"بالنسبة
إليَّ، هناك شابرول، فيلليني، كوروساوا، فيسكونتي، جون فورد. في
كاليفورنيا، كان عندي استاذ يحب أفلامه. عرض علينا مرة "النساء
الجيدات" الذي يتضمن أجمل نهاية لفيلم في تاريخ السينما. كان
يذكّرني بـ"ليالي كابيريا" لفيلليني، لكنه أكثر سواداً منه". هذا
ما قاله المخرج الأميركي جيمس غراي عن كلود شابرول في مقابلة
صحافية جمعته مع المخرج الفرنسي الراحل نشرتها مجلة "بروميير".
فالسينمائي الشهير (1930 - 2010)، صاحب الـ50 فيلماً الذي يعيد
مجمّع "متروبوليس" الاعتبار اليه في استعادة تكريمية ("مرايا
وأقنعة"، 26 كانون الثاني - 5 شباط)، تركت أعماله اثراً بالغاً في
اكثر من جيل، وعبرت سمعته المحيطات ونال التقديرين الجماهيري
والنقدي.
انه سينيفيلي نهم، معجب بفريتس لانغ، يعرف السينما من الداخل،
تماماً كمعرفته بالمطابخ (أفلامه تحتفي بالمآدب والولائم)، جاء الى
السينما بعدما تلقى وهو في السادسة والعشرين ارثاً عائلياً حصلت
عليه زوجته الاولى. هذا الارث اتاح له انتاج فيلم صديقه اريك رومير
"ضربة الراعي". ثم انكبّ على اخراج "سيرج الجميل"، مستوحياً من
اسلوب روبرتو روسيلليني، وساعدته في اضفاء حسّ الواقعية على الفيلم
الاضاءة غير الرائجة في تلك المرحلة التي اقترحها هنري ديكا. فولدت
"الموجة الجديدة"، أبرز ثورة في تاريخ السينما، قبل سنة واحدة من
دخول العالم الستينات.
حقق "سيرج الجميل" نجاحاً جماهيرياً مهماً، فواصل شابرول صعوده
الاستثنائي مع "أولاد العم" في السنة التالية، متحولاً الى أحد
رموز التيار الناشئ، الى جانب فرنسوا تروفو وجان لوك غودار وألان
رينه واريك رومير، وكان معظمهم الى جانب نشاطهم الاخراجي ينشرون
كتابات نقدية عالية الجودة في مجلة "دفاتر السينما"، وهي المطبوعة
التي صارت ناطقة باسم سينما ارادت قتل الآباء المعنويين الذين
هيمنوا طوال نصف قرن على السينما الفرنسية. التتمة معروفة: بعضهم
ظل وفياً لعقيدة الموجة، والآخر عرّج على انشغالات أخرى.
على الرغم من ارتباط شابرول بجماعة "الموجة"، لم يطعّم سينماه
بمناخها وافكارها، بل ظلّ على مسافة من "الاتراك الشباب" مديناً
تجاوزاتهم وتعصبهم الأعمى احياناً. لكنه ظلّ الصديق المحب الذي
يعرف كيف يجمع الحلفاء السابقين والأعداء الحاليين، بحكم طبعه
الحسن (الكل يجمع على ذلك) وجنوحه الى السخرية وعدم قبض نفسه على
محمل الجد وإلى اللامبالاة الخلاقة. هذه الغزارة التي كانت لديه في
الانتاج جعلته يقدّم نحو ستين فيلماً، متجاوزاً بأشواط عدد الأفلام
التي قدّمها رفاقه. كان يقول ان افضل طريقة ان ينجز المخرج افلاماً
جيدة هي ببساطة ان ينجز أكبر عدد ممكن منها.
ترك شابرول بصمات دامغة في تاريخ هذا الفن. ابن الصيدلي - المقاوم
هذا، لم يعثر على شيء يروي عطشه الفطري للسخرية واللؤم والمعاينة،
سوى الوقوف خلف الكاميرا. يروي ان السيناريست بول غيغوف جعله يتخلص
من تربيته البورجوازية الصارمة، فتخصص نوعاً ما في الأفلام التي
تعرّي الطبقة المرتاحة اقتصادياً من سكان الضواحي او الارياف
البعيدة من عاصمة الأنوار. نزعته اليسارية عززت عنده هذا الميل الى
الموضوعات المتصلة بنفاق الاثرياء وتدهور القيم لدى البورجوازية في
القرى الفرنسية، فجعل هذه التيمة شغله وهوسه، لكن بتنويعات مختلفة.
كان "شريراً" يلسع حيث الجرح، مُظهراً ان كثراً من ابناء الطبقة
الميسورة يسارعون الى انقاذ صيتهم، لا الفضيلة، عندما يدق الخطر
بابهم.
فيلم "الغزلان" (1968) شكّل انعطافة في مساره: نجاح كاسح، نقدي
وجماهيري، علماً ان الفيلم الذي صدر في خضم ثورة الطلاب كان خالياً
من السياق السياسي. كرّت سبحة من العناوين الكبيرة المقتبسة إما من
جورج سيمونون وإما من حوادث عرضية (مصدره المفضل)، وهذا كله عكس
ميله الى ادخال عنصر الجريمة في أفلامه، الذس جاء به من أفلام
الفرد هيتشكوك الذي عشقه وخصص في شأنه كتاباً. كان يقول: "ابسط
المواقف تتحول الى ما هو بالغ الدلالات عندما تحصل جريمة". على هذه
القاعدة أنجز كلاًّ من: "دكتور بوبول" مع بلموندو؛ "اشباح صانع
القبعات" مع سيرو؛ "دجاج بالخلّ" مع بواريه؛ "قناع" مع نواريه.
للمناسبة، استخدم كبار الممثلين في السينما الفرنسية.
أدار شابرول في أفلامه ممثلات عديدات، أهمهن ستيفان أودران المثيرة
للريبة، التي اطلقها في تحفته "النساء الجيدات" (1960)، فصوّر معها
25 فيلماً بين 1964 و1980! كانت ملهمته على الشاشة وزوجته في
الحياة. لكن تعاونه مع ايزابيل أوبير أقحمه في مجالات سينمائية
جديدة غير مظنونة. بعد اطلاقها في "فيوليت نوزيير" وحصولها على
جائزة التمثيل في مهرجان كانّ 1978، لم تلتق طريقهما عقداً من
الزمن، قبل أن تتحول أوبير الى الرمز النسائي الجديد لسينماه مع
"قضية امرأة" (1988)، اذ كان يصوّرها بعطف كثير، معتبراً اياها
كإبنته، لكن من دون الاذعان الى منطق نسوي بليد (على رغم ما اتهم
به). سبعة أفلام هي في المحصلة ما سينجزانه معاً في إنتاج يتسم
دوماً بالقسوة ويغلب عليه طابع لئيم الى ابعد حّد. ما السر الذي
يجعل عملية حسابية مثل شابرول + هوبير = فيلم شرير؟ يشرح شابرول:
"تعجبني لدى ايزابيل، قدرتها على لعب شخصيات متطرفة في لؤمها، لكن
من دون ان تغفل جانبها الانساني. كثر هم الممثلون الذين يستطيعون
ذلك، لكن هي تفعله بأسلوب جاف، اي اننا نجهل من اين تخرج النزعة
الانسانية لدى الشخصية، لكنها تظهر إلى العلن. لا ارى من كان يمكنه
تقمص هذه الطراوة الصلبة التي تتسم بها. هي التي حضّتني على انجاز
"مدام بوفاري" الذي كنت اطمح الى انجازه منذ سنوات، لكني كنت
خائفاً. فجأة، قلت لنفسي: "هيا، صرت في الستين، اذا لم تنجزه الآن،
فلن تنجزه ابداً". غير اني نقيض برغمان: لست في حاجة الى ان اطارح
ممثلاتي الغرام. لا أحب الصخب على البلاتوه!".
اجتازت سينماه أنفاقاً مظلمة، وتراكمت الأفلام الرديئة ذات
الخيارات الفنية غير الموفقة والميلودرامات الغامضة، لكن لم يكن
يأبه كثيراً. لم يتوان يوماً عن اطلاق احطّ النعوت في حقّ بعض
أفلامه التي انجزها مضطراً. كان يروي انه يفرحه عندما يكون احد
أفلامه التي لا يحبها عرضة للفشل الجماهيري. فيصارح نفسه قائلاً: "بئس
المنتج الأبله الذي غامر بتمويله". ثمة موقف آخر كان يجد نفسه فيه
احياناً على حين غرة، هو عندما يحظى احد افلامه التي لا يحبها،
بنجاح باهر. "اشعر نفسي سارقاً"!
لعل "ليمت الوحش"، و"الجزار"، وكلاهما مع جان يان في كاراكتيرين
كاريزماتيين، هما الفيلمان اللذان تجلت فيهما اسلوبيته أكثر من
غيرهما، إن من ناحية السرد او ايلاء التفاصيل الاهمية المطلقة.
هذان الفيلمان وضعاه في مكانه الصحيح: ابناً روحياً لهيتشكوك.
عندما نشاهدهما اليوم، يبدو اعتناءه بالكادرات صارخاً، مع نحت
الذخر الانساني نحتاً قوياً في جسد الصورة.
في مقابلة مع "النهار" أجريت عام 2006، عندما سألناه ما الذي
ينتظره من السينما بعد تجربة تمتد على نحو نصف قرن من الزمن، كان
ردّه الآتي: "ثمة امران يجعلانني اكمل مسيرتي. الاول اني، ولسبب
اجهله تماماً، اشعر بصحة جيدة حين اصوّر. عملية التقاط المشاهد
اشبه بإجازة بالنسبة اليّ. كثر يصرّحون بأن التصوير هو المرحلة
الأصعب، اما انا فأرى انها الأمتع لأن كل ما هو معقد ومزعج يكون قد
ولّى عندما نشغل محرّك الكاميرا. ما اود قوله انك عندما تكون
منهمكاً في التفاصيل المهنية، لا تشعر بالألم الذي يصيبك، وهذا كله
يختفي عندما تعمل جاهداً. اذاً، اقلّه بالنسبة الى صحتي، السينما
هي افضل طبيب معالج. ويتجلى السبب الاخر في انه لا يزال عندي ما
ارويه. في الواقع، لديّ حلم، يصعب تحقيقه، هو ان احوّل الكرة
الارضية الى مكان، حيث الكل يعشق الكل. لذلك أُظهر في افلامي ما
يمنع تحقيق هذا الهدف. لهذا السبب افلامي رهيبة. لا اسعى البتة الى
تصوير ما ليس له وجود، بل اعالج اسباب عدم وجوده وأقول ان العالم
هكذا. لذا، تراني "اقرص" في المكان الذي يؤلم".
ثم بطرافته الاعتيادية، كان يشرح ان للمخرج نفوذاً يتجاوز نفوذ
الحبر الأعظم: "سأعطيك مثالاً على ذلك. في اثناء زيارة البابا لأحد
المسؤولين الكبار، يخرج من الباحة المطلة على القصر الجمهوري،
فيلفت انتباهه الحشيش المزروع هناك، فيقول: "لا احب اللون الاخضر،
أليس في إمكانكم تلوين الحشيش بالأحمر؟". ينظر مرافقوه بعضهم الى
بعض: "يبدو انه فقد عقله". ويقودونه الى الفراش ليرتاح قليلاً بعد
أن يعتذروا من الرئيس لحالة البابا. أما أنا، فأصل الى مكان ما،
واصرخ في وجه الحاضرين: "ما هذا الحشيش الاخضر؟ اريده احمر الآن".
سرعان ما يأتي اربعة عمال ويدهنونه باللون الاحمر. لا يجادلون، ولا
يعتقدون أني معتوه".
hauvick.habechian@annahar.com.lb
- "مرايا
وأقنعة" - من 26 الجاري الى 5 شباط في مجمّع "متروبوليس". للمزيد:
http://www.metropoliscinema.net/
شابرول والآخرون...
تييري فريمو: كان واحداً من الذين اخترعوا السينيفيلية العالمية.
فرنسوا بيرليان: كان مغرماً بالحياة.
جيرار دوبارديو: كان طفلاً ولم يكن يأتي على ذكر الموت البتة.
فريديريك ميتران: كان معلّم السخرية.
كلود لولوش: يجسد الثورة والتقليد في آن واحد.
سيرج توبيانا: كان يمازح ويستعمل النكتة قناعاً، انه بالنسبة
إليَّ، أكبر مخرج فرنسي.
جاك لانغ: كان رمزاً للحياة التي نهشها بشغف، وأفلامه تعبّر عن هذه
الحيوية.
ايزابيل أوبير: أفلامه كانت قاسية لكن هو كان مخرجا انسانيا.
أفلامه المفضلة
"قانون
اللعبة" لجان رونوار.
"م
الملعون " لفريتس لانغ.
"الفجر"
لمورنو.
"سيئ
السمعة" لألفرد هيتشكوك.
"مخطوف
النفس" لجان لوك غودار.
نظرة لا ترحم
"الفتاة
المقطوعة جزءين"، هو ضربة معلّم لواحد من عمالقة السينما
الفرنسيّة، الذي يعثر هنا على "حياة ثانية" ــ اذا جاز التعبير ــ
ويجدّد شبابه في شريط نبش شابرول قصته في حادث من الحوادث العرضية،
تلك التي نقلها مراراً وتكراراً من زاويا الصحف في أسفل صفحاتها
الى الشاشة المستطيلة. بالنظرة اللئيمة ذاتها التي اتسمت بها كلّ
أعماله، نظرة لا ترحم لا الفرد ولا البيئة التي يأتي منها، يدخل
المعلّم الفرنسي الى أعمق مكان في الانحرافات الاخلاقية التي تتشكل
منها حياة زمرة من المستفيدين (الوصولية، دائماً وأبداً) والصاعدين
الى الشهرة والمال والسلطة على حساب وسائل الاعلام المروّجة
لاعمالهم، سيئة أكانت أم جيّدة أم بين بين.
مرّةً اخرى بعد "سكرة السلطة"، يتعاون شابرول مع الممثل فرنسوا
بيرليان مانحاً اياه دور كاتب شهير يعيش حياة اجتماعية راقية حافلة
باللقاءات والاغواءات في مدينة ليون الفرنسية. هناك ايضاً مذيعة
النشرة الجويّة (لوديفين سانييه التي تحمل الفيلم على ذراعيها
النحيلتين) في التلفزيون المحلّي، وايضاً وارث احد الاغنياء (بونوا
ماجيميل في اداء مدهش) الذي بنى ثروته من عمل والده الراحل في مجال
الادوية. طرق هؤلاء الثلاثة تلتقي مصادفة، ومذاك نشهد لعبة شدّ
حبال مرعبة، على خلفية علاقات حبّ وانفصال وتحدٍّ وغيرة وثأر، بين
أولئك الاطراف، وصولاً الى نزول جحيمي سيدفع ثمنه الجميع. واذا
كانت كلّ شخصية مركبّة على حدة، ولا سيّما الذكورية منها، فشخصية
سانييه هي الاكثر محورية وتعبيراً عن سينما شابرول الذي يقدّم هنا
بورتريها نسائيا جديدا، كما في "فيوليت نوزيير" أو "بيتي"، لكنه
يتجاوزهما في قدرته على تمريغ الشخصيات في وحل الطبيعة البشرية
القذرة، وغير القابلة للاصلاح. وكما في كلّ فيلم يستحّق أن يحمل
توقيع شابرول، ستكون النهاية مأسوية، بعد أن يكون قد ساوى بين
شخصياته، خبثاً وخساسة، مع ميل معلن الى الفتاة المقطوعة أثنين،
بالمعنى المجازي والحرفي، كما سنراه في ختام نزولنا في عالم شابرول
المناهض لبورجوازيي الأرياف الفرنسية. الى قسوة شابرول، هناك ايضاً
حرفته التي لم تتعب ولم تشخ، فكل كادر مستند الى حجّة درامية ولغة
سينمائية بالغة التعقيد. وكل لحظة تبدو بريئة للوهلة الاولى
(الفيلم حافل بالاختزالات الزمنيّة الجميلة والمعبّرة) خلفها لحظة
أخرى أكثر اختزاناً للهاجس البشري.
(الأحد
2 شباط، الساعة 20:00).
النهار اللبنانية في
|