اعتبر عرض فيلم «فريدا» التي وقفت وراء انتاجه وقامت بتمثيل الدور الرئيسي فيه النجمة المكسيكية ذات الاصل اللبناني سلمى الحايك في اكثر من مكان بالعالم، وفي الافلام المتنازعة على جوائز الاوسكار الحدث السينمائي الاهم في افلام العام الماضي. وعلى الرغم من ان الفيلم لم يحظ سوى بجوائز فرعية ولا عجب في ذلك فالافلام الكبيرة تثير حولها عادة واينما عرضت انقساما حادا في الآراء والتقديرات ما بين اعتبارها اعمالا تنتمي للغز الخالص وتستحق بالتالي تثمينها والنظر اليها كما يرى البعض - كأعمال صادمة بدرجة قاسية للذوق السائد بصريا وتعبيريا وفكريا. «فريدا» عمل سينمائي مدهش وجذاب بأن يتصف بشفافية خاصة وبمستويات متعددة للرؤية والتفكير والاستمتاع ورغم غوصه في تفاصيل كثيرة في حياة الفنانة التشكيلية المكسيكية فريدا كهلو التي عاشت حياة صاخبة امتزج فيها العنف والفن على نحو قل مثيله الا انه في الاصل والاساس يظل عملا من اعمال السينما الخالصة التي تستخدم اللوحة التشكيلية وعناصر المسرح واللون والاضاءة والموسيقى والمعمار والتعبير الجسدي والصوتي لصياغة رؤية الفنان للعالم. اخذ فيلم «فريدا» الكثير من جهد وتفكير ووقت ممثلته في الابتعاد عن سلسلة الادوار التي جسدتها من داخل مفاهيم السينما الاميركية الدارجة، وتوقفت فيه مليا قبل ان تأخذ على عاتقها انتاج مثل هذا الفيلم ويصبح منافسا قويا لافلام شبيهة قبل ان يصير اليوم حديث الاوساط السينمائية في العالم كله. فالسيناريو الاصيل والمبتكر الذي وضعه ادوارد نورتون وجعل فيه احداثه تدور في حقبة العشرينات من القرن الماضي حيث يبدأ العمل من حيث سنعرف خاتمته بعد ساعتين. فالفنانة التشكيلية فريدا تستلقي على سرير خشبي ومجموعة من الرجال تحمل السرير وتخرج به لتضعه في الحافلة التي ستسير به، وفي الطريق الوعرة يأخذ وجه فريدا بالاهتزاز وتبدأ رحلة الذاكرة في تواز مع رحلة الشاحنة ورحلة الألم والمعاناة عندما وقعت لها حادثة سير نجت فيها ولكن مع جروح مدمرة وكسور عديدة في ساقيها وفي العمود الفقري، ولم يكشف عنها في حينها مما كان له الدور الرئيسي في المشاكل الصحية والنفسية التي لازمتها لاحقا وادت بالتالي الى بتر ساقها. مما حدا بها الى المكوث في الفراش فترة طويلة ولتبدأ في تمضية وقتها برسم شخصيات لاقاربها ووجهها ومعارفها وتأخذ في عرض رسومها على الفنان التشكيلي المكسيكي الشهير انذاك دييغو ريفيرا الذي يرفض التعليق على رسوماتها بالبداية كونها لا زالت في طور التمرين والهواية، لكنه يشير عليها بانها ان كانت تود ان تكون فنانة بشكل حقيقي عليها ان ترسم وترسم ولا تحتاج لشهادة احد، لكن هذا الشخص المعروف على نطاق واسع في بلده كسياسي ومبدع لا يتوانى عن التعريف بها في اكثر من مناسبة اجتماعية وفنية لتبدأ بينهما علاقة حب جارف تستمر معها طيلة حياتها، لكنه حب لا يخلو من المفاجآت، استطاع ان يشعل رغبة فريدا بالاستمرار والانغماس بالحياة في واحدة من اروع قصص الحب التي تتبدل فيه الاحاسيس المتناقضة، والادوار المقنعة وتجعل المشاهد يتوقف مليا باندهاش امام رؤية مصدر الفرح حين يكون هو ذاته منبعا للألم. فلم يتوان ريفيرا عن خيانة فريدا مرارا وتكرارا مع نساء عديدات علمت بامرهن في معظم الاحيان، مما ادى الى اصابتها بالخيبة والمرارة التي عبرت عنهما في سلسلة من الصور واللوحات لقد ارتبط ميلاد فريدا بالثورة المكسيكية في العقد الاول من القرن الماضي وعرفت في طفولتها الكثير من مظاهر الشقاء والتمرد على النظم والتقاليد والاعراف السائدة ببلدها، وتزوجت من ريفيرا مرتين ونذرت حياتها له دون ان تخلو حياتها من عشاق ولئن اشار البعض كما يبرز الفيلم في عدد من مشاهده الى علاقات مثلية ومن بينهم ليون تروتسكي واندريه برايتون، فقد ظلت شغوفة برسم نفسها في محاولة لتعويض النقص في شخصيتها وحرمانها الفسيولوجي، وهناك الكثير من لوحاتها تدور حول جسدها مسبغة عليها موروث الفن المكسيكي كأنها عناوين للألم الانساني وتتفاوت ما بين الفرح والموت وهي الوافدة الى عالم الابداع بسبب انحدارها من عائلة كالت لها الكثير من المودة والحب والسعادة وخصوصا والدها المصور الفوتغرافي الذي كان يأخذها الى عمله رغم ما كان ينتابه احيانا من نوبات صرع. رسمت فريدا نفسها محاطة بحيوانات أليفة اعتنت بها في مدينتها وداخل بيتها فكانت بمثابة العائلة لها، وفي احدى لوحاتها المؤثرة ترسم فريدا نفسها كغزالة تخترقها الاسهم داخل غابة موحشة وكانت دائما تردد «انا سعيدة طالما انا ارسم»، وعدت انها المرأة الاولى التي اشترى لها متحف اللوفر بباريس لوحة. ولم تغفل فريدا علاقتها الغريبة بديييغو ريفيرا في لوحاتها حيث جعلته عنوانا لاكثر من لوحة واشركته معها في قلب لوحاتها وخصته باطار من الالوان المتدفقة المخضبة باللون الاحمر تدمغها بكلمات دالة على مضامين الرسومات. يتخذ فيلم «فريدا» من الماضي القريب اطارا عاما زمنيا لموضوعه، غير ان هدفه الاساسي ليس التطلع المسحور الى تلك الحقبة او رسم صورة زاهية لبطلته وسلوكياتها ولا حتى تأمل مسار وانفراجات الحقبة الفائتة، بل يدفع بالمشاهد الى حكايات يرتدي ابطالها ملابس كلاسيكية وتدور داخل ديكورات واجواء تلك الفترة لكنها شديدة المعاصرة في صورها وصراعاتها ومغزاها وانماطها الانسانية. فالفيلم يرتكز في كثير من احداثه على السيرة والمعلومات التاريخية المتعارف عليها في حياة بطلته «فريدا كهلو» مثلما يكثف في جوانب ابداعية موازية للحظة آنذاك في بلد مثل المكسيك المجبول بهموم وتحولات واقعه السياسي والاجتماعي والابداعي، وعلى هذا الاساس فالفيلم يعمل على احياء الفترة التاريخية واماكنها: صالات العرض، بيوت الفقراء، القصور، الملابس الشعبية الكلاسيكية، التي طالما كانت فريدا حريصة على ارتدائها في كافة المناسبات. مثلما يكشف عن الكثير من العلاقات المتوترة والمضطربة بين شخوصه، الوان ساحرة، وديكورات مدهشة وجذابة وممثلون في ادوارهم التي تليق بهم فعلى سبيل المثال سلمى الحايك هنا في دور العمر وكذا الامر بالنسبة لالفرد مونيو بدور ريفيرا والاجمل من هذا كله الظروف التي قادت الى تحويل العمل الى الشاشة البيضاء. حين اخذت سلمى الحايك على عاتقها القيام بانتاجه في الوقت الذي سعت اليه مادونا وجنيفر لوبيز اثنتان من اشهر نجوم الغناء والسينما في استباقها بتمثيل دور فريدا المليء بالعنفوان والفرادة والتمرد وحب الحياة. وبالفخر ببلد مثل المكسيك المجحف بحق ابنائه المتحدرين من الطبقة الدنيا وبمبدعيه كذلك. ينهي فيلم «فريدا» احداثه بمشهدية احتفالية بارعة حيث معرض فريدا الشخصي الاول، ومشهد للوحة تحترق وهي تستقر على لهب يخرج من معدتها بكل اثارة وصخب الموسيقى والالوان تحيط برسوماتها التي اقتربت فيها من المدرسة السوريالية. في فيلم «فريدا» نحن ازاء عناصر ابداعية مكتملة بصمود بطلته في مواجهة حياتها القصيرة المشحونة بالملامح الانسانية والفنية لما تختزنه بالكثير من مشاعر الألم والرهافة تفجرها على الشاشة البيضاء فرحا ودموعا في اخراج فائق الحيوية والانضباط واكتملت فيه شروطه الابداعية وقطف بجدارة اوسكار افضل قصة مكتوبة خصيصا للسينما. جريدة الرأي في 21 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"فريدا" لوحة بصرية مخضبة بالألم والمعاناة والألوان ناجح حسن |
مقالات ذات صلة:
|