لا أحد يستطيع أنّ يؤكد على وجه اليقين إذا كان مزمل
ابن النور حسين، وسكينة النصري، في قصة الاديب
السوداني حمور زيادة "النوم عند قدمَيْ الجبل"، قد مات
في العشرين، استنادا إلى نبوءة المجذوب الصوفي الذي
كان يصاحب موكب الشيخ خليفة، أم لم يمتّ؟ فالقصة
الأدبية تنتهي عندما قضى مزمل ليلة ساخنة مع احدى
بغايا حيّ العبيد، واثبت فيها فحولته، وحقق فيها
رجولته، وكسر طوق الموت الذي يخنقه منذ عشرين عاماً من
أجل أن تنتصر في النهاية إرادة الحياة.
ولا أحد يعرف على وجه اليقين ماذا فعل مزمل عندما ذهب
منتشياً حيث مقابر القرية، ليحفر قبره بنفسه عند قدميّ
جبل الصحابة، وربما جبل الهموم، والسكون، والجمود،
والتخلف، الذي تراكمت رماله، وصخوره عبر مئات السنين،
هل مات مزمل ليقدم بموته قرباناً للموت، ليضيف ضحيةً
جديدة مستسلماً لواقع موبوء؟ أم أنّه باختياره قبره،
وطريقة موته قد حقق انتصار الحياة رغم الموت ؟! وهل
حقق كاتب الأصل الأدبي، ثم صاحب المعالجة المرئية،
امجد أبو العلا في (ستموت في العشرين) اختراقاً
مطلوباً لنقد موروث القرية الصوفي الذي وصل به الامر
إلى التنبؤ بأعمار الناس، ومواعيد موتها، مع تصديق
الناس لتلك النبوءات؟ وفي لحظة التنوير التي وصل لها
مزمل في النهاية، هل يمكن القول أنّ الكاتب، والمخرج
استطاعا أنّ يقدما نقداً مطلوباً للفكر الصوفي، وللفكر
الديني بشكل عام، وهو ما أدى إلى التردد أكثر من مرة
لعرض الفيلم في صالات العرض السودانية، مع التهديد
أحياناً بحرق الصالات التي يعرض فيها رغم استحقاقه
جائزة اسد المستقبل لمهرجان فينيسيا، ثم نجمة الجونة،
وتانيت قرطاج الذهبي، هذا غير العرض، والتقدير، وبعض
الجوائز الأخرى في العديد من المهرجانات، والملتقيات
السينمائية العربية، والعالمية، وحتى ترشيح السينما
السودانية له للحصول على جائزة الاوسكار كأفضل فيلم
اجنبي؟ قبل الإجابة على الأسئلة، والتعرّف على الفيلم،
من المهم أنّ نقترب قليلاً من الصوفية، والفكر الصوفي
في السودان.
يرويّ الشيخ محمد النور ود ضيف الله في كتابه "الطبقات
في خصوص الأولياء، والصالحين، والعلماء، والشعراء في
السودان"، أنّ مريدي الشيخ القدال ود إبراهيم عبودي
قالوا له: يا سيدي، نريد منك أنّ ترينا الطيران في
الهواء، فطار بعنقريبه، أيّ (بسريره) في الهواء !!
وذكر في الكتاب أيضاً أنّ الشيخ المسلمي الصغير كان لا
يرضع في رمضان إلا ليلاً، وعندما مات، كان يجيب على
الناس من قبره، أما الشيخ إسماعيل صاحب الربابة، فقد
تكلم في المهد، وكانت الربابة تضرب وحدها، فتطرب لها
الحيوانات، والجمادات، وكان الشيخ إذا استبدّت به
النشوة، والجذب، يجمع الصبايا، والعرائس للرقص في فناء
داره، ويعزف لهن ربابته التي كانت لكل ضربة منها نغمة
يفيق بها المجنون، وتذهل منها العقول، وكانت إذا تركت
في الشمس تحسّ باقتراب صاحبها منها، فترسل إليه
أنغامها دون أنّ يضرب عليها أحد.
هذه القصص، وقصص أخرى كثيرة يتداولها السودانيون،
تعبّر عن نظرة المجتمع السوداني الخاصة إلى الدين، من
خلال تعاليم الطرق الصوفيّة، ونظرته إلى شيوخ الصوفية
من خلال معجزاتهم، وخوارقهم، فكلما قدّم الشيخ المزيد
منها، كلما زاد عدد مريديه، واتباعه.
ويؤرخ الكتاب لحوالي 270 شيخاً صوفياً عاشوا في فترة
مملكة سنار (1505-1821)، وهي الفترة التي انتشر فيها
الإسلام على نحوٍّ أوسع في السودان، ولا توجد إحصاءات
دقيقة حول عدد أتباع هذه الطرق، ومُريديها، لكنّهم على
الأرجّح يُمثّلون نحو 80% من إجمالي عدد السكان في
البلاد البالغ 40 مليون نسمة.
وكانت اضاءة لابدّ منها.
في فيلمه الذي اعتمد على قصة حمور، وكما جاءت المعالجة
المرئية، اعتمد المخرج الذي يقدم تجربته الروائية
الطويلة الأولى، بمساعدة كاتب السيناريو الإماراتي
يوسف إبراهيم، على المحاور الرئيسية في الأصل الأدبي
بعد حذف يعض الاحداث، واحياناً تعديلها، ثم اضافة
احداث جديدة، فشخصية الحاج سليمان الذي يعود إلى
القرية بعد العمل لفترة طويلة كسائق في شركة الأسمدة
في العاصمة، تتحول إلى شخصية مصور سينمائي سكير حظى
بالتواصل مع بعض مظاهر الحضارة، وانتهى به الأمر في
بيت في اطراف القرية، وهو يقضي يومه بين شرائط الأفلام
القديمة، واحلامه الضائعة، واحياناً بين أحضان عاهرة
القرية التي ضيعت عمرها بجانبه، وربما أراد امجد
(المخرج)، ومعه يوسف (كاتب السيناريو) أنّ تكون شخصية
سلمان معادلاً للشيطنة المطلوبة لغواية مزمل للخروج من
تابوت نبوءة موته المعلن، وقد نجح سليمان بالفعل أنّ
يضع قدم مزمل على بداية طريق الغواية عندما جعله يشاهد
هنومة، وهي تتلوى بجسدها المثير، وربما كانت (شخصية
سليمان) معادلاً لحلم التنوير السوداني، والعربي الذي
انكسر باعتبار أنّ كل هزيمة عسكرية يسبقها هزيمة
المثقفين، وربما (ثالثة) أراد امجد، ويوسف أنّ يقدما
معادلاً لصورة المثقف العربي الذي اصبح يعيش منزوياً
على هامش الحياة غارقاً في ماضية، غائباً عن حاضره،
ولا يملك سوى ذكرياته الجميلة عن عصرٍ مضى، ولن يعود
عندما نرى شريط الصورة تتداخل معه بعض لقطات من فيلم
(باب الحديد) ثم لقطات من فيلم (الخرطوم التسجيلي)
لرائد السينما التسجيلية السودانية جاد الله جبارة،
وشريط الصوت يقدم لنا مقاطع من اغنية (لا مش انا إلي
ابكي) لمحمد عبد الوهاب، و(دخلت مرة جنينة) لأسمهان.
في الأصل الأدبي، تجنّب الكاتب السوداني حمور زيادة
الصِّدام المباشر مع الموروث الصوفي، وجموده، وتأثيره
على أهل القرية عبر شخصيةٍ مستنيرةٍ، وانما لجأ إلى
رسم شخصية "الحاج سليمان" كشخصية غير متنافرةٍ مع
تديُّن القرية كما تعرف عليه مُزَّمِل في مسجد القرية،
وهو غير مندمج مع دروشة أهلها، وهو يرى أنّ الإنسان
يجب عليه أن يخوض غمار تجربةٍ متحررةٍ من الإحساس
بالذنب، وقد نجح الحاج سليمان في الأصل الأدبي، في
اجبار مزمل على البحث عن اجابة سؤال مهم: "كيف يعيش
للطاعة من لم يَعْرِف المعصية، وكيف يأتي إنسانٌ إلى
ربِّه،ِ وليس معه معصيةٌ، أو كبيرةٌ؟ ومن المهم القول،
أنّ تركيز الصدام مع الفكر الصوفي في الأصل الأدبي جاء
بطريقة غير مباشرة من خلال الليلة الأخيرة في حياة
مزمل عندما ارتكب المعصية الأولى في حياته - مع سبق
الإصرار، والترصد - في محاولة لضرب النبوءة في الصميم،
بعدها لا يعرف أحد على وجه اليقين هل مات مزمل في نفس
الليلة عندما ذهب ليحفر قبره بنفسه عند قدميّ الجبل،
ام انطلق إلى حياة أخرى بعد أنّ تملك كامل اراداته،
وتحرر من نبوءة الموت عند العشرين.
في الفيلم (السيناريو) لم نجد صراعاً، وصداماً مباشراً
مع الفكر الصوفي المسيطر، بل على العكس، كان من الواضح
في شريط الصورة ذلك الاحتفاء الدافئ بقدوم موكب خليفة
الشيخ، واتباعه، ومجاذيبه، كما تجنب سليمان (محمود
السراج) مهاجمة الفكر الصوفي بطريقة مباشرة، واختفى
النور (طلال عفيفي) والد مزمل بعد ولادته، ولمدة عشرين
عاما، معلناً هروبه، وترك ابنه فريسة لنبوءة جمّدت
حياته لعقدين من الزمن، وقد كان متواجداً في الأصل
الأدبي منذ البداية، وحتى النهاية مسانداً لولده، كذلك
تمّ اضافة قصة حب بين مزمل، ونعيمة (بونا خالد)، وهي
احدى فتيات القرية لإضفاء جوٍّ من الرومانسية، والمرح
على قصة مغرقة في الرمز، والمعاني العميقة عن الموت،
والحياة، ووجود هذه الإضافة أرى انها مهمة لكسر نمطية
الشخصيات، وإظهار شخصية مزمل باللعب الدرامي على
ثنائية الموت مقابل الحياة، وتمّ التأكيد على دور الأم
القوية التي تتحمل قدر فقدان ابنها، وموته كل ثانية
بشجاعة منقطعة النظير، وهو تقدير مستحق للمرآة
السودانية بشكل عام، وهنا لا نريد أنّ نربط بين نموذج
الأم كما يراه المخرج وكما تأثر به في حياته الشخصية،
ودراما الرواية، والفيلم، وتمّ اضافة مشهدين لزواج
نعيمة، وحلقة الزار التي حضرتها سكينة رُبما كنوع من
تأصيل العادات، والتقاليد السودانية، وهو حق مشروع،
وربما لمخاطبة العين الأوروبية التي تهوى التعرّف على
كل ما هو غريب في الأنساق الاجتماعية للشعوب المختلفة،
كما تمّ تغيير النهاية الموجودة في الأصل الأدبي، في
الفيلم يذهب مزمل إلي عاهرة القرية التي تعرّف عليها
عند سليمان، ويقضي معها ليلته الأخيرة، وربما بداية
حياة جديدة، بدلاً من الذهاب إلي عاهرة حيّ العبيد.
في الفيلم (الفن) إلى حدٍّ كبير نجح امجد أبو العلا في
السيطرة على مفردات لغته السينمائية مع الاستعانة
بمصور فرنسي قدم كادرات، ولقطات، ومشاهد معبّرة من
خلال الرسم بالضوء في أماكن مفتوحة شاسعة، وفي الأماكن
الضيقة، وهنا نشير إلى بعض استلهامات الصورة من أفلام
مخرجين شهيرين هما شادي عبد السلام في فيلم المومياء
(الممرات الضيقة في بيت مزمل)، والمخرج اليوناني
الشهير ثيودوروس انجيلوبولس من ثلاثية المرج الباكي
(اللقطات العامة لوصول موكب خليفة الشيخ في المراكب
النيلية). ويأتي شريط الصوت معبرا إلى حدٍّ كبير عن
الحالات النفسية للشخصيات، وفي ادارته للممثلين -الذين
يظهر بعضهم للمرة الأولى - أخرج امجد ابو العلا اقصى
ما عندهم، وكانوا على قدر المسؤولية لتجسيد شخصيات
احادية الجانب عدا شخصيتيّ مزمل (مصطفى راشد)، وسكينة
النصري (اسلام مبارك).
في تجربته الروائية الأولى يحقق امجد أبو العلا قدراً
لابأس به من النجاح، في التعامل مع نص ادبي صعب،
ويحاول جاهداً أنّ يقول الكثير، وهو يمشي على طريق
وعر، وشائك من الأفكار، والموروثات، واذا كانت خصوصية
التعبير الصوري قد طغت أحياناً على الرسائل المهمة
التي كان يقصدها كاتب الأصل الأدبي في بناء روائيّ
متماسك من البداية وحتى النهاية، فإنّ المعالجة
المرئية (ستموت في العشرين) تجربة مهمة في تاريخ
السينما السودانية بشكل خاص، والسينما العربية بشكل
عام، وتستحق التأمل، والمشاهدة.