أتذكّر أنّه في مهرجان قرطاج السينمائي لسنة 1988،
اقترب مني أحد النقاد الجزائريين، وقال في لهجة الصديق
المُعاتب:
"لماذا لا تحبّ الأفلام الجزائرية"؟
وفي مهرجان القاهرة السينمائي لذات السنة، كتبت صحيفة
"روز اليوسف" تحت عنوان "أعداء الفن المصري"، ما
معناه، أنّ فلاناً (كاتب هذه السطور) يشنّ حرباً ضدّ
الفن، والسينما المصريين.
وفي لقاء "فاس" الأدبي لسنة 1990، قالت إحدى الفنانات
التشكيليات:
"لماذا لا تحبّ السينما المغربية؟".
وفي تونس، أُتهمتُ بكوني "كاتون الجديد" الذي يعمل على
هدم قرطاج (المهرجان)...
أسئلة، واتهامات، وإن اختلفت في الموقع، والأغراض،
والشخصيات، فإنها تلتقي على أرضٍ واحدة، ولها الهدف
الواحد.
يقول عبد القادر الجرجاني في كتابه "نقد الشعر" عن
النقد، أنه قائمٌ على التميّيز، والتحليل... والتمييز
قائمٌ، بحسب نظري، على قسمٍ كبيرٍ من ذوقٍ يعززه
التحليل القائم على المعرفة، المعرفة متاحةٌ لكلّ
الناس. يكفي أن يتحمّل الإنسان مشاق الركض بحثاً عنها
حتى يجدها، وهي، جرّاء ذلك البحث، ومعاناته، تصقل
الذوق الذي بدوره يختزل قسماً كبيراً من المعرفة،
ويدلّ على نشوء التيارات الفكرية، والجمالية، أو على
أفول تياراتٍ أخرى فكرية، وجمالية...
وإنّ بدت القضية كقضيةٍ معرفية فحسب، فهي كذلك قضية
ذوق... والذوق قد يُخطئ، وقد يُصيب، ولكن وجوده قائمٌ،
ولا أحد له الحق أن يشكّك في شرعيته، إلاّ إذا انتصب
على معرفةٍ ناقصة، هزيلة، وعمل جاهداً على فرض مفاهيمه
دون قبول مناقشتها.
إلاّ أنّ المسائل الثلاث المطروحة، لا تعتمد الذوق،
والمعرفة، بقدر ما تعتمد شعوراً "شوفينياً" يرى في
موقف معيّنٍ من حالةٍ معيًنة موقفاً كلياً من حالةٍ
عامة، وبالتالي، فهي تخلط الأوراق، وتمزج بين الفردية،
والجماعية، ولا تناقش الذوق، والمعرفة بقدر ما
تخونهما، وتعزلهما عن فضاء فعاليًتهما، فيصبح التقييم
المًغاير "عداءً"، في حين هو اختلاف، ويصبح الموقف
المختلف "تهجماً على الكلّ"، في حين هو محاولة لإجلاء
الغشاوة عن مفاهيم قد تكون "خاطئة"، وإظهارها
بالمقارنة بين العناصر المكوّنة للأثر الواحد، وعدم
التوازن المفروض بينهما من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، وضع
الأثر الواحد، والفردي في خارطة الإنتاج على المستوى
المحلي، والإنتاج العام على المستوى العالمي...
تقول إحدى شخصيات أحد أفلام النابغة الأميركي "وودي
آلن":
لو كان لي أن أختار بين الله، والحقيقة، لاخترت الله".
ولو كان لي (شخصياً) أن أختار بين الفن، والدفاع عن
"علمٍ" معين، لاخترتُ الفنّ بما فيه من نواقص،
وتناقضات، وأسقطتُ العلم من حساباتي، ليس عداءً مني
له، ذلك أنّ الفن، والفكر أصدق تعبيراً عن الإنسان
مهما كانت منزلته، ومهما كانت جنسيته، ومهما كانت
عقيدته، عوض الدفاع عن رايةٍ قد لا تعني في النهاية
إلاّ رمزاً من رموز الهوية الوطنية الضيقة، والعازلة
عن التلاقح بين الحضارات، والثقافات في عالمٍ أصبح
اليوم قريةً صغيرةً تكشف خفاياها كاميرات التلفزة،
ووسائل الإعلام الجماهيري، وشبكات التواصل
الاجتماعي... تحت شعار "صراع الحضارات" الذي أصبح ورقة
تينٍ تغطي فشل سياساتٍ عربية في الدفاع عن المواطن
العربي.
إنّ الحدود الفاصلة بين الدول، كلّ الدول، كبيرها،
وصغيرها، أصبحت لا معنى لها من زاوية الانعزال،
والانطواء، إذّ السماء المشتركة بيننا مرصّعة بجميع
أنواع الأقمار الاصطناعية الملتقطة للعديد من أنواع
الصور، والتي تبثّ بدون رقابة إلاّ رقابة المال،
والذكاء التكنولوجي، والمقدرة الاستشرافية، فإلى متى
سيبقى هذا المنظور العربي القطري الضيّق يتحكم في
المواطن العربي، في ذوقه، ومعرفته، في حين أصبحت
المعرفة أكثر انتشاراً، وأصبح للذوق فضاء يمكن أن
يتبلور فيه بذاته دون وصاية من الحاكم الأكبر، أو
الحاكم الأصغر؟
ثمّ، ما هو هاجس الانتماء القطري، في حين أصبح الإنتاج
السينمائي، والتلفزي اليوم متعدد الجنسيات، فتتفاعل
معه أيمّا تفاعل الطبقات الاجتماعية المختلفة يسراً،
وثقافة، وما معنى هذا الانزواء داخل حدود القطر الواحد
مهما كان اتساع مساحته إن لم يتمّ على حساب إلغاء
نسبية الحكم، وعالمية الإنتاج، ولصالح تكثيف الحدود
الفاصلة بين الحضارات، والثقافات؟ وما جدوى "تخوين"
الناقد، والرميّ به فريسة أمام الشعور الشوفيني
المنزويّ داخل مرآة الذات الضيقة التي ما فتأت تؤكد
على تعالي ثقافةٍ على أخرى، وبلدٍ على آخر، وإنسانٍ
على إنسان؟
كفانا انغلاقاً على هوية "مُفبركة" ضيقة مسلطة لغرضٍ
في نفس يعقوب، فإما أن تكون رؤية المخرج عربية، حرّة،
صادقة وعادلة، وناقدة، ونافذة إلى أسّس القضايا، وإما
أن تكون الرؤية عربية كذلك، ولكنها هشة، تابعة، ضعيفة،
مزيفة، مسطحة، خاوية، وإن طلعت علينا من "أمّ السينما"....
أيّ العربيّين نختار؟ هو السؤال...
الفنّ له قواعده، ومناخه، وهو الباقي... ما دامت حرية
الفرد هي المُبتغى، والساحل الآمن الذي إليه تهّف
المراكب، وفيه يجد المواطن المبدع حقه في الرؤية،
والفعل، ودونما مراقبة إلاّ رقابة الضمير.
أما حكاية الضمير هذه، فتلك قصة طويلة لا مجال لقصّها
هنا...