"لقد شاهدت كل أفلام المسابقة، بمهرجان برلين لزملائي، وأتصور أن هناك الكثير من الأفلام الجيدة التي تستحق المشاهدة، لكن ما حدث أنني أصبحت الفائز الوحيد..؟!" هذه الكلمات هي التي ألقاها المخرج الروماني الشاب كريستي بيو علي جمهور الحاضرين بإحدي دور العرض الألمانية وذلك بعد ساعات قليلة من إعلان لجنة التحكيم الرسمية للأفلام القصيرة فوزه بجائزة الدب الذهبي كأفضل فيلم روائي قصير في دورة برلين الحالية.. كلماته جاءت ضاحكة متواضعة عميقة تماما مثل عمله القصير الذي يستغرق عرضه ثلاث عشرة دقيقة، فوزه بهذه الجائزة لم يكن هو المفاجأة السعيدة الوحيدة.. لكنه فاز أيضا بجائزة مشتركة بين مهرجان برلين وأكاديمية الفيلم الأوروبية، وتبلغ قيمتها ألفي يورو كما أنها ترشحه مباشرة للتسابق ضمن جوائز أكاديمية السينما الأوروبية لعام 2004، وقد جاء في حيثيات الجائزة الثانية أنه قد تم منح الفيلم الروماني "لفة سجائر كنت" وكيس بن أو كما تم ترجمته.." سجائر وقهوة" هذه الجائزة عن جدارة،. لما تتميز به من فكرة عميقة سهلة بسيطة وأسلوب حكي مؤثر وديالوج بارع، يطرح معالجة جذابة تمس المجتمع الروماني بقوة، وهو في النهاية فيلم قليل التكاليف لا يمتلك إلا ميزانية ضئيلة، فعلي مدي أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الرابعة والخمسين، لاحظنا وجود خيوط مشتركة بين بعض هذه الأفلام علي تنوعها، ومن بين هذه الملامح المشتركة ظهور أكثر من ثنائي الأبطال الذي يتسم بالتركيبة المختلفة المركبة، التي أدت بطبيعة الحال لاتخاذ الصراع الدرامي مسارا مختلفا نابعا من عقلية وتفكير وتصرفات ودوافع وأهداف هذه الثنائيات. وقد اخترنا هنا نموذجين متناقضين تماما لتحليل هذه الزاوية، وذلك علي مستوي طبيعة طرفي الصراع والظروف المحيطة واختلاف المناخ الثقافي الفكري الإنساني تماما، وأيضا علي مستوي استقبال الجمهور العادي والمتخصص لهذين العملين بين ترحيب كبير ونفور واضح من الغالبية، علما بأن الفيلمين لم يحصلا علي أي جائزة في المهرجان. أما الفيلمان فهما الأمريكي "قبل الغروب" إنتاج 2003 ومن إخراج ريتشارد لنكلاتر، والألماني "الليل يشدو بأغانيه" إنتاج 2003، ومن إخراج رموالد كرماكر. والمصادفة الغريبة أن الفيلمين يصلحان تماما للوسيط المسرحي، أي أنهما في واقع الأمر ربما تكون خشبة المسرح هي الأفضل خاصة الفيلم الألماني الذي أصاب الجمهور بصدمة كبيرة وإحباط واضح. لنبدأ بالفيلم الأمريكي "قبل غروب الشمس" الأكثر إشراقا، الذي يعد الحلقة الثانية، والاستكمال المنطقي للفيلم الأمريكي "قبل شروق الشمس" لنفس المخرج ونفس المملثين والشخصيتين الذين يستكملون الأحداث التي بدأت في الفيلم الأول عام 1994.. ففي الفيلم الأول "إيثان هوك" بالفتاة الجميلة سيليه "جولي دلبي" بمدينة فينيا وقضيا معا أوقاتا جميلة ووقع كل منهما في غرام الآخر بقوة وبسرعة أيضا، وفي النهاية تواعدا علي الالتقاء بعد ستة أشهر، وهكذا أسدل الستار علي الأحداث دون أن يعرف المتلقي مصير هذا العهد الجميل بين الحبيبين، ثم جاء الفيلم الثاني "قبل غروب الشمس" ليقوم بهذه المهمة ويؤكد أنه بعد مرور عشر سنوات لم يحدث أن التقي البطلان أبدا، وها هما الآن يلاقيان بعضهما البعض بالمصادفة البحتة في مدينة باريس ويدخلان في حوار طويل.. وعندما وصفنا الحوار أنه طويل فهو وقة قصدنا وصف الحوار بالطول بكل ما تعنيه الكلمة، لأن الفيلم ببساطة لعب مع المتلقي لعبه، ذكية مسلية عندما صب البناء الدرامي للعمل بأكمله علي هيئة ديالوج واحد مقسم إلي عدة مقاطع بين البطلتين، بدآه واستكملاه ولم ينهياه عبر تجولهما في شوارع باريس وجلوسهما علي أحد المقاهي حتي استقرا في النهاية في منزل سيلين وانتهت أحداث الفيلم إذا كانت هناك أحداث أصلا وهما يأخذان لحظة هدنة بسيطة، ليستأنفا الحوار مرة أخري بالتبادل أو بالتداخل لكنهما مع ذلك يسمعان ويفهمان بعضهما البعض وهذا يكفي... لعبة سينمائية جميلة أن يقدم الفيلم وكأنه مشهد واحد طويل مقطع إلي عدة أشواط بتغيير الأماكن فقط لا غير، كما أن السيناريو الذي شارك في كتابته المخرج مع البطلين طابق بين زمن العمل والزمن الواقعي، أي أن الوقت المتبقي أمام البطل للحاق بطيارته كان لا يتعدي ثمانين دقيقة، وهذه الدقائق هي نفس زمن هذا الفيلم القصير نسبيا، الذي أثار ضحكات الجمهور كثيرا عندما اكتشف اللعبة وتضامن معها ودخل شريكا فيها بوصفه الشاهد الوحيد علي الأحداث السابقة في الفيلم الأول، وها هو يتمتع بميزة عظيمة وهي متابعة بقية الأحداث عن قرب بمصداقية، في نفس لحظة حدوثها دون تدخل الرد أو وجهات نظر خارجية مفروضة عليه؟ وهذه هي متعة حرية التلقي. أقام المخرج منهجه البصري في هذا الفيلم علي أساس التفاعل بأدواته مع المواقف علي ظاهرها، دون أن يحاول التدخل ولو بالإيحاء أو الإيهام أو الإشارة البعيدة إلي كذب شخصية ما في لحظة ما مهما كانت درجة سذاجة الكذبة.
العربي المصرية في 29 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
إنتصار للأفلام منخفضة التكاليف في دورته الـ 54: الليل يشدو بأغانيه.. في مهرجان برلين نهاد إبراهيم |