تُدار الدول اليوم كما الشركات الكبيرة. الاقتصاد... الاقتصاد... الاقتصاد.... بزنس... بزنس... بزنس.... حين يأتي الأمر الى الثقافة فهي كلمة واحدة لا تستخدم كثيرا. وفي الاجتماعات التي تعقدها مجالس الشؤون الأوروبية المعيّنة من قبل الاتحاد الأوروبي لدراسة هذا الوضع او ذاك، او تلك المنتمية مباشرة الى حكوماتها المختلفة، فإن الناحية الثقافية، كما تؤكد معطيات كثيرة، تتردد عندما تكون هناك حاجة لقطع الميزانية اما لأن هناك شحا في التمويل، او لأن هناك مشروعا استثماريا او اقتصاديا كبيرا يتطلب مالا أكثر مما صرف عليه. من أين يأتي المال؟ يأتي من ميزانيات وزارات الثقافة والمجالس المحلية وشؤون الدعم الاقتصادي للدول الأوروبية. مؤخرا، تم تقليص ميزانية صندوق الدعم السينمائي الأوروبي الى النصف. وفي مهرجان روتردام السينمائي الأخير تبيّن أن ادارته تدافع عن حصّتها من دعم الدولة لها. كذلك يفعل مهرجان لوكارنو السويسري الذي يتقاضى معونات من الحكومات المحلية. والعديد من المهرجانات الصغيرة والكبيرة وما بين الأوروبية تمر في ظروف اقتصادية صعبة، وهذه الظروف تفرض أوضاعا من البطالة التامة على عدد كبير من المخرجين الموهوبين، وهذا الوضع ليس اوروبيا فحسب بل عربيا ايضا من وجهتين مختلفتين: اذا ما تقلصت المساعدات الأوروبية لمخرجي أوروبا فإن المساعدات الأوروبية لمخرجي تونس ولبنان ومصر والمغرب وسواها من الدول العربية التي مدت جسورا صوب الغرب تتأثر. ايضا الوضع بالغ الصعوبة في كل شبر من أرجاء هذا العالم العربي. للخروج من حالة التعميم الى حالة من ذكر الدلالات المحلية او العالمية نضع أمام القارئ عددا من الحقائق والأحداث التي شهدها هذا الناقد او تتحدث عنها الدوائر السينمائية المختلفة، انها صور تعكس ما تشهده الحياة السينمائية في ظل النظام العالمي الجديد، في ظل سيادة الشركات الضخمة على المقدرات الفردية والإبداعية المختلفة، وفي عالم يبتعد عن الهوية الوطنية والثقافية لكل بلد في محاولته تحويل الناس كلهم، بصرف النظر عن حدودهم واختلافاتهم، الى مستهلكين عاديين يقبلون على الشيء الواحد، الشيء المعدوم كفائدة انسانية بشرية ثقافية، لكنه يدر، الكثير من الثراء والتأثير الاقتصادي على كافة المقدّرات الأخرى: في هذا الصدد نتحدث عن شركات مثل الهواتف الخليوية ومحطات التلفزيون الفضائية العالمية وشركات الإنترنت والمصارف وكافة ما أصبح من شرايين الحياة اليومية للفئة القادرة ولو بالكاد على المواكبة. لا عجب والحال هذه أن سقوط السينما التي تبحث في دلالات المجتمع وتحلل صوره هو بنتيجة غير مباشرة مراد النظام الدولي الذي نعيش فيه. العجيب هو أن هذه السينما ترفض أن تموت، وعلى الرغم من كل حالة حصار اقتصادي تعيشها هذه السينما الا أنها لا تزال موجودة، انها هناك لتفتح أعيننا ولتنتقد ولترفض، كما الحال في أفلام “أيام الاثنين في الشمس” (أسبانيا)، “كل شيء او لا شيء” (بريطانيا)، “مدينة الله” (البرازيل)، “ايدي” (بولندا)، “وداعا لينين” (المانيا)، “لا ملجأ” (المانيا)، “ليليا الى الأبد” (السويد) وأفلام كثيرة مختلفة. اذ يتبدى هذا الوضع واضحا لكل من لديه عينان تفحصان الحياة بتأمل ساكن، تتوارد المفارقات ذات الدلالات حول ما يعانيه الوضع السينمائي العالمي حاليا في مثل هذا الظرف. بالتالي بضع معايشات خاضها هذا الناقد او وصلت الى مسامعه من آخرين شهدوها. حكاية المخرجين العرب المختفين أمضى المخرج اللبناني برهان علوية ثلاثة أعوام من التحضير لفيلمه الجديد وبعد أن اعتقد أن التمويل العربي أصبح جاهزا، تم انسحاب جهة تمويلية عربية من العملية ما دفعه الى التوجه الى بلجيكا وفرنسا. بعد مباحثات مضنية وجد التمويل الكافي وبدأ المشروع (الذي لا يزال ينتظر عنوانا نهائيا). خلال التصوير نضبت الميزانية القليلة التي حددت للفيلم ووجد المخرج نفسه غير قادر على دخول استديو التوليف. يحاول الآن صاحب “كفر قاسم” الذي لا يزال الفيلم العربي والعالمي الوحيد الذي تناول مجزرة كفر قاسم في العام ،1948 انقاذ فيلمه ويتحدث لنا قائلا: “ليس هناك غطاء تمويلي اجنبي كما كان الوضع سابقا. لقد اكتفى الغرب من تقديم المساعدات لأفلام لا تحقق المرجو منها في الصالات الفرنسية. ومع ازدياد عدد الراغبين في ايجاد التمويل المناسب، بات مستحيلا ايجاد المنتج المناسب، وهذه مشكلة حقيقية: المنتج تحوّل من شريك في العملية الإبداعية الى منتج منفذ، إنسان آلي يُستخدم لكي يراقب سير الإنتاج ويتدخل لإلغاء هذا المشهد او ذاك اذا ما شعر بأنه مشهد مكلف وبذلك يستولي على مقدرات المخرج وقراراته”. في مصر يكاشفنا المخرج المعروف محمد خان بحقيقة الوضع هناك. يكتب مناجاته في رسالة هذا مقتطف لما ورد فيها: “تقع السينما المصرية اليوم تحت براثن ورحمة سياسة احتكار يقودها حفنة من الأشخاص هم المنتجون والموزعون وأصحاب دور العرض في آن واحد. ساعدت على هذا الاحتكار قوانين استثمار حددت رأسمال المال مما سبب تقلص المنتج المستقل وحوّلت من بقي منهم الى ما يسمى بالمنتج المنفذ. هذا الى جانب انتشار أفلام تكاد تكون متشابهة شكلا وموضوعا تحت شعار “أفلام شبابية” يلقبها آخرون بالأفلام المنسية. ويسعى منتجو هذه الأفلام الى الربح السريع بتوزيع أكبر عدد من النسخ للفيلم الواحد في أكبر عدد ممكن من دور العرض والاحتفاء بتسويقها في الأعياد والعطلات الرسمية من كل عام. اما بقية السنة فالاعتماد الجوهري على تسويق الفيلم الأجنبي السائد وخاصة الفيلم الهوليوودي. في هذا المناخ والمستنقع أصبح من المستحيل ممارسة اي طموحات فنية سواء بالنسبة للسينمائي المخضرم او الجديد الذي يسعى ليشق طريقه في عالم الفن السابع دون أن يستسلم لقيود وشروط من المؤكد ستفرض عليه”. أخيرا، ونحن هنا لا نزال نستعرض نماذج، هناك مخرج جزائري كان حقق سنة 1982 فيلما مثيرا للاهتمام بعنوان “زوجة لابني” اختفى في باريس منذ ذلك الحين. قبل عشر سنوات بحثت عنه في زيارة مقصودة للغاية. ووجدته يعيش مع زوجته التي تعمل في محل تجاري لكي تعيل أسرتها الصغيرة. منصف ذويب، مخرج تونسي صنع فيلما روائيا واحدا ثم شوهد في العام الماضي يجلس في بعض مقاهي القاهرة. لا عمل ولا نية لعمل سينمائي. محمد سعيد، خيري بشارة، داوود عبد السيد، جان شمعون، أسامة محمد، محمد ملص، سمير خوري، محمد شويخ، جوسلين صعب، خالد الصديق، ليسوا سوى حفنة من عدد كبير من السينمائيين العرب المختفين معظم الوقت اذا لم يكن كله وذلك تبعا لغياب الدعم العربي للسينما على اي صعيد. ولا ننسى ذلك المخرج الجزائري (الذي لا أود الكشف عن اسمه) الذي أخرج بعض أفضل أفلام الثورة الجزائرية والآن يعمل نادلا في مقهى. ولا أريد أن أنسى المخرج الكبير الراحل كمال الشيخ الذي وإن لم يعرف ظروفا معيشية صعبة والحمد لله الا أنه انقطع عن الإبداع لأكثر من اثنتي عشرة سنة رافضا العمل وسط الوضع الحالي. لعل الصورة العربية واضحة هنا. هذه حال السينما الجادة وحال الدنيا بأسرها و...لنصبح جميعا على خير! جريدة الخليج في 8 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
ضباب في أفق السينما العربية والعالمية م.ر. |
|