في السينما كما في الأدب وبقية الأجناس الفنية الأخرى هناك أعمال كثيرة سرعان ما يتبين أن لا مبرر لوجودها في أي زمان أو مكان سوى رغبة من يقف وراءها، الكاتب أو المخرج في إنتاجها. وفي العادة، فان مثل هذه الأعمال “الأدبية” أو “السينمائية” تفتقد الموهبة وتفتقر الى الخبرة والمهارة الحرفية. وفي حين أن الكتابة في مجال الأدب، سواء أكان قصة أم رواية أم مسرحية، أم قصيدة، هي جهد فردي لا يشكل إنتاجه ونشره عبئاً على أحد غير صاحبه الذي، إن فشل عمله ولم تتقبله النخبة والجماهير سواء بسواء، فهو وحده يتحمل نتائج فشله، وإن نجح عمله إبداعيا أو مجرد أنه راج جماهيريا، فإن ذلك لا يعود عليه بالفائدة فقط، بل إن نتاج عمله يصبح ذا قيمة ثقافية اجتماعية عامة، لأن الفيلم السينمائي نتاج جماعي لجهد مجموعة أفراد لكل منهم تخصصه التقني والابداعي، واستثمار اقتصادي يهدف للربح ويرتبط بآليات تمويل وتوزيع متعددة، وبالتالي فان فشله يصبح عرضة للمحاسبة. وإذا كان ثمة مشروعية في الأدب للسؤال حول مبرر وجود هذا العمل الأدبي أو ذاك والذي لا يلبي لا متطلبات الإبداع ولا الحرفية الصحيحة ولا متطلبات السوق، فإن هذه المشروعية تصبح أكثر إلحاحا بالنسبة للأفلام السينمائية. في مجال ممارسة إنتاج الفيلم السينمائي الروائي ثمة تقسيم عام يفصل بين الأفلام الموجهة للجماهير العريضة وبين الأفلام الفنية الموجهة للنخبة. الأفلام الموجهة للجماهير العريضة هي الأفلام المقصود من ورائها من حيث المبدأ ان تكون ناجحة تجاريا وهي التي تشكل غالبية الإنتاج السينمائي في العالم، هذا في حين أن أفلام “النخبة”، التي تتهم بأنها أفلام مهرجانات سينمائية ونواد سينمائية، تبرر نفسها بقيمتها الفنية والفكرية وبطموحها الإبداعي. وهكذا بالتالي، إذا فشل الفيلم “ الجماهيري” تجاريا، وإذا فشل الفيلم “الفني” إبداعيا او شكلا ومضمونا، فإن السؤال حول مبرر وجود كل منهما على وجه البسيطة يصبح ضروريا ما دام كل منهما لم يحقق الأهداف المرجوة منه. ويحضرني في هذا الصدد سجال جرى ذات ندوة عن السينما العربية بين اثنين من السينمائيين العرب أثناء مهرجان سينمائي. أحد هذين السينمائيين كان قد أنجز للتو فيلما روائيا طويلا حاول من خلاله تحقيق طموحات إبداعية فنية “حداثية” بالدرجة الأولى عبر موضوع غير جماهيري وقدم من خلاله أفكاراً جريئة صادمة وغير تقليدية، وكان السينمائي الثاني قد أنجز فيلما روائيا طويلا أراده فيلما جماهيريا من حيث الشكل والمضمون ويعالج موضوعا مثيرا لتعاطف الجمهور. أبدى السينمائي الثاني إعجابه بالمستوى الفني للفيلم الذي أنجزه السينمائي الأول ولكنه استهجن، بالمقابل، تجربة إنتاج الفيلم ككل، لأنه فيلم غير جماهيري، فرد عليه السينمائي الأول ساخرا، مؤكدا أن فيلمه، على الأقل، يتمتع بقيمة فنية وهذا ما يبرر وجوده، في حين ان فيلم الثاني فقير فنيا وثبت انه كان فاشلا جماهيريا، فلا يستطيع تبرير أسباب وجوده بأي شكل من الأشكال. غير أن ثمة أسبابا أخرى تجعل الفيلم السينمائي يتعرض للمحاسبة عدا الأسباب المتعلقة بنجاح أو فشل الفيلم جماهيريا وتجاريا او بتمتعه أو بعدم تمتعه بالقيمة الفنية الإبداعية، منها أن السينما تتميز عن الأدب، من ضمن ما تتميز به، بكونها فن “الحاضر” و حتى لو لم يكن موضوع الفيلم مرتبطا بالزمن الحاضر وتتأكد هذه الخاصية اكثر إذا كان موضوع الفيلم معاصراً يرتبط بزمنه شكلا ومضمونا. وخاصية “الحاضر” السينمائية هي وليدة خاصية أخرى أعم ترتبط بطبيعة السينما العاكسة للواقع او الموهمة به، وما ينتج عنها من طبيعة التفرج على الفيلم السينمائي التي تجعل المتفرج يعايش أحداث الفيلم مثلما يعايش أحداث الواقع نفسه. فإذا ما شعر المتفرج بالغربة عن موضوع الفيلم وانه لا يعنيه بشيء أو إن كان الفيلم وما يقوله لا يعالج بأي شكل من الأشكال همومه الحياتية ولا يقارب قضايا مجتمعه وواقعه ولا يجيب عن الأسئلة التي تشغل باله، ناهيك عن عجز الفيلم عن الترفيه عنه، فإن الفيلم يكون، بالنسبة له على الأقل، خارج الزمان، وليس خارج الزمان فقط، بل أيضا خارج المكان، أي خارج التاريخ والجغرافيا معاً. راودتني هذه الأفكار بعد مشاهدتي لفيلم روائي طويل جديد، أخرجه العراقي المقيم في فرنسا عامر علوان والمعنون: “زمان رجل القصب”. والفيلم تم تصويره داخل العراق. تدور أحداث الفيلم في فترة حكم صدام حسين وتحديدا خلال الأيام السابقة للغزو الأمريكي للعراق. أماكن الأحداث تبدأ من المناطق الريفية في جنوب العراق قرب شط العرب وتتدرج صعودا مع نهر دجلة عبر المدن الصغيرة وصولا إلى العاصمة بغداد. وكلمة “زمان” الواردة كأساس لعنوان الفيلم تحمل دلالة مزدوجة، فهي أولا، تدل على اسم الشخصية الرئيسية في الفيلم وهو زمان، وهي ثانيا، قد توحي أو ترمز للعراق وللزمان العراقي في تلك الفترة. هذا فيما يخص عنوان الفيلم ودلالاته. أما واقع حال الفيلم فلا ينم عن شيء له علاقة بالعراق وزمانه، ربما باستثناء أنه تم تصويره في العراق، وباستثناء إشارة إلى التهديد الأمريكي بغزو العراق من خلال خبر يسمع في نشرة الأخبار من خارج “الكادر” ويمر في الفيلم على المشاهدين مرور الكرام. أما قصة الفيلم فيمكن تلخيصها، أو حتى سردها مفصلة، بالعبارات التالية: زوجة فلاح في جنوب العراق تصاب بمرض. ويصف لها الطبيب دواء لا يتوفر في المنطقة، فيقوم زوجها المحب العطوف المدعو “زمان” بالسفر في أرجاء البلاد على طول خط النهر في زورقه الصغير بحثا عن علبة الدواء، ويصل في نهاية المطاف إلى العاصمة التي لن يجد في صيدلياتها الدواء المطلوب، ثم يحالفه الحظ بعد طول عناء بالعثور على الدواء في أحد المستشفيات. ويعود به فرحا إلى زوجته ليفاجأ بأنه قد وصل بعد فوات الأوان وبأنها قد ماتت. هذا كل ما يحكيه الفيلم عبر قصته البسيطة هذه المجردة من أية علاقة بالواقع الاجتماعي والسياسي الخاص بالزمان العراقي آنذاك، القصة التي بدت أشبه بتقرير جاف خال من التأثير العاطفي عن رحلة رجل يبحث عن دواء لزوجته المريضة . عندما صار الفيلم جاهزا للعرض كانت أحوال العراق قد تحولت بصورة مفاجئة وتراجيدية، فقد حصل الغزو الأمريكي وتم احتلال العراق، وأصبح الزمان الذي دارت فيه أحداث الفيلم في خبر كان أو بالأحرى، أصبح خارج الزمان العراقي . من البديهي في حالة مثل هذه أن ينعكس الأمر سلبا على علاقة المتفرجين بالفيلم لأنهم لن يجدوا فيه ما قد يتوقعونه منه. غير أن مشكلة فيلم من نوع “زمان.. رجل القصب” لا تكمن هنا، بل هي موجودة في الفيلم ذاته لأنه، في الأصل، لا يقول شيئا، ولا يتضمن عنصراً مهماً سواء على المستوى الفني أو على المستوى الدرامي والسردي. حريدة الخليج في 12 يناير 2004 |
زمان رجل القصب فيلم خارج التوقيت العراقي بقلم: عدنان مدانات |
مقالات ذات صلة: "زمان رجل القصب" فيلم عراقي يثير الإهتمام في مهرجانات عالمية لقاء مع مخرج الفيلم "عامر علوان"
|