تمهيد:
الكتاب والفيلم
المستوى المؤسف الذي وصلت إليه حالة الثقافة السينمائية في العالم
العربي تدل على أن المشاكل الناجمة عن عدم وجود صناعة سينمائية
عربية صحيحة، وانحدار القيم الإنتاجية ومستوى المواهب الفنية
المتداولة، وسطوة سينما الإثارة على "شباك التذاكر" لأسبوعين أو
ثلاثة بأفلام سريعة لا أمل لها بالحياة حتى في أذهان من قد يقبل
عليها، استطاعت في نهاية الأمر تقويض لا السينما الفنية وذات النفس
الجاد فقط، بل السينما الجماهيرية أيضاً. كذلك يقترح أن المسألة
وصلت إلى حد لا يمكن القبول به إلا إذا كان المثقف والناقد
والمسؤول (أو الذي بيده القدرة على أن يكون مسؤولاً) راضياً عما
يحدث وبالتالي يصبح مشاركاً فيه.
لحين بدا أن هناك منحى آخر في السينما العربية التي كانت في
الستينات قد بدأت بالإنتشار من المغرب وحتى دول الخليج. دول عربية
جديدة أصبحت منتجة، السينما المصرية أمّها دماء جديدة بينما مواهب
الأولى لا تزال سارية بنجاح وحيوية، السينما الجزائرية كانت تتحدث
بنفس ثوري ثم أخذت تبحث عن البديل المناسب، والسينما في المغرب
وتونس أخذت تنتعش وتلك السورية والعراقية ولدت من جديد والسينما
اللبنانية كانت حافلة بالسينمائيين الذين وثقوا بمستقبلها لا يضر
إذا كانوا من الفئة المؤمنة بالتجارة أولا أو بالقضايا الجادة أو
لا.
لكن كل شيء أخذ ينحدر مع تبعات المواقف السياسية. نظمنا الإجتماعية
بما فيها من علاقات بيننا وبين الشاشة الكبيرة تدهورت سريعاً أول
ما عرف الفيديو التسلل إلى البيوت. ثم تبعها الزلزال الكبير بإخراج
لبنان، الموقع الأكثر نشاطاً للثقافة العصرية المتعددة، من الصورة
لستة عشر عاماً من حرب خطط لها نفذها سياسيون، تبعتها حروب في
الجزائر والسودان ومشاكل اقليمية ومحلية في أكثر من دولة ثم حرب
احتلال الكويت (التي اخرجتها أيضاً من جملة معادلات) وحرب تحريرها
ثم الحرب على العراق بما في ذلك الفترة الفاصلة بين الحربين
الأخيرتين التي كان على المواطن العربي فيها، بشكل عام، العيش
معلقاً على حبال الغسيل كما لو كان قميصاً جف وترك في مهب الريح
دون أن يبرح مكانه.
المستوى المؤسف إذا لم يحدث بين ليلة وضحاها بل كان نتيجة طبيعية
لما سبق ولما تسببه كل ذلك من تعويم الوسائط الثقافية عموماً: لا
الكتاب يروج كما كان ذا مرة، ولا المسرح سلم من متغيرات سلبية، ولا
الموسيقى حافظت على أصالتها، ولا السينما الجادة واصلت التقدم ولا
تلك التي هاجمها النقاد عن حق انتشرت (بل فعلياً انحصرت). الأمر
الوحيد الذي تبلور هو التلفزيون. لم يصبح أفضل مما كان عليه
بالضرورة، بل أعلى صوتاً وأكثر حضوراً موفراً في 90 بالمئة من
المحطات العاملة، أرضية وفضائية، آلية الاعتماد على الوضع المنحدر
ذاته وترويجه لامعاً وبراقاً. إنه مثل تعبئة مياه سامة زجاجات
بلاستيك ذات شكل تصميمي جاذب ثم طرحها للبيع وإقبال الناس عليها
حتى الإدمان.
سيتطلب الأمر أكثر من مشروع واحد لإصلاح هذا الوضع. أكثر من بضع
صفحات سينمائية في المجلات والصحف اليومية، وأكثر من الكتب
السينمائية التي تقوم بإصدارها بعض دور النشر (الحكومية أساساً)
وأكثر من اعتماد بعض المنتجين والمخرجين على التمويل الفرنسي الذي
لولاه لما عرفنا حتى هذا القدر من الأفلام الجيدة في السنوات
الأخيرة.
سيتطلب إيماناً عميقاً بأهمية دور الإنسان العربي في هذه المرحلة.
إيمانه برسالته الإجتماعية والفنية والثقافية. وإيمانه بمستقبله
ومستقبل من سيليه. وهذا هو النادر بعدما فقد الناس البوصلة الصحيحة
وتحولوا إلى مستهلكي حياة فقط عوض أن يكونوا فاعلين فيها أيضاً.
وما تراجع الأوضاع العامة في المنطقة إلا نتيجة هذا التوهان في
عالم اكتفى معظم الناس فيه بمراقبة ما يجري على شاشات التلفزيون
والتعامل معه من دون فعل أو تأثير.
"كتاب السينما: الدليل السنوي المصور للسينما العربية والعالمية"
إذ يخرج إلى النور في ظل الوضع العربي الحالي يؤكد أنه بالإمكان
تضافر الجهود وبالإمكان احداث تغيير وبالإمكان بعث الحياة في أوصال
ما هو راكد، إذا ما كان كل منا راغباً في تأدية رسالته في هذه
الحياة. ورسالته هي أن يسعى لعالم أفضل. أن يطمح وأن يحلم وأن يؤمن
أن ذلك ليس مضيعة لوقته. "كتاب السينما" هو عمل شامل للأفلام التي
شاهدها المؤلف والنقاد المشتركون، في العامين الأخيرين مزودة، إلى
جانب الرأي، بالمعلومات التي وحدها تؤدي إلى رفع مستوى الثقافة
السينمائية بيننا. هذا على عكس كتابات كثيرة منتشرة يعتقد فيها
الكاتبون أن آراءهم هي التي تولد المعرفة بينما الحقيقة أن الرأي
ليس سوى استكمال لشروط أخرى على الناقد التمتع بها لكي يمارس عمله
على نحو صحيح. ليس فقط عليه أن يكون مثقفاً بل مثقفاً في السينما
وليس فقط عليه أن يكون مثقفاً في السينما، بل مثقفاً في السينما
ونافذته الخاصة التي يستلهم منها هذه الثقافة لا تغلق. لم يكون ولن
يكون الرأي النهائي ويكرره في كل طروحاته، بل سيبقى نافذته مفتوحة
أمام ما يردها في إطار عمله. يتعلم وهو يقومم بمهمته في إيصال
المعلومات والثقافات إلى الناس لأن هذه هي مسؤوليته الأولى تجاههم.
إنه الوسيط الأصلح (كما يجب أن يكون) بينهم وبين الفيلم. يمدهم
بالمعلومات كاشفاً خلفيات وحقائق ثم محللاً ما يراه بناءاً على
قواعد السينما ذاتها، وذلك قبل أن يتسنى له التبرع برأيه الذي
سيزداد قيمة فقط إذا ما اقتنع القارىء أن هذا الرأي جدير بأن يقرأ
له. غير ذلك، الكتابة النقدية لا يمكن لها أن تلعب أي دور لها
لأنها ستقوم على قدر عال من النرجسية ومحاولة إثبات الذات والتعامل
مع الحياة كلها كما لو أن تلك الحياة لون واحد لا يتغير ولا يتعدد.
لقد أصدرت أربعة أعداد سابقة من هذا المؤلف ثم تداخلت الظروف
الخارجية الناتجة عن الأوضاع العامة، ببعض الظروف الخاصة وجمدت
المشروع لأكثر من ثماني سنوات قبل أن يتم نفض الغبار عن تلك الآمال
والأحلام ومواصلة طريق هو في ملك كل فرد منا إذا ما اختار وقرر
بمنأى عن المحاذير وعلى الرغم من الظروف. تلك المحاذير التي تتمثل
في أن وضع الكتاب ووضع الفيلم متشابه في الوقت الحالي، وتلك الظروف
التي جعلت وضعيهما على هذا النحو من التردي. اليقين هو أنه لا تقدم
بانتظار مناسبة أفضل، بل على المرء أن يخلق المناسبة بنفسه.
واليقين هو أن الحياة العربية لكي تستعيد رونقها اجتماعياً
وثقافياً وأدبياً وفنياً وعلى كل وتيرة حضارية أخرى، عليها أن
تعتمد على المبادرة ليس فقط على الرغم من الظروف غير المواتية، بل
بسببها أساساً.
إذ يعاود "كتاب السينما" الصدور سيجد من تابع السلسلة اختلافات
كثيرة في مفهوم ايصال المادة إلى القارىء. منها تكوين بناء نقدي
يقوم على تمهيد يلخص أهم ما في الفيلم من مزايا ويوجز الرأي
التالي، ثم نقد تحليلي للفيلم نابع من الفيلم وليس من الرأي المسبق
بكيف على الفيلم ـ أي فيلم ـ أن يكون. ومنها أيضاً تصميم أكثر
فاعلية بهدف ايصال المادة كلها بما فيها المعلومات الواردة في
نهاية كل فيلم بأسلوب محدد ومقتصد لوقت القارىء. وغني عن القول أن
الأفلام الواردة هنا ليست من نوعية منتشرة حتى السقم في عالم الكتب
السينمائية هذه الأيام، وهي نوعية "تجميع المقالات" وإطلاقها من
جديد. كل فيلم كتب خصيصاً والقليل جداً التي لم تكتب خصيصاً تغيرت
وتم تقطيع أوصالها أو الإضافة عليها لكي تناسب قارئاً لا زلت أراه
يقف على جانبي الشاشاة: الهاوي والمحترف. كلاهما مهدد بأن يذوب في
غياهب هذه الأوضاع الحالية.
محمد رضا
|