كيف نشأ وكيف ساعدني على تجاوز المحن؟
محمد رُضا
- خصيصاً لـ
"سينماتك" |
ذات
مرّة في مطلع العام 1983 قررت كتابة ونشر سلسلة من
الكتب تحت عنوان "كتاب السينما". لم أكن يوماً من رجال
الأعمال، ولم أكن من بين الزملاء الذين ارتبطوا بدور
نشر، وبل لم يكن معي كلفة طبع كتاب أول. كل ما كان
عندي هو طموح ومعرفة ورغبة في سكبهما في عمل يأخذ
شكلاً موسوعياً.
كنت صغيراً حين حاولت كتابة القرآن الكريم. جلست
وأخذت أكتبه بخط يدي وطلبت من أمي أن تسأل الشيخ إذا ما كان ذلك حراماً أم
لا. لم تكن تعرف الجواب فسألت شيخاً من دائرة الإفتاء اللبنانية التي كانت
على مقربة فأجاز لي ذلك… لكني لم أكتب الا بضع صفحات. لم يكن هناك هدف من
ذلك ولا نيّـة إنجاز شيء ما لكن إذ أتذكّر هذه الواقعة أحاول أن أقول إن
الكتابة المرجعية كانت طموحاً عندي.
بعد
ذلك عندما دخلت الصف الأول ثانوي في مدرسة الفاروق في بيروت بدأت أكتب في
الموسيقا الغربية أولاً ولنحو سنة ثم ولجت الكتابة في السينما. بعد سنوات
قليلة استلمت طلباً من الناقد الإنكليزي بيتر كاوي يسألني فيه إذا ما كان
ممكناً لي الكتابة عن السينما اللبنانية لمطبوعة بإسم
International Film Guide. لم أكن، وأنا لا زلت في السادسة عشرة سنة أو
نحوها، متمكّـناً من لغتي الإنكلزية لدرجة أن أكتب مقالاً بالإنكليزية،
لكني كنت أستطيع أن أقرأ وكنت أعرف عن هذا الدليل السنوي من خلال إعلانات
منشورة في مجلة "فيلمز أند فيلمينغ" التي كان بيتر كاوي واحداً من نقادها.
في كل الأحوال كتبت عن السينما اللبنانية مقالاً وبعثته فأعاد الناقد
صياغته بإنكليزية سليمة ونشره.
كتاب بيتر كاوي، الذي كان يصدر عن دار نشر متخصصة
بالمنشورات السينمائية أسمها "تانتيفي برس" في لندن، كان إحصاءً سنوياً عن
الإنتاجات السينمائية حول العالم بأسره. وما لفت نظري أنه كان الكتاب
السينمائي الوحيد الذي يجمع بين دفّتيه إعلانات. داومت الكتابة في هذا
الدليل لبضع سنوات قبل أن تتاح لي زيارة لندن ولقاء بيتر كاوي شخصياً قبل
سنوات قليلة من قراري بوضع كتابي عن السينما العربية والعالمية.
رغم أن كتابه كان في البال حين خططت لهذا العمل،
الا أن رغبتي كانت مختلفة. قررت أنه إذا ما كان كتاب كاوي هو عن السينما من
نواحي صناعية وإنتاجية فإن كتابي عليه أن يكون نقدياً للأفلام المنتجة. هنا
أيضاً سعدت لملاحظة ثانية. نعم في بريطانيا وفي فرنسا وفي الولايات المتحدة
وفي دول أخرى، هناك كتب نقدية عن أفلام العام، لكن كلاً منها مكتف بما يعرض
داخل البلد منشأ المؤلّف او مكان عيشه. كتابي من العدد الأول كان عن كل
الأفلام التي أراها من دون مركزية.
بقيت مسألة التمويل. هذه اتجهت لأجلها لمعارفي من
المنتجين والموزّعين وإذا بعدد منهم يقبل على الإعلان في هذا الكتاب لا في
العدد الأول فقط، بل في الأعداد الثاني والثالث والرابع أيضاً. في الحقيقة
لم أخسر في أي كتاب نشرته، ولا لاحقاً عندما تكفّل "المجمّع الثقافي في
أبوظبي" بنشره (التحية واجبة هنا لمسعود أمرالله الذي واكب العددين الخامس
والسادس من خلال عمله في مطلع العقد الأول من القرن الحالي).
كنت أملت أن ينتظم الكتاب كنشاط سنوي. لكن بعد حين
قلّت الإعلانات بينما ارتفعت التكلفة. ومن ناحية أخرى سافرت إلى لوس
أنجيليس مبتعداً بنفسي عن العالم العربي. هناك لم يكن من الممكن العمل عليه
من المنطلق نفسه. عدت إلى لندن واشتغلت في محطة
mbc حين كانت هناك منتجاً وكاتباً
ومقدماً لبرنامج السينما وهذا كلّه أخذ من وقتي. في أواخر التسعينات، وكنت
عدت إلى هوليوود، قررت الإستمرار وهذا ما يفسر القطيعة الطويلة كما يفسّـر
العودة وإصدار ثلاث كتب بفضل "المجمّع الثقافي" في أبوظبي.
لقد كُـتب الكثير عن هذا الكتاب في الصحف العربية
المختلفة. ككل فرد عندي أصدقاء وعندي أعداء وعندي أصدقاء لا أفهم لم لا
يتصرّفون كأصدقاء، لذلك ثلث من أعرفهم هو من كتب. هذا لا يضير. نحن النقاد
عادة ما نعتقد أننا نملك نبض القاريء او نسيّره او نؤثر فيه… لكن الحقيقة
أننا مثل نسمات خفيفة ومتباعدة. جمهورنا قليل وتأثيرنا مهما بدا كبيراً الا
أنه محدود.
أكتب ما سبق لأن "كتاب السينما" يعود مع نهاية هذا
العام: المبدأ نفسه لكن بشكل أفضل وبمعرفة أكثر شمولية. "كتاب السينما"
الثامن ليس لا يؤرخ فقط للأفلام (وإذا ما وضع المرء الأعداد كلّها لوجدها
أنها تؤرخ لحقباتها) بل هي تؤرخ لنفسي. لا زال شاغلي هو أن أكتب النقد حتى
ثمالته. ولكي أفعل ذلك كان عليّ أن أدرس وأن أقرأ كثيراً في التاريخ وفي
جوانب العمل السينمائي وأن ألم بالمستحدث من التقنيات و-الأهم- أن أشاهد من
الأفلام كل ما أستطيع. هذا الكتاب فيه نحو 365 فيلم (على عدد أيام السنة)
وربما أكثر. وهذا نحو ثلثي ما شاهدته من أفلام. معظم الثلث الباقي هو أفلام
قديمة.
لا أرتوي. لا أقرر- كما يفعل آخرون بيننا- أن عليّ
أن أشاهد فقط "أمهات الأفلام". من يفعل ذلك، في اعتقادي، لا يحب السينما.
من لا يصرف وقته كله فيها لا يكترث لها. لديه حسابات أخرى. بعضنا، منهم
الزملاء حسن حدّاد وهوڤيك حبشيان وناجح حسن وكمال رمزي وثلّة آخرون، يدرك
أنه لم تكن لدينا نيّة أن نكف حتى حينما كانت هناك فرصاً لذلك. شخصياً عرضت
عليّ وظائف أكثر ضمانة في بيروت وخارج لبنان (بينها وظيفة ملحق صحافي
لسفارة عربية) قبلتها لنصف شهر ثم خفت من أن أعمل في وظيفة لها مستقبل
وضمان إجتماعي ومركز وجواز سفر دبلوماسي… فاستقلت… عدت إلى المغامرة…. ويا
ليتها من مغامرة… وعلى حد قول كلود ليلوش "المغامرة هي المغامرة".
كنت أود أن أصبح مغني روك أند رول حين كنت في
الرابعة عشرة وحتى بلغت السادسة عشرة، وكنت أود أن أخرج الأفلام، وفي سن
الثامنة عشرة قمت وثلاثة من الأصدقاء الذين لا أدري اليوم ما حل بهم،
بكتابة وتحقيق أفلام قصيرة في بيروت أواخر الستينات. أردت الإستمرار في
العمل كمخرج وككاتب سيناريو. وإلى اليوم أعيش هذا الحلم، لكنه على عكس حلم
"كتاب السينما" أصعب منالاً. خير صورة لي في هذا النطاق هي صورة رجل نزل من
القطار في محطّـة لا يعرفها، ثم انطلق القطار وتركه فيها…. حتى حقيبته
تركها في ذلك القطار…. تركها في ذلك القطار!
محمد رضا
|