حينما قتدم المخرج السينمائي والمسرحي إنغمار بيرغمان مسرحية (الشقيقات الثلاث) لانطوان تشيخوف على مسرح ميونخن سؤل عن سبب اختياره لتشيخوف ولماذا اختار هذه المسرحية بالذات، وكيف وصل بيرغمان الى تشيخوف، فكانت هذه الإجابة: الشقيقات الثلاث.. إبتهال لموتى وشكوى أشباح كيف وصلتُ الى تشيخوف! هذه ليست بالكلمة الدقيقة، لن تشيخوف مثل شكسبير، إنهما قدري في المسرح. إخراج تشيخوف وشكسبير على المسرح بالنسبة لي أعلى شكل للتعبير كفنان. مضى زمن بعيد حينما قرأت تشيخوف للمرة الأولى وأنا شاب، ورغم ذلك فانه لم يبرح عني طوال الخمسين عاما التي قضيتها في المسرح. وطوال هذه العقود اخرجت له مسرحية واحدة على المسرح هي ( النورس)، واذكر ان الجمهور حينها لم يتفاعل مع العرض المسرحي، وها انا أعود اليه ثانية، وكم ترى فان الاخراج المسرحي قبل كل شيء هو الخبرة والعمل، وها أنا أقدم ( الشقيقات الثلاث) للمسرح، ولكن ذلك لا يمنعني من إخراج ( بستان الكرز) و(بلاتونف) الذي أعتبره هاملت الروسي. ولكن لماذا (الشقيقات الثلاث) بالذات؟ لأنها قبل كل شيء، أعلى ما توصل إليه تشيخوف في البناء الدرامي، لقد بلغ الكمال فيها، أنها سيمفونية مسرحية عظيمة. يعرفونني في العالم كمخرج سينمائي، والبعض يعتقد بان المسرح بالنسبة لي هواية عابرة، أو إستراحة، ولكن الأمر ليس كذلك ابدا، فخشبة المسرح بالنسبة لي هي حياتي. أما السينما فهي بالنسبة ولع، ولكن لو خيرت، لكنت بلا شك انحاز للمسرح. لإن تفسير أفكار شكسبير وتشيخوف وأبسن وغيرهم من العمالقة وايصالهم الى المشاهد بالنسبة لي أهم من ان استجوب نفسي ( يقصد انه يكتب السيناريوهات لأفلامه بنفسه)، ولو لم أكن مخرجا لكنت حاولت ان اكون قائد فرقة سيمفونية. وبالرغم من ان كمال البناء الفني عند تشيخوف في هذه المسرحية هو الذي دفعني لاختيارها، لكن هذا ليس كل شيء، إنما لأن الإبداع، الفن عموما كما يبدو عند تشيخوف كما هو عندي، أشبه باختراق أعماق الحياة من خلال جدران صماء عالية. تشيخوف الفنان حسبما أعتقد ولد كثائر عظيم أيضا، وكان عليه أن يعيش ويبدع في سنوات الضنك، في ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة، لذلك فانني في بحثي دائما أرجع لتشيخوف، وكما ترون، فاني ثائر في فني، أحاول جاهدا إختراق الجدران الصماء. في إبداع تشيخوف هناك شيء آخر، وربما أساسي، يجذبني مثل المغناطيس، ألا وهو الشعور بالمسؤولية الأخلاقية أمام الناس. وليس صدفة أن صار تشيخوف طبيبا، لأنه في كل أعماله يشخص العلة بدقة، ومن هنا جاء إختياري لمسرحية (الشقيقات الثلاث)،. ,أثناء عملي فيها إستندت بالاساس على كل ما كتبه تشيخوف الى زوجته والى قسطنطين ستانسلافسكي، الى الأصدقاء، الى الممثلين والمخرجين. لإن مشهد تشيخوف في جزيرة يالطة، اثناء كتابته لهذه المسرحية يراودني أثناء عملي، ولا زال ماثلا أمام عيني: الطقس رديء، الكاتب يحن لموسكو حيث هناك الزوجة، الأصدقاء، الكتب، بينما هنا صحته تسوء، وكطبيب فانه يعرف بانه لن يعمر طويلا، وانه سيرحل من هذا العالم دون أن يرى سقوط العالم القديم، ودون أن يستطيع رؤية الانقلاب العظيم الذي سيهز العالم، وهنا وجدت المفتاح، ان تشيخوف، بدون أي أسف، وبدون أي حنين أو أيما شفقة، صور عالم الناس المحتضر، فحلم الشقيقات الثلاث بالعودة الى موسكو ليس إلا إبتهال لموتى وشكوى أشباح. السينما.. ومسؤولية الفنان الأخلاقية أما بخصوص السينما، فاعتقد، مع شديد الأسف، ان معظم الأفلام الأوربية فارغة، وهنا لا أقصد الناحية الحرفية، لأن المخرج السينمائي يجب أن يكون حرفيا جيدا بكل معنى الكلمة، ويحب حرفته الصعبة. أعتقد ان الموضوع ليس في المال، ولا في سيطرة المنتجين السينمائيين ولا أصحاب دور العرض والموزعين، لأن التقنية المعاصرة تسمح بانتاج أفلام قليلة التكاليف، كما ان التجربة تؤكد بان المخرجين الطليعيين يستطيعون توحيد قواهم ويعرضون افلامهم على الشاشة،لكن جوهر الأمر بالنسبة لي يكمن في وعي المخرج للمسؤلية الأخلاقية أمام الجميع، أمام الناس،ولكن كيف أفهم انا مسؤولية الفنان؟ إن السينما يجب أن تحمل للناس ليس فقط البهجة ولكن المنفعة أيضا، المنفعة بالضبظ، وهذا بالنسبة لي شيء لا يقبل النقاش. التأمل والتجسيد الإبداعي من وجهة نظري عمليتان مختلفتان مبدئيا، فالتأمل أو الملاحظة، اجد فيهما جانبي الخير والشر، فأناأستطيع تأمل الوجوه والأيدي وأهم الأعمال لساعات، ثم ماذا؟ بينما حينما أبدأ العمل في الفيلم، أبدأ بجمع المادة، وأختيار الأفضل منها، تقودني في ذلك، ليس مزاجي، وانما المسؤولية الأخلاقية، فأثناء العملية الإبداعية ليس هناك غير الفنان نفسه يستطيع ان يتصور حجم مسؤوليته أو مقدار النفع الذي سيجلبه عمله الفني للناس، ولكن بالتأكيد ام جماهير المشاهدين هم القضاة الحاكمون على العمل الابداعي في النهاية. يمكن للمخرج أن يصور أبشع الأشياء ويغلغل في أعماق الروح، ولكن خلال ذلك يجب أن يكون واثقا في ان هذا سيجلب النفع للناس، ويجعلهم أفضل، ويساعدهم في العيش، ومهما يكن، فان الرغبة في مساعدة الناس يجب أن تملأ على المخرج عالمه، وإلا فان الفن يتحول الى سلاح هدام ومسموم. يعتقد البعض، إنني فنان النخبة، لا أستطيع تصور ذلك، إنني أصنع أفلامي للجمهور، وأثناء عملي أفكر في مزاجية المشاهدين وتقبلهم الفني، واحتكم له، فاذا لم يحصل ذلك التفاعل بين الفيلم والمشاهدين فيما بعد، مثلما توقعت له، فهذا يعني ان الفيلم غير ناجح، طبعا ليس الأمر بهذه البساطة، فليس الأمر معادلة جبرية، فالفيلم يجب ان لا يكون ايضا احادي الجانب، وبسيطا كمسألة حسابية. فالموسيقى السيمفونية يتقبلها السامعون بشكل مختلف وتولد لديهم مشاعر مختلفة، لكن البشرية ومزاجها الجماعي للموسيقى الخالدة لم يخطيء أبدا. هكذا أيضا في الأفلام السينمائية الكبيرة، فمثلا فيلم (أماكورد - أنا أحلم) لصديقي العظيم فللينـي، رغم صعوبته وتعقيده، إلا انه فيلم رائع، ومفهوم للجميع، إنه يغني النفوس بالرغم من ان كل مشاهد يراه بشكل فردي وحسب فهمه، بينما على العكس في فيلمه (كازانوفا)، ففي رأيي انه يبتعد اكثر من اللازم عن المشاهد، وبالنسبة لي فان نجاح أو فشل أفلامي لا يتضح لي بشكل مباشر، فأحيانا يتحقق ذلك بعد مرور سنوات عديدة، فمثلا فيلمي ( بيضة الأفعـى)، لستُ واثقا لحد الآن، ان كان قد حقق مهمته ام لا؟ لقد أردتُ أن أصور مشاهد من حياة ألمانيا فترة جمهورية فايمار، وأردت ان استخدم الماضي من أجل معالجة مشاكل الحاضر، وتحذير الناس من إنبعاث الفاشية مجددا، ففي الولايات المتحدة أُنتقد الفيلم، فهناك لا يحبون الأفلام التي تتناول الصراعات الاجتماعية وتنتهي دون اية حلول مهدئة، أما في أوروبا فقد قوبل الفيلم بحرارة. الأفلام الكبيرة وطنية وقومية دائما، وهذا لا يتعارض مع عالميتها، لقد كانت لدي أسبابي للهجرة مؤقتا من السويد، لكن السويد وغاباتها، وبحيراتها وضفافها الحجرية، وناسها وتاريخها وملامحها الخاصة تعيش في روحي وقلبي. كما أستطيع أن اعمل الافلام في أي مكان باستثناء هوليوود، بغض النظر عن حاجز اللغة، ولكن مهما يكن، فبدون الوطن الأم، بدون شعبك، وجذورك، وبدون تلك العلاقة الحميمة معهم، عملك سيكون بلا معنى. موقع "إيلاف" في 20 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
عن تشيخوف.. والسينما.. ومسؤولية الفنان ترجمة: د.برهان شاوي |
مقالات ذات صلة:
|