نظرة سريعة علي أفلام 2013 وسؤال يفرض نفسه!!
بقلم: خيرية البشلاوي
في يناير 2014 تمر الذكري الثالثة لثورة 25 يناير 2011.. ثلاث
سنوات محملة بأحداث تكفي لملء حقبة كاملة ولكن يتبقي منها ثورتان
شعبيتان تاريخيتان لم يقيما بعد. ومن المؤكد انهما سوف تحظيان أكثر
من جميع الأحداث الفرعية ومن كل توابعهما بالاهتمام الأكبر في كتب
التاريخ!
وهذا الطوفان الهادر من الأحداث المصحوب بزلزال من الانتفاضات
المعنوية التي سيطرت علي حركة الحشود علي اختلاف توجهاتها لم ينعكس
بنفس القوة ولا الاندفاع الهائل في الفن الأكثر شعبية والأكثر
استهلاكاً من قبل الجمهور وبالذات الشباب.. وأعني فن السينما!
عموما الأحداث الكبري في حياة الشعوب تنعكس أصداؤها علي مختلف
الفنون ولكن بعد ان تهدأ الحركة وتستقر الأمور وتمضي فترة كافية من
التأمل. وبعد ان تحدث تأثيرها العميق في عقلية وأسلوب التفكير
ومشاعر الشعب الذي عاشها والأجيال اللاحقة التي سوف يجدها في مناهج
الدراسة والأهم في وجدان الفنانين المبدعين الذين تأثروا بها.
لم تتأثر السينما المصرية حتي الآن علي النحو اللافت والجدير بحجم
هذه الثورات وثقلها الجماهيري هناك نسبة محدودة جداً من الأعمال
السينمائية التي أظهرت تأثر صناعها بما جري. وقليل من هذه النسبة
المحدودة يبدو التأثير فيها مصطنعاً.
والمفارقة ان معظم الأعمال لم تحقق النجاح الجماهيري الكبير وعجزت
عن التواصل الحقيقي مع جمهور السينما. في حين استمر النجاح الكبير
للفيلم التجاري الاستهلاكي قليل القيمة معدوم الجمال فنياً. كثير
الصخب والضجيج والذي يعكس -ربما- أجواء العنف العضلي وانتشار
الجريمة ونزعات الانتقام الفردية. وتمكين المفهوم القائم علي لغة
السكاكين والشوم وليس التفكير العقلاني.
شهدت 2013 حالات من التراجع الكبير للغة السينما برغم القفزة
التكنولوجية الهائلة التي طورت امكانيات الفيلم التعبيرية حتي صار
قادراً علي سبر أغوار جميع الموضوعات بما فيها ما يندرج تحت الخيال
العلمي. ولم يعد هناك ما يمكن أن نصفه بأنه مادة معقدة أو غير
صالحة للتناول بلغة الصورة. الخيال العلمي عندنا معدوم.. والخيال
عموماً فقير.
ازدادت الفجوة بين الانتاج العالمي والانتاج المحلي الوطني وصارت
أكبر بكثير جداً من القدرة علي تجاوزها.. وتراجعت صناعة الترفيه
عندنا الي أن أصبح اعتمادها الرئيسي علي الرقص البلدي والفتوة وحتي
فن الرقص البلدي الذي كان وسيظل فيما يبدو العماد الأكثر ظهوراً في
هذه الصناعة "الترفيه" هذا الفن نفسه تراجع من سامية جمال وتحية
كاريوكا ونجوي فؤاد و.... الي مجموعة الراقصات اللاتي يظهرن في
معظم أفلام 2013.. ومنهن ساقطات شكلاً وأداء.. ساقطات في الهيئة
واللفظ. وجميعهن من "بيئة" عاكسة لمستوي تفكير وسلوك ومفهوم
المحترفين هابط جداً.. وبهذا القياس نفسه يمكن مقارنة المطربين
الشعبيين أبطال هذه الأفلام مع نظرائهم في الماضي القريب نسبياً.
قارن أيضاً نوع الطرب ومستوي التأليف وأسلوب الأداء وحالة الفقر
البين في مستويات الجمال شكلاً وموضوعاً.
هذه السنة 2013 أنتجت السينما المصرية 24 فيلماً النسبة الأكبر
منها يعتمد فيها المنتج والمؤلف وطاقم الممثلين علي عناصر الرقص
البلدي والطرب الشعبي والبلطجة والنصيب الأكبر من الانتاج يعود
الفضل فيه لأسرة السبكي.. أراك مندهشاً أمام كلمة "فضل" نعم لأنه
بدون هذه الأسرة الذكية لفقدت الصناعة عموداً من خيمتها ذلك لأنها
استثمرت أموالها ورصيدها البشري من الكبار "محمد وأحمد" ومن الذرية
الصغار هؤلاء الذين تظهر اسماؤهم في العناوين وأحياناً بين طاقم
الفنيين وحتي المؤلفين. أقول استثمرت أموالها في سلعة الفيلم
باعتبارها مصدراً للربح. واستطاعت بحس قارئ وفهم عميق للذوق الدارج
وللمزاج المسيطر ان تكيف هذه السلعة لكي ترضي الزبون المستهلك
للسينما. فقدمت له نوعية طازة من اللحم البشري اللذيذ. المتلون
والمثير للشهية.. وقدمت منه وجبات ادهشت الجمهور المحلي والعربي
ولك في نموذج صافي أو "صافيناز" مثل واضح وصورها علي كل أشكال
التواصل دليل لم يترك أبناء السبكي المجال لغير أصحاب الكار.
وانتجوا أفلامهم باستخدام "أفضل" العناصر واخراج ولائم بصرية من
العنف الشعبي "البدائي" والرقص المثير جداً والحوارات من أنقي ما
أفرزته العشوائيات والمقاهي والكباريهات وأختصت أفلامها بأحدث
الاكتشافات من الراقصات ومن المطربين والمطربات راجع أفلام "عش
البلبل" و"كلبي دليلي" و"تتح" و"سمير أبو الليل" وأفلام "محمد
رمضان" و"عبده موته" و"قلب الأسد" الخ الخ.
فارق كبير جداً بين مستوي المنتجين زمان ومستواهم اليوم. ورغم ذلك
يظل الفارق الحقيقي والموضوعي هو الفارق بين مرحلتين اجتماعيتين
والمستويات المتباينة من التعليم والتأليف والسينما ذلك لأن
السينما تظل في سنوات تطورها وفي حالات هبوطها وصعودها تعبيراً عن
"حالة" المجتمع فكرياً وفنياً واجتماعياً وعن مستويات المعيشة. عن
نسبة العشوائيات. عن التدهور الرهيب في المؤسسات العلمية والفنية.
نحن نعيش مرحلة حرق المجمع العلمي علي أيدي "ثوار"!!
ومرحلة نهب المتاحف وسرقة ما فيها. تفجير القصور والكنائس
الأثرية.. طمس معالم حضارة قديمة وحديثة عمداً ومع سبق الاصرار
والترصد نحن نعيش عصر المسخ الذي أفرز الجماعة الإرهابية!!
لقد علت أصوات ودعوات لمقاطعة أفلام السبكي لأن بعض السادة لم
تعجبهم هذه الأفلام لأنها لا تعبر عن قيم المجتمع "!" واشاروا أن
أي دعوة للمقاطعة قادرة علي أن تحقق استجابة طالما ظل المجتمع
يعاني من أمية علي كل المستويات وأن النسبة الأكبر منه تقاتل من
أجل توفير أبسط احتياجات البني آدم. وأن منظومة القيم أصابها ما
أصابه.
المجتمع المريض لا ينتج سوي أعمال تعبر عن فقره الروحي والفكري
وهذه الأعمال تحقق الترفيه الهروبي والتسلية للجماهير التي تتدافع
لمشاهدتها ولن تفلح أي دعوة للمنع. ولا يصح أن نطالب بمنعها
والمنتج أيا كان مستواه يخضع في النهاية لرغبة الجمهور لأنه "تاجر"
وليس مصلحاً اجتماعياً وجمهود السبكي حفظت لهذه الصناعة قدرتها علي
الاستمرار. ولو تغير المجتمع وتعافي سنجد المنتج الذي يقدم للناس
أعمالاً أفضل تعبر عن هذا التعافي.
في عام 2013 وبرغم العدد المحدود من الأفلام الاستهلاكية نجد نسبة
من الأفلام الجيدة التي تخالف التيار السائد. نوعية اعتاد النقاد
أن يطلقوا عليها السينما "المستقلة" وهو مصطلح منقول عن السينما
العالمية التي تمتلك صناعة كبيرة وتعتمد علي شركات مسيطرة ومتسلطة
علي مقدرات الانتاج السينمائي. وحتي هذه الشركات نفسها كثيراً ما
تتجه لما يسمي بالتيار المستقل لانتقاء أفضل ما فيه من مواهب
وعناصر فنية مبدعة.
المنتجون في مصر "مستقلون" بما فيهم السبكي نفسه. بمعني أنه لا
يخضع لكيانات كبيرة مهيمنة وهو نفسه لا يشكل كياناً ضخماً بالمعيار
العالمي. هو في النهاية منتج أعمال صغيرة بميزانيات محددوة.
الأفلام الجيدة التي أشرت إليها. أجود ما فيها أنها تجارب جديدة
تتلامس مع أشواق وطموحات عشاق السينما كفن وثقافة. واحلي ما فيها
أنها تقدم للشاشة دفعة جديدة من مبدعات السينما مثل "نادين حان
"عشم" وماجي مورجان "هرج ومرج" وآيتن عامر "فيلا 69" وهذه الأخيرة
يعتبر فيلمها أفضل ما أنتجته السينما المصرية هذا العام.. فيلم
يعتمد علي حساسية مرهفة. وأحساس راقي بالجمال وإنساني في رسم
الشخصيات وفلسفي في موضوعه.. أضم إلي هذه الدفعة من الأفلام
"المستقلة" فيلم "فرش وغطاء" للمخرج أحمد عبدالله السيد. الذي يمثل
جيل جديد لنج من مبدعي السينما.
إلي جانب "فيلا 69" هناك فيلم وحيد يتلامس مع "ثورة 25 يناير" أو
بالأحري مع أحد الأسباب التي أدت إلي قيامها هذا القمع البوليسي
والاستبداد الأمني أن صح التعبير "الشتا اللي فات" لإبراهيم بطوط.
من أفلام التيار التجاري فيلم أجده من أفضل الأفلام في قائمة 2013
وأعني فيلم "هاتولي راجل" لمحمد شاكر خضير.. فيلم لم يفكر صناعه في
اللحم الطازج ولا في النصف الأسفل فقط من جسد المرأة. وحاول أن
يستخدم رأسه وأن يقدم كوميديا بعيدة عن السوقية والابتذال اللفظي.
رنـات
ممـدوح الليـثي
خيرية البشلاوى
بعد مقال كتبته في رثاء زوجي المرحوم سامي خشبة فوجئت في صباح نفس
اليوم الذي ينشر فيه بمكالمة تليفونية من ممدوح الليثي يقول بمرح
مشوباً بالتأثر "تمنيت حين أموت أن تكتب زوجتي عني ما كتبتيه أنت
عن سامي" أبكاني تعليقه فلم تكن رخات الحزن التي أغرقتني برحيل
سامي قد توقفت.
الآن أكتب عن ممدوح الليثي وكنت أظن أن مثله قادر علي تحدي الموت
نفسه!! فقاوم الرجل رحمة الله عليه في آخريات أيامه من أجل أن يظل
واقفاً وحاضراً في تحدي جهاز منظم الضربات الذي يضبط إيقاع قلب بدأ
يئن وينذر بالتوقف. قاوم المرض ولم ينل من صموده وعشقه للحياة. حتي
فوجئت شخصياً برحيله.. فبكيت وسرحت هذا هو العمود الثالث في صرح
السينما يفارقنا خلال فترة لم تتجاوز الشهرين. توفيق صالح ورفيق
الصبان ماتا في يوم واحد وكأنهما علي موعد مع الفراق. وبعدهما
بأسابيع يلحق بهما ممدوح الليثي.. ثلاثة من جيل واحد.. خسارة كبيرة.
حين اختارني الليثي رئيساً لمهرجان الإسكندرية حين كان رئيساً
لجمعية كتاب ونقاد السينما. ولم أكن عضوة فيها. اقتربت منه وأدركت
سر قوة هذا الإنسان الذي قاتل علي جبهات كثيرة ولم ينهزم زرع وحصد
في حقل السينما علي تنوع محاصيلها ومازال الحصاد بخيره موجود في
مخازنها ومسجل في دفاترها وشاهد علي اسهاماته في تطورها كصناعة
وطنية.
كتب الليثي سيناريوهات لأفلام اختار النقاد معظمها ضمن أفضل مائة
فيلم أنتجتها السينما المصرية. كثير من روايات نجيب محفوظ كساها
لحماً ودماً وأنطقها وأقام جسوراً بينها وبين عشاق هذا الفن
الجماهيري فعرفها عامة الناس واسكنوها في وجدانهم ضمن ميراثهم
الثقافي والفني الأصيل "ميرامار. الحب تحت المطر. السكرية. الكرنك.
المذنبون الخ الخ".
تقلد مناصب عديدة في التليفزيون وقبل أن يترك مكتبه لمكتب آخر كان
يترك وراءه أعمالاً لتشهد علي انجازاته واختياراته الجسورة
لموضوعات تؤرخ لمسيرة الشعب المصري وتحفظ له قدره مثل "الطريق إلي
إيلات. ناصر 56. أنا لا أكذب ولكني أتجمل الخ".
ترك جهاز السينما مخلفاً من بعده ما يشهد للمرة العاشرة أو ربما
المائة بأنه شخصية قادرة علي الانجاز والاختلاف وصناعة ما هو ضد
السائد وضد الهابط. وضد التافه من المشاريع السينمائية.
جمع الليثي في شخصه حاسة ضابط المباحث وحدسه الغريزي. وفضول الصحفي
وقدرته علي الاقتحام. وشغف المبدع بالتفرد. مع شراسة الإداري
المعادي للترهل والبطء وقلة الحيلة. إنه شخص لا يعترف بالعجز. ولا
المستحيل ولا الحواجز "!" ولديه عيون ثاقبة تميز بين الصالح
والطالح. النقي والملوث.
في جملة واحدة ساخرة ونافذة يدهشك حين يصف بها "فلان" أو عندما
يحدد أماكن الضعف ونقاط القوة عند فلان آخر. والمدهش أكثر أنه
يتعامل مع الجميع.
رجل داهية لا يلين لو ناصب شخصاً العداء. فلديه خبرة رجل القانون.
ولديه أدوات جاهزة للتعامل. لا يضيع وقته في قضية خاسرة. ويكره
الخاسرين.
قليلة تلك النماذج التي تثير قدراً هائلاً من الجدل والاختلاف
حولها. معها أو عليها. ومع ذلك لا تتوقف مسيرته! فمثله لا يعرف
الكلل حتي آخر يوم في حياته.. عرف الحزن واكتوي به حين فقد ابنه
"شريف" لا يترك عزاء دون أن يكون ضمن أوائل الحاضرين.
برغم آلام الظهر المبرحة لم أستطع أن أتخلف عن المشاركة في عزائه..
يا الله ليس هناك موقع لقدم داخل صالة المسجد ولا في الشارع المطل
عليه. وكأن المدينة بأسرها انتفضت! كبراء القوم. نجوم التليفزيون
والسينما. أجيال من المذيعات. والمذيعين. طوابير من كبار
المسئولين.. سيارات تسد الشارع. حراس تلمحهم يملأون المكان.. فها
هي الدنيا بوجهيها: غرورة مالهاش كبير لا عز دايم ولا مال كثير..
الموت حق والرحيل يقين مطلق. تري من يتعظ وسط هذا الجمع الكبير.
انتهي فنجان القهوة.. وحملت كتاب الله الذي وزعوه علي المعزين مع
الكتيب الصغير "حصن المسلم في أذكار الكتاب والسنة" وعلي الاثنين
اسم وتاريخ وفاة الراحل العزيز ممدوح الليثي.
دعوت من حديث عائشة رضي الله عنها:
"اللهم
إني أسألك خيرها وأعوذ بك من شرها".
المساء المصرية في
|