من نماذج التأليف السينمائي التي
نحتاجها اليوم.
للاشارة فقط:
عندما
شاهدت فيلم محمد خان الأخير "بنات وسط البلد" للمرة الثانية في مهرجان
أوسيان سينافان السينمائي الثامن في نيودلهي شعرت ان شغله قد تراجع كثيرا،
تراجع حتى عن بداياته الأولى.
أسم
الكتاب: محمد خان.. سينما الشخصيات والتفاصيل الصغيرة ـ
الكاتب: حسن حداد ـ
الناشر: المؤسسة العربية للطباعة والنشر ـ بيروت ـ الطبعة
الأولى ـ يناير 2006
سمح
الكاتب لزوار موقعه الالكتروني (سينماتيك) بانزال الكتاب كاملا
موقع "إيلاف"
في 8 سبتمبر 2006
|