شارك الأديب علاء الديب في عمل سينمائي واحد هو فيلم "المومياء" (
إخراج شادي عبد السلام 1968) وذلك من خلال المشاركة في كتابة
الحوار مع عبد السلام، الذي كان قد كتب الفيلم وحواره بالإنكليزية،
قبل أن يعهد بكتابة حواره إلى الديب.
"المومياء"،
كما هو معروف، احتل المركز الأول في استفتاء أفضل مئة فيلم عربي
الذي أجراه مهرجان دبي السينمائي الدولي مؤخرا وشارك فيه عدد كبير
من السينمائيين والنقاد من مختلف البلاد العربية.
"المومياء"
فيلم مميز في كل عناصره بالتأكيد، ولكن الحوار فيه يتسم بجمال خاص
جدا، وهو واحد من أفضل الحوارات السينمائية سواء التي كتبت بالفصحى
أو بالعامية.
وينبع جمال حوار "المومياء" من لغته الفصحى السهلة والسلسة، ومن
احتوائه على قدر غير مسبوق ولا ملحوق من الاستعارات والبلاغة، ولكن
ينبع بالأخص من اعتماده على جذالة الألفاظ وجرسها والايقاع الذي
تخلقه معا، وكلها عناصر، حين أضيف إليها أصوات الممثلين المنتقين
بعناية، إلى معزوفة موسيقية بارعة.
في مقال بعنوان "ملاحظات متأخرة عن صديق قديم" نشر في مجلة "صباح
الخير" بتاريخ السادس من نوفمبر، تشرين الثاني، 1986، عقب وفاة
شادي عبد السلام، يكتب علاء الديب عن تجربته الفريدة في فيلم
"المومياء" ما يلي:
"اقتربت
من شادي جدا في الفترة التي كان يعد فيها فيلمه "المومياء". كنت
أصوغ معه الحوار العربي للفيلم. وكان مجنونا عظيما، يرى المشاهد
قبل أن ينفذها... ويسمع الأصوات. نظل نبحث عن الكلمة حتى تتطابق مع
خياله ومع الصوت الذي يملأ كيانه... وعندما نجدها، يكون فرحه عظيما".
أصوات الروح
"لك
الخشوع يا رب الضياء أنت يا من تسكن في قلب البيت الكبير... يا
أمير الليل والظلام. جئت لك روحا طاهرا فهب لي فماً أتكلم به عندك
وأسرع بقلبي يوم أن تتثاقل السحب ويتكاثف الظلام".
سوف تسكنك هذه الجملة وما بعدها منذ اللحظة التي تتهادى فيها إلى
سمعك في المشهد الأول من فيلم "المومياء"، على لسان الممثل الذي
يؤدي دور جاستون ماسبيرو، عالم الآثار ومؤسس المتحف المصري، كما لو
كان قادماً بالفعل من خلف السحب الكثيفة، أو عبر السنوات الطويلة
التي تفصل بين زمن أحداث الفيلم في الربع الأخير من القرن التاسع
عشر، والحاضر الذي صنع فيه في النصف الثاني من ستينيات القرن
العشرين... في الغالب ستقع تحت تأثير السحر منذ اللحظة التي تتحرك
فيها عيناك مع حركة الكاميرا "البانورامية" التي تتهادى ببطء فوق
إحدى الصور الفرعونية المرسومة على بردية تضم رسماً ونصاً من "كتاب
الموتى" الفرعوني... قبل أن تتحرك لأعلى قليلا إلى البردية لنرى
ماسبيرو وعددا من علماء الآثار المجتمعين والطرابيش الحمراء تغطي
رؤوسهم.
الأصوات هنا لا تبدو فقط كما لو كانت آتية من قرن مضى، وإنما، كما
يصفها ماسبيرو بعد الانتهاء من قراءته للبردية، هي "صدى بعيد يأتي
من طيبة البعيدة يفصله عن يومنا ثلاثة آلاف سنة..".
في "المومياء" ليس نص البردية ولا كلمات ماسبيرو التي تأتي من مكان
بعيد، ولكن كل أصوات الفيلم، وخاصة حواره، مهما كان المتحدث الذي
ينطق بها، ومهما كان المعنى الذي يقوله.
استمع إلى صوت عقل ونيس وهو يردد أمام قبر أبيه، عقب اكتشافه أن
الأب الراحل كان يتاجر في آثار الموتى:
"ما
هذا السر؟ جعلتني أخشى النظر إليك..." قبل أن ننتقل إلى أخيه
الأكبر سليم وهو يقول للعم الذي أطلعهما على حقيقة قبيلتهما: "ما
هذا السر؟ العلم به ذنب... والجهل به ذنب أكبر..".
استمع إلى صوت العم وهو يقول، مخاطبا زوجة الراحل:
"يا
سيدة الدار الكريمة... البقية في حياتك. جئنا إلى دارك.. دار أخي
المرحوم سليم لنعزيك ونشاركك أحزانك".
تعبير "البقية في حياتك" وكلمة "المرحوم" يحملان روح العامية
المصرية، مثل كلمات وتعبيرات كثيرة مبثوثة عبر حوارات الفيلم،
ولكنها لا تتنافر مع لغته الفصحى الشعرية، بل تزيدها شعرا وجمالا.
العم يستخدم تعبيرا آخر عاميا وهو يقول لسليم محذرا: "أفندية
القاهرة المتكبرون سيضعونك في الحديد لو وجدوا معك هذا الشيء".
ولكن حين تحتدم المواجهة بين الاثنين يتحول حوارهما إلى شعر خالص:
يقول الأخ للعم: "قطعة من الذهب هي لك ولكني أراها عينا تلاحقني".
فيرد أحد الأقارب: "عينا ميتة بها ذهب يطعم مئة فم".
فيبادره الأخ: "مئة فم تأكل لحمك أنت لو جاعت".
فيرد القريب: "وأنت من أين كنت تأكل طوال عمرك؟".
تتدخل الأم، بصوت الممثلة زوزو حمدي الحكيم المألوف، والشهير بدور
شهرزاد في المسلسل الإذاعي "ألف ليلة وليلة"، بالقرب من نهاية هذه
المواجهة بين العم وابن أخيه لتحسمها:
توجه كلامها للعم: "في هذا الكفاية. أنا التي ربيت أولادي.. وقد
ربيتهم على الكبرياء والشموخ كالجبل".
وبعد أن ينصرف الأقارب تجيب ابنها عندما يسألها عن "الحقيقة": "سوف
تعرفها يوما ما... أو سوف لا تعرفها أبدا... أما الحقيقة التي
أعرفها فهي أنك لوثت اسم أبيك في داره". قبل أن تنهره غاضبة:
"الحقيقة؟... ملعونة حقيقتك وملعون أنت لأنك أقلقت من انتهى
وارتاح... الآن لن يعرف الراحة أبدا".
لا يقتصر الحوار الشعري المفعم بالخيال والألفاظ الجلية المنمقة
على الشخصيات الرئيسية. بعض من أجمل جمل حوار فيلم "المومياء" تأتي
على لسان "الفلاح الغريب" الذي يلعب دوره محمد مرشد خلال الحوار
الذي يدور بينه وبين ونيس وسط تماثيل الكرنك العملاقة:
-
ألم يخيفوك يوما..؟
-
كانوا رفاق طفولتنا.. كنا نختبئ بينهم..
أنا وأخي.
-
هذه كف تقبض على مصيرها... لن تقرأ أبدا.
-
أي مصير يقرأ في كف من الحجر؟
-
رسوم من شيدوا كل تلك القصور والتصاوير. رجال يسيرون إلى لا مكان،
وسفن ترحل إلى لا مكان.
من الصعب الاستشهاد بجمل بعينها من حوار صيغ كله، وكل كلمة وحرف
فيه، بعناية فائقة تحتاج إلى دراسة كاملة عنه كقصيدة حوارية
سينمائية نادرة، وكما يشير علاء الديب في كلمته عن شادي عبد
السلام، فمن الواضح أن اختيار الكلمات لا يتعلق فقط بمعانيها أو
بلاغتها ولكن بوقعها على شريط الصوت من خلال أداء الممثلين
والمؤثرات البشرية، مثل نواح النائحات على الموتى، والطبيعية، مثل
صوت الريح في الجبل، والموسيقية، التي تتحول فيها الموسيقى
التصويرية إلى كائن حي من نفس نسيج الفيلم، عوضا عن أن تكون لحنا
مقحما وحلية للتجمل.
هذا العمل المشترك بين شادي عبد السلام وعلاء الديب في فيلم
"المومياء" نموذج للتعاون الخلاق بين الشعر والدراما والسينما،
ولما كان يمكن أن تكون عليه السينما العربية لو أتيح لها من
الرعاية والاهتمام ما أتيح للمومياء في ظروف استثنائية!
في صحبة علاء الديب
بلال فضل
تشرفت بمعرفة العم علاء الديب في لحظة فارقة من حياتي التي لم تكن
وقتها تسر الصديق ولا تغيظ العدا، فتغيرت بفضله حياتي وانقلبت رأسا
على عقب، ومع ذلك ظل ذاك التغيير الجذري "أقل حاجة" عند علاء الديب،
فما أهمية تغيير حياة شاب عابث مثلي لو قارنتها بروايات علاء الديب
البديعة التي تتفجر بالشجن النبيل، أو بكتابه المعجز "وقفة قبل
المنحدر" الذي جعله يستحق عن جدارة لقب "المكترث الأكبر" بحال
البلاد وهم العباد، أو ببابه الصحافي الخالد "عصير الكتب" والذي
بادرت دار الشروق مشكورة لنشر أهم مختاراته في كتاب، والغريب أن
إصدار دار الشروق لكتاب (عصير الكتب) جاء بعد تردد طويل من علاء
الديب نفسه الذي كان يظن - ويا للعجب - أن أحدا لن يهتم بهذا
الكتاب، برغم رجاء مريديه له أن يحقق لهم هذا الحلم الذي سيساعد
الأجيال الجديدة على أن تتعرف على أجمل الكتب التي قدمها علاء
الديب للقارئ العربي في العصر الذهبي لمجلة "صباح الخير" قبل أن
تفقد طيشها الجميل مع سيادة عصر "صباح الخير يا مصر".
ربما كان من المهم ـ نسبة إلى الأهمية والهم أيضا ـ أن تعرف أن ما
تم نشره في الكتاب الصادر عن (دار الشروق) يشكل أقل من واحد في
المئة من مجموع الكتب التي عصرها العم علاء في بابه منذ ورثه عن
سلفه فتحي غانم، وحتى توقف عنه عام 2000 ليواصل منذ ذلك الوقت عصره
للكتاب في صحيفة (القاهرة) الصادرة عن وزارة الثقافة على مدى سنوات
في باب اختار له عنوان (كتاب في كلمة.. كلمة في كتاب)، حتى توقف عن
كتابته بعد حملة تطهير قامت بها وزارة الثقافة للصحيفة من كل ما
يمكن أن يدعو القراء إلى شرائها لتصبح لائقة بالمظهر العام الفاشل
للوزارة، وللأسف فقد استمر غياب قلم علاء الديب عن قرائه لفترة
طويلة حتى عاود منذ أشهر بابه المفضل (عصير الكتب) في صحيفة
(المصري اليوم)، وما زالت مئات المقالات التي كتبها ويكتبها العم
علاء متعه الله بالصحة والعافية تنتظر ناشرا ذكيا يبادر إلى جمعها
في سلسلة كتب على غرار سلسلة (فيض الخاطر) الشهيرة للكاتب العظيم
أحمد أمين، لتكون توثيقا رائعا، ليس فقط لكتابة علاء الديب
الرائعة، ولمجهوده المدهش في خدمة الثقافة، بل لتكون أيضا توثيقا
لأجمل الكتب وأهمها وأجدرها بالقراءة.
مع سبق الإصرار والترصد أضعت كل فرصة سنحت لكي أتعلم من علاء الديب
أشياء مثل الوقار والحكمة أو الهدوء أو التأمل أو معرفة أسماء
الأشجار، فالنباتات عندي كلها تحمل اسما واحدا هو "شجر"، لذلك
اكتفيت بأن أغبط على الدوام صحوبية عم علاء الحميمة لكل أنواع
الأشجار والثمار والزهور، وفضلت أن أظل كما أنا مكتفيا بصحبة علاء
الديب ومستسلما ليقين أنني لن أصل أبدا إلى هذا القدر من الصفاء
والعطاء ونكران الذات والانشغال بالعمل والمعرفة في تصوف وزهد
حقيقين لم أر لهما مثيلا.
أحلى الأوقات عندي كانت ولا تزال أيام السبت المتفرقة التي أقضيها
داخل مكتبة العم علاء فوق كنبات بيته الحميمة الحمولة وعلى ضفاف
حديقته الصغيرة الغنَاء مستمتعا بصحبة العم علاء وزوجته السيدة
عصمت صانعة البهجة والتي كانت تشاركنا فيها على مدى سنوات طويلة
رفيقة عمرهما المرحومة الحاجة سعاد رضا إحدى بناة أمجاد روز
اليوسف، وبرغم المباهج التي تحفل بها المائدة مما لذ طعمه وخف دسمه
ـ وهو أمر لم يعد سهلا توفره في هذا الزمان ـ وبرغم التزامي الدائم
بمهمة الإجهاز على كل ذلك مع ترك القليل لعم علاء والحاجة سعاد
حرصا على صحتيهما، وبرغم المشروبات التي تتفنن السيدة عصمت في
ابتكارها كل مرة من عصير خير حديقتها، وبرغم سبيل المعرفة الذي
نذره عم علاء تكرما لسقاية العطاش من أمثالي، إلا أنني كل مرة أجد
أن أعظم درس يمكن أن تتعلمه من علاء الديب هو أن المثقف يمكنه أن
يعيش بسعادة وهناء، ويأكل بشهية مفتوحة، ويتحدى المرض، ويقرأ كأنه
لن يكتب أبدا، ويتجرع عناء وبهجة البحث عن الكتابة كأنه لن ينشر
أبدا، ويضحك من قلبه ويستمتع بصحبة الأصدقاء وإن رحلوا عن الدنيا،
ويربي ولدا وبنتا يُفرحان القلب العليل، كل هذا دون أن يضطر لبيع
شرفه وقلمه ومواقفه واستقلاليته، ودون أن يفقد قدرته على الاندهاش
أو رغبته في مقاومة العفن المحيط به، دون أن يتخذ من سياسة "خالف
تُعرف" سبيلا الى الشهرة، واخيرا دون أن يحفل ولو للحظة بأن يعرفه
كل الناس ما دام قادرا على الاستمرار في محاولة التعرف على نفسه.
عاش علاء الديب عمره كله لا ينتظر شيئا من أحد، لم يتكئ على حكومة
أو تنظيم أو جمهور، اكتفى بالقلم سندا، وبالسؤال طريقا، وبعدم
الرضا الكامل عما يكتب ونيسا في رحلته السيزيفية نحو البحث عن
كتابة أفضل. لم أر أحدا يحب بلاده حبا راقيا عاصفا أفلاطونيا ومن
طرف واحد كما رأيت علاء الديب وهو يحب مصر، وعندما تعرض لمحنة مرض
عاصفة قبل سنوات، وخذلته مصر الرسمية التي تستمتع بأكل أخلص
أبنائها، لم أشاهده للحظة ساخطا أو شاكيا أو متباكيا على أحواله،
تحمل الأزمة برجولة وعبرها في صمت جليل، ولم يتخذ مما حدث ذريعة
لصب جام غضبه على البلد والعيشة والناس، وحتى عندما كنت أتطوع أنا
وغيري للتعبير عن غضبنا كان يُخرج الحديث فورا من إطاره الشخصي إلى
الحديث عن مصر وأحوالها ومستقبلها، قبل أن يجرجرنا بصنعة لطافة إلى
الحديث عن أكثر ما يبهجه في الحياة، الكتب الجديدة والروايات
الحلوة والمزيكة والسينما والأشجار وسيرة الولد أحمد والبنت سارة
وقبل كل هذا وبعده الست عصمت ومشروباتها المدهشة.
أسعدني زماني بصحبة علاء الديب، فبالله يا دهر لا تنقضِ.
كاتب وسيناريست مصري
السفير اللبنانية في
|