إن كنت مبدعاً عراقياً فعليك أن لا تعد نفسك لجمهورٍ بعينه، فقدرك أن تنتقل من منفى إلى آخر!! هكذا علمتنا تجربة السنين العراقية الخوالي، وهذا ما تعلمه مبدعو العراق الذين تتوزعهم منافي الأرض بكل قساوتها وزهوها الخداع، قد تكون للعبارة قسوتها المبررة، تماماً كما للمبدع العراقي همه المبرر، ذلك المبدع الذي أعد نفسه لجمهورٍ يفهم لغته وهمومه وطموحاته، يفهم تاريخه وجذوره على أقل تقدير، لأنه يمتلك نفس التاريخ والجذور التي ينتمي إليها ذلك المبدع، ولكن وفي غفلة من التاريخ، يجد العراقي نفسه وقد اقتلع من أرضه ومن بين جمهوره، لينتقل من منفى إلى آخر مثقلاً بأحلامه وأمنياته وحنينه إلى وطنه. يمتاز المبدع العراقي عن غيره من المبدعين بأنه يصبح أكثر التصاقاً بجذوره كلما اتسعت جغرافية المسافة بينه وبين وطنه، وله ميزة صغيرة أخرى هي إنه وعلى الدوام مُستلب الحقوق ومُغيب عن الأضواء، فكثيراً ما نشكو من إغفال الصحافة وأجهزة الإعلام على كثرتها لذلك المبدع، حتى أصبح قسم كبير منهم منسياً على الرغم من أنهم لا زالوا منتجين، ولذلك، وحينما نعرف أو نسمع بأن هناك من يبحث جاهداً عن هؤلاء المبدعين وهو يحمل نفس الهموم التي يحملونها لأنه واحد منهم، ويسافر آلاف الكيلومترات حاملاً معه عدة العمل الثقيلة من كاميرات وأجهزة صوت وغيرها، نجد إن لهذا العمل وحده ثقله الثمين في أرواحنا نحن أشقاء المنفى. المخرج العراقي محمد توفيق، صاحب الخبرة الطويلة في الأفلام الوثائقية والتسجيلية، ذلك الفنان الذي يعيش المنفى منذ ربع قرن والذي يحمل هموم العراق تماماً كما يحملها من يبحث عنهم من مبدعين، حمل عدته واتجه إلى باريس ليلتقي بالفنان والشاعر العراقي محمد سيعد الصكار الذي أجبرته قرارات الحكومة العراقية من أن يتخذ من المنفى بيتاً هادئاً منذ العام 1978، أثمرت هذه الرحلة عن فلم سينمائي يوثق حياة وهموم وطموحات هذا المبدع العراقي، الفلم تحت عنوان " شاعر القصبة " وللعنوان دلالة جميلة لما هو معروف عن الصكار، فهو خطاطٌ للحرف العربي من خلال احتضانه لقصبة الخط، وهو شاعر مرهف لا تخلو قصائده من الهَمْ والوجع العراقي. رسم صورة المستقبل تأخذك الجمل الموسيقية الأولى لبداية الفلم إلى ذلك العالم الجميل، عالم المتحف البغدادي، حيث تكاد الموسيقى الممتدة بين النقر على الدفوف والضربات على أوتار العود أن تكون نفس الموسيقى التي عرفناها وسمعناها في أرجاء المتحف البغدادي، فموضوعة الفلم تحاكي متحفاً متنقلاً من الحروف والكلمات والأحبار والأوراق والقصائد، إنه تاريخ يمتد لأكثر من خمسين عاماً في عالم الخط العربي وهمومه، تأخذك الموسيقى التصويرية إلى متحف متنقل اسمه محمد سعيد الصكار. بطريقة ذكية من مخرج الفلم، نجد أن الفلم قد تم بناءه على ثلاثة قصائد شعرية من قصائد الصكار، تم اختيارها بدقة وحس فني عال من قبل المخرج، حيث يتناول القسم الأول منه بدايات رحلة محمد سعيد الصكار مع الخط العربي وكيف ترسخ حبه وولعه بهذا المجال، لينتهي هذا الفصل بمغادرة الصكار لوطنه مكرهاً. القسم الثاني من الفلم يتناول حياة الصكار في المنفى، أمنياته، تطلعاته، فسحة الحرية، بكاءه على وطن الحروف المستباح، ثم يترك لنا مخرج الفلم أن نتصور بناء الجزء الثالث من الفلم من خلال قصيدة " نافذة للوطن " والتي تترك لنا نحن المشاهدين رسم صورة المستقبل لكل مبدع أُقتلع من جذوره لعيش في منفاه أكثر من ربع قرن. ( يدي ) ورقُ الخطِّ ممتلئ برذاذ الحروف والحبرُ مكتنزٌ بالنوايا، ومعتصمٌ بالسكوتْ. ورقُ الخطِّ ممتلئ بالترقُّب والقصبة تتلوّى كأُنثى تنوء برغبتها وهنا وهناك / مئات العيون تراقب، والصمتُ يصرخُ، / واليدُ راقدةٌ، والأصابعُ لا تستجيبْ. زمنٌ يترنّح بين الأصابع يُنبؤني باغترابٍ جديد. بهذه الكلمات من قصيدة الصكار يأخذنا المخرج محمد توفيق برحلة مع بدايات الصبي محمد سعيد الصكار في مدينة " الخالص " ( 50 كيلومتر شرق بغداد ) والتي بها عرف أسرار الحرف العربي من خلال كلمة بسيطة كانت مكتوبة بخط الرقعة على باب أحد المحلات، إنها كلمة ( رانية ) كان ذلك في العام 1946، ثم ينتقل هذا الصبي مع عائلته إلى البصرة ليجد لعبة جديدة كان الصبية في شارع " أبو الأسود الدُؤَلي " يمارسونها فينخرط بينهم ليلعب معهم لعبة الخط بالطبشور على الإسفلت والجدران ليترسخ عنده شغفه بالحرف العربي ويسمر بعناد كبير في تعليم نفسه كيفية كتابة الحروف بأشكالها الرشيقة والساحرة من خلال تقليده لخطوط الخطاطين الأئمة. لم يتعلم الصكار فنون الخط العربي على أي أستاذ للخط، ولو تسنى له ذلك لاستطاع أن يختصر الزمن الطويل الذي استغرقه في تعليم نفسه لهذا الفن الساحر، حيث يظهر فلم " شاعر القصبة " حيثيات دقيقة في عمل الصكار من حيث التقنية العالية والدقيقة التي يستخدمها هذا الخطاط العنيد من أجل إخراج مقولة أو حكمة أو حديث أو آية قرآنية لها مدلولاتها الإنسانية، فالصكار يستخدم في لوحاته نصوصا متنوعة، تكمن أهميتها في قيمتها الإنسانية، فربما يأخذ هذه النصوص من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أبيات شعرية أو حكمة أو حديث. وبعد أن يُظهر لنا الفلم، الفنان محمد سعيد الصكار وهو يحتضن تُحَفه ومقتنياته الفنية النادرة التي حصل عليها من خلال مشوار عمره الفني الطويل، وكيف تأثر بالخطاطين أصحاب هذه التحف الفنية مثل الخطاط عماد الحسني الذي يعد صاحب أحسن يد أمسكت قلم في الخط الفارسي، وابن البواب الذي عاش في القرن الرابع الهجري والذي ابتكر ثلاثة عشر خط جديد لم تكن موجودة في تاريخ الخطوط، وياقوت المستعصمي الذي كان آخر خطاطي بغداد حيث جاء من بعده الخطاطون الأتراك، تنتقل بنا عدسة الكاميرا وهي تحصر شخص الصكار في صورة بورتريتة ليتحدث عن محنته التي عاشها وهو في العراق بعد أن أُتهم بتهمٍ باطلة كادت أن تؤدي به إلى ساحة الإعدام لأنه رفض الانضمام إلى حزب السلطة، حاولت عدسة المخرج محمد توفيق أن تلتقط الألم الذي كانت ذكريات الصكار تأن به لترتسم حيرة على عينيه، حتى تصل إلى حالة الانفجار عندما يبين الصكار كيف أنه أتلف كل ما تحتويه مكتبته بعد أن خرج من هذه الأزمة الخانقة، فلقد أحرق كل الأفلام والمسودات والمشاريع ووزع ما يقارب على خمسة آلاف كتاب على أناس لا يعرفهم، لأنه قرر ترك هذه البلاد ولا يريد أن يترك شيء قد يشده إليها مادامت هذه السلطة الهمجية تحكم العراق. هكذا ينتهي القسم الأول من الفلم مع هذه العبارات الموجة، ثم نشاهد الفنان محمد سعيد الصكار جالس على كرسي إحدى مقاهي شارع الشانزيليزيه وهو يدون بعض الكلمات وصوته يتلو كلمات من قصيدة " الكلمات " ليبدأ مشوار القسم الثاني من الفلم. ( الكلمات ) مَنْ يمنحني لغةً خارجَ ما يحوي القاموسُ، تسافر بيّ خارج حدَّ الوعي، وفوق مدارِ الأشياءْ ؟ / لغةً لا تُفهمُ، كي أكتبَ عمّا يجري بين النهرينِ وأربيلَ وسامرّاء. لا أسأل عن لغةِ القرآنِ أو الانجيلِ أو التوراةْ أسألُ عن لغةٍ ضدَّ المعنى، ضدَّ المنطقَ، / ضدَّ الإدراكْ، كي أكتبَ عمّا يجري في وطني، هل فيكمْ مَنْ يُسعفُ هذا الشاعرَ بالكلماتْ. سنين المنفى خصص المخرج محمد توفيق هذا الجزء من الفلم لسنين المنفى التي عاشها ولا يزال يعيشها الفنان محمد سعيد الصكار مثله مثل آلاف المبدعين العراقيين الذين رفضوا الانضمام إلى حزب اللصوص والقتلة، حيث تبدأ هذه المرحلة بكلمات على لسان الصكار وهو يقول: عندما أتيت إلى باريس كنت أعرف تماماً بأني لم آتي لها سائحاً، بل أتيت لائذاً بها مما تملكه من فسحة من الحرية وآفاق ثقافية، بهذه الكلمات التي تحمل وجع العراقي الذي يتوق إلى فسحة الحرية وهي تنمو وتتسع في بلاده، يأخذنا مخرج الفلم إلى عالم الصكار اليومي في منفاه، حيث ينتقل بنا وبصحبة هذا الفنان الرقيق وهو يتجول في متاحف باريس، يُمعن النظر في الخطوط الفرعونية ويتفحص الأشياء البسيطة التي تكتنز الإبداع، وفي شوارعها حيث يلتقي الصكار بفنانين عراقيين يفترشون الأرصفة الباريسية ليصوروا السياح بألوانهم الساحرة، هؤلاء الفنانون الذين دخلوا تاريخ الفن التشكيلي العراقي والعالمي من أوسع أبوابه، والذين لهم في أرض العراق فنانون تأثروا بهم، نشاهدهم يفترشون أرصفة المنفى ليؤمنوا لقمة العيش، يمر بهم الصكار ليطمئن عليهم وكأنه الأب الذي يتفقد أولاده، هذا ما أظهرته لنا عدسة المخرج محمد توفيق. تتجلى حبكة السيناريو البسيطة والمتقنة التي كتبها مخرج الفلم في لقطة تنتمي إلى الزمن الحاضر من وقت التصوير، ولكنها وفي الوقت نفسه تأخذ المشاهد عن طريقة ( الفلاش باك ) إلى عالم الصكار عبر السنوات الخمسين الماضية، حيث تفترش صور الصكار أرضية واسعة من مشغله، ليُظهر لنا مخرج الفلم أهم الشخصيات الأدبية والثقافية العربية والعراقية وهم يقفون أو يجلسون جنباً إلى جنب مع الفنان الصكار، فنشاهد الشاعر محمد مهدي الجواهري، وسعدي يوسف ومهدي المخزومي، أميل الحبيبي، أودونيس، محمود درويش، عبد الوهاب البياتي، أخت الصكار (الحاجة أم حازم )، محمد أركون، محمد برادة، والد الصكار الذي كان يعمل صبّاغاً للملابس والأقمشة والذي تعلم منه الصكار تقنية اللون، وأخوه حميد، ثم لطفي الخولي ويوسف إدريس، وغيرهم الكثير. وضع المخرج محمد توفيق في فلمه " شاعر القصبة " وعلى طوال 55 دقيقة أمام عيني المشاهد، عالم مفعم بالذكريات، عالم الصبية والكبار، عالم الإبداع وصراعه المرير مع السياسة، عالم العشق لتراب الأرض " الأم " ورائحة المنفى، لينتقل في قسمه الثالث والأخير إلى عالم غاية في التركيز وسعة المخيلة، ليعطي للمشاهد فسحة من التأمل ليرسم بنفسه مستقبل المبدع العراقي الذي أصبح المنفى بيته الذي يحن إليه طالما ابتعد عنه، تأتي بداية هذا التأمل من خلال كلمات قصيدة للصكار يلقيها بصوته مع تقنية إنارة جميلة تنبثق من الأسفل لتتوزع على ملامح وجه الصكار وكأنها منبثقة من داخل جسده النحيل. ( نافذة للوطن ) صرتُ بالأمس عصفورةً، قلت: يا وطني / على أي غصن أحُطُّ، وفي أي دار ؟ / فلمَّ عباءته العسجدية ثم أشارْ فألفيت عشي على كل دارْ. صرتْ بالأمس سنبلةً / قلت: يا وطني إن تُجعْ فالتمسْ من حنيني مآكلْ فلمَّ عباءته العسجدية ثم انحنى وباركني، فترفعتُ سبعَ سنابلْ صرتُ بالأمس نافورةً، / قلت: يا وطني عندما يجهدونك بلّلْ لديَّ جبينكْ، واتخذْ من حنينيَ خيمة / فأجرى على كتفي راحتيهْ، وفجّر بيّ شوق كل الوجود إليه. صرتُ بالأمس نافذةً، / قلت: يا وطني أطِلَّ على الكون عَبرَ ضلوعي وسافرْ على هُدْب عيني إليه، فلمَّ عباءته العسجدية ثم انحنى وعانقني، فغفوتُ على ساعديه. حسين السكاف Al-sagaaf@maktoob.com موقع "سينمائيون" في 21 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
الوجع الأنيق في أنين القصبة "الصكار" وثيقة وجع عراقية بعدسة المخرج محمد توفيق حسين السكاف |
مقالات ذات صلة: المخرج محمد توفيق: الفيلم الروائي هو الحلم
|