خلال السنوات القليلة الماضية لاحت مخاوف البعض من اندثار فنِّ
السينما الذي غزا العالم وسيطر على قاعدة عريضة من جماهيره منذ
أكثر من قرن، بدأت المخاوف مع انتشار ظاهرة التصوير بكاميرات
الفيديو التي تطورت إلى نظام الديجيتال مع نهايات القرن
الماضي.
الأخطر من ذلك هو توقعات بانخفاض الإقبال على دور العرض، بعد
أن أصبحت المشاهدة المنزلية لا تختلف كثيرًا عن دور السينما،
بخاصة أن الوسيط التليفزيوني مناسب تمامًا لهذه العروض.
كانت وما زالت تجري محاولات دائبة لصناع السينما لجذب الجمهور
لدور العرض، بدأت من خلال الفيلم سكوب الذي كان يُعرض على
شاشات أكبر وأضخم تُحقق رؤيةً مختلفة وأكثر إبهارًا، لكن
التجربة لم تكن ناجحة بالقدر الكافي، فالمشاهد اعتاد مقاييس
الشاشة التقليدية، ثم جاءت أفلام الـ
3d
من خلال الصورة المجسمة التي تقترب من
المشاهد في الصالة كأنه في قلبها، وهي أيضًا لم تكن وسيلة
مناسبة لتحقيق كل نوعيات الأفلام شأنها شأن نظام الصوت المجسم.
كانت صناعة الأفلام قد ارتبطت لسنوات طوال ومنذ بدايتها في
1895 بكاميرات السينما والأشرطة السلولويد بمقاساتها المختلفة
وما يتبعه ذلك من أساليب المونتاج اليدوي بالمافيولا ومن وسائل
الخدع والمؤثرات بالأساليب التقليدية القديمة.
تعرضت كاميرات التصوير السينمائية خلال مسيرة السينما للكثير
من التطويرات الجوهرية، لكنها لم تكن تغييرات أو تطويرات
جذرية، ففي أواخر عشرينيات القرن الماضي تغيرت سرعة التقاط
الكاميرا من 16 كادرًا في الثانية إلى 24 كادرًا، لتقترب من
سرعة الزمن الطبيعي، وتجاري سرعة الصوت الناطق.
مع الثمانينيات من القرن العشرين ظهر النظام الرقمي أو
الديجيتال الذي منح الصورة مزيدًا من الدقة والوضوح ودقة
الألوان حيث أمكن للكاميرا الرقمية رصد كل المعلومات والتفاصيل
الدقيقة للواقع وتحقيق التباين والأبعاد بوضوح بعد أن أصبحت كل
ذرة في الكادر ترصُد الشفرة رقميًّا بمنتهى الدقة.
استتبع ذلك تطورٌ في أساليب التخزين والعرض، ومع بداية القرن
الجديد تطورت كاميرات الديجيتال بصورة أكبر وأصبحت الصورة
الرقمية تُضاهي الصورة السينمائية إلى حدٍّ كبير.
كما تطورت برامج حيل الجرافيك وأمكن من خلالها تحقيق كثيرٍ
للصورة إلى حد التحكُّم في أعمار الممثلين وملامحهم، مثلًا
طِبقًا لطبيعة الشخصيات التي يقدمونها على الشاشة أو المراحل
العمرية المختلفة التي نراهم بها في الفيلم، وهذا فضلًا عمّا
يُمكن إدخاله أو حذفه طبقًا لمتطلبات الشخصية الدرامية،
كالندبات والنمش والوشوم والتجميلات والتقبيحات طبقًا لمتطلبات
الدراما.
وذلك عن طريق عمل مسح كامل للوجه والجسم وإدخال التغييرات
المطلوبة عليه بدرجة عالية من الدقة، وهو ما رأيناه مثلًا في
فيلم الرجل الأيرلندي لمارتن سكورسيزي من إنتاج 2019.
حيث رأينا كبار النجوم أمثال روبرت دى نيرو وآل باتشينو وهم في
مرحلة الشيخوخة وقد أعادتهم الصورة إلى سن الشباب بدرجة لا
نستطيع أن نقول إنها وصلت إلى أقصى ما يمكن تحقيقه، لأن هذه
البرامج تفاجئنا بتطور كل يوم بل كل ساعة.
مع استحداث تقنية الإنتاج الرقمي، فإن مراحل ما بعد الإنتاج
(المونتاج والماكساج.. إلخ) التي كانت تتحقق بعد نهاية
التصوير، أصبحت توجِد إمكانية عمل ملف للفيلم أوتوماتيكيًّا
فور تصوير اللقطات.
لم تتوقف حدود دور الثورة الرقمية على تقنيات السينما بل امتدت
وبكل تأكيد على أساليبها الفنية والإبداعية، فساعدت تكنولوجيا
الفيلم الرقمي على تعميق مفهوم الواقعية السينمائية بما وفرته
من إمكانيات أسهل في تصوير الواقع الحقيقي بكاميرات صغيرة
الحجم سهلة الحمل.
في الواقع باتت معظم الأفلام الأمريكية وغير الأمريكية تُصوَّر
بالديجيتال بسبب طواعيته لكن مدير تصوير «لا لا لاند» لينوس
ساندجرن الذي فاز بالأوسكار قبل أيام يقول عن هذا الفيلم:
«آخر ما أراده المخرج داميان شازيل لفيلمه "لا لا لاند" هو أن
يبدو طبيعيًّا، وأول ما أراده وبحث أمره مع مدير تصويره هو كيف
يمكن منح الفيلم رؤية جمالية تشابه الأفلام الموسيقية
الكلاسيكية في الخمسينيات والستينيات. الاختيار كان واضحًا:
التصوير بكاميرا سينمائية». وهكذا أصبح استخدام الكاميرات
السينمائية هو الاستثناء وليس القاعدة.
فى عام 2017 تنافست ثلاثة أفلام من تلك التي رُشِّحت إلى
أوسكار في فرع أفضل تصوير استخدمت كاميرات السينما التقليدية
لتصويرها، وهي: «صمت» لمارتن سكورسيزي، و«سياجات» لدينزل
واشنطن، و«لا لا لاند» لداميان شازيل.
في العام نفسه صُوِّر أكثرُ من عشرين فيلمًا في الولايات
المتحدة بتقنية السينما، اختير التصوير بكاميرا فيلم لأسباب
فنية بحتة، مثل قدرة الفيلم على نقل صورة دقيقة لتعابير الوجه
أو مثل قدرته على منح الألوان حدةً لا يمنحها الديجيتال، أو
مثل ضرورة استخدام عدسات لا تمنح التصوير بالديجيتال المزايا
ذاتها التي تمنحها لكاميرا الفيلم.
على جانب آخر وفي مجال السينما التسجيلية والدوكيودراما أمكن
لأساليب الديجيتال أن تضيف كثيرًا، سواء على مستوى الصورة
الحية بسهولة التصوير والحركة بكاميرات الديجيتال الخفيفة في
الأماكن الحقيقية الشعبية أو ذات الطبيعة الوعرة، أو على مستوى
تخزين واستحضار مواد أرشيفية بلا حصر، أو بأساليب تصحيح الصورة
والربط بين مواد مصورة بأساليب مختلفة، وفي أزمنة مختلفة.
إن الكاميرا الرقمية لأنها صغيرة الحجم ومناسبة ورخيصة الثمن
وسهلة الحمل والتطويع لمقتضيات البيئة المرغوب تصويرها وكذلك
قدرتها على التسجيل وحفظ الصور في مساحة تخزينية كبيرة عالية
الجودة أكثر من أي نوع كاميرات آخر. كُل هذا يُساعد الكاميرات
الرقمية لتلعب دورًا حاسمًا في هذه المزايا التنافسية.
إن الواقعية السينمائية في أبسط تعريفاتها وكما عرفها أندريه
بازان هي «الاستحضار الكامل والكلي للحقيقة» وهو استحضار لما
هو موجود في المسافة بين الحقيقة والمشهد المأخوذ عنها.
فمن خلال الكاميرا الرقمية أمكن لعالم الفيلم أن يدخل مواقعَ
ذات طبوغرافيا صعبة وأن يقتنص المصور لقطات في أماكن عالية
الخطورة دون أن يشعر به أحد، ودون أن يتعرض لأي خطر كان يمكن
أن يواجهه بكاميرات السينما بأحجامها الكبيرة وأوزانها الثقيلة
بل إنّه في كثير من الأحوال جرى تطوير فكرة فنان الوحدة
المتكاملة أو المخرج الذي يقوم بالتصوير والمونتاج بنفسه.
بالنظر إلى الوضع الحالي لمستوى الصورة الرقمية من حيث عمق
الألوان والدقة التقريبية والنعومة والضبابية فقد أصبح من
الصعب على غير المتخصص، بل ربما بعض المتخصصين أنفسهم أن يميز
بأى حال من الأحوال،بينها وبين الصورة السينمائية.
هكذا أمكن لكاميرات الديجيتال أن تحل محل الكاميرات السينمائية
في معظم الإنتاج وأن تفرض على دور العرض أن تحيل نظامها إلى ما
يناسب عرض هذه الأفلام، لتحقق النجاح الجماهيري والانتعاش
التجاري المطلوب.
إن نجاح وانتشار الأفلام المصورة بالكاميرات الرقمية هو تأكيد
أن ملاحقة التطور أمر لا بُدَّ منه، وأن من يقاوم حركة التقدم
والتغيير سيسقطه التاريخ، وقد أصبحت أفلام الديجيتال أمرًا
واقعًا لا يستطيع إنكاره أحد، وحتى إشعار آخر وظهور تكنولوجيا
جديدة أكثر منها تطورًا وإمكانيات وقدرة على تحقيق الصورة
الفيلمية بشكل أفضل وإمكانيات أقل وتوفير ظروف أنسب. |