·
حين رأت أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها قالت: «لقد ذهب فاروق وجاء
فواريق»
·
تحية لم تنسلخ عن أرضها ووطنها وأبناء بلدها.. وكان هذا بالتحديد
سر عظمتها ورونق شخصيتها الدائم
ليست مجرد مذكرات، وكاريوكا ليست مجرد راقصة!
فمذكرات تحية كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر،
لكنها تعكس صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على
نصف قرن من الزمن، وتكشف ما يجرى فى كواليس صناعة النجوم الذين
تصدروا المشهد لسنوات طويلة من نجيب الريحانى وبديعة مصابنى وأنور
وجدى إلى شكرى سرحان وفاتن حمامة وزينات صدقى!
فتحية لا يمكن اختزالها فى كونها راقصة حتى لو تُوّجت ملكة للرقص
الشرقى، ولا يمكن تفسير حب الناس لها باعتبارها فقط واحدة من
علامات الفن فى مصر، لكن «تحية» التى سكنت قلوب الناس، وجلست
وتربعت داخل وجدانهم كانت معبرة عن بنت البلد المصرية الصميمة،
الخالصة، المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة التى تقابلها فى كل مكان،
وتحترمها، وتقدرها، وتفخر بها أينما رأيتها أو نما إلى أذنك صوتها،
لذلك بقيت تحية وذهبت غيرها.
فـ«تحية» إلى «كاريوكا» التى ولدت قبل 14 يومًا فقط من اعتقال سعد
زغلول وقيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948 ووقفت إلى جوار
الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت أن ثورة يوليو
انحرفت عن مسارها قالت: «لقد ذهب فاروق، وجاء فواريق»، فدخلت السجن
101 يوم، لكنها بعد رحيل عبد الناصر، قالت: «لم أكن ضد عبد الناصر
أو ضد الثورة، لكنى كنت ضد الخروج عن الأهداف التى قامت من أجلها
الثورة وأولها الديمقراطية».
هكذا كانت تحية كاريوكا مختلفة، وفريدة، ومتفردة، لذلك قصة حياتها
كانت مثيرة ومدهشة، لكن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم حين قرآ هذه
المذكرات غضبا بشدة!
وقال الحكيم لصالح مرسى معاتبًا: «ليه سميت اللى أنت كاتبه ده
كاريوكا؟!»
فقال صالح: «لأنها كاريوكا يا توفيق بك!»
هنا تدخل نجيب محفوظ والأسى يقطر من بين شفتيه: «طب ما تسميها قصة
راقصة يا أخى! اللى أنت كاتبه ده أدب»، وأضاف أديب نوبل قائلا:
«أنا لو سميت اللص والكلاب (محمود سليمان) ما كانتش بقت رواية»!
كان هذا هو الدرس الأهم فى حياة الأديب الكبير صالح مرسى، وربما
كان السبب الأول فى تغيير مجرى حياته ليصبح صاحب رأفت الهجان وجمعة
الشوان والحفار وغيرها من روائع أدب الجاسوسية، لذلك كانت مذكرات
تحية كاريوكا بمثابة نقطة الانطلاق.
مذكرات تحية كاريوكا كانت البداية.
لكن صالح مرسى قاوم كتابتها كثيرًا فقد كانت المرة الأولى فى نهاية
الخمسينيات حين ذهب إلى كاريوكا، وقال لها «نفسى أكتبك» فوافقت،
وهرب ونسى أو تناسى، ثم عاد وكرر الطلب بعد تسع سنوات، فوافقت ثم
اختفى للمرة الثانية، لكنه عاد بعد أسابيع قليلة ليبدأ معها تسجيل
رحلة حياتها فى عشرين ساعة، لتنشر فى مجلة الكواكب منذ قرابة نصف
قرن، لكن المدهش أن هذه المذكرات لم تُنشر فى كتاب، بل إنها اختفت!
نعم، اختفت، فحين ذهبت إلى دار الكتب والوثائق وجدت أن الأعداد
التى نُشرت فيها المذكرات فى «الترميم» -باستثناء أعداد قليلة-
وبالتالى لا يمكن الاضطلاع عليها أو تصويرها، أما فى مكتبة
الإسكندرية فلم أجد سوى ست حلقات فقط، فاتجهت إلى سور الأزبكية
وسور السيدة زينب حتى عثرت على أجزاء من هنا، وأجزاء من هناك، وبعد
رحلة بحث طويلة تم الوصول إلى المذكرات والحصول عليها كاملة بكل ما
فيها من أسرار ومفاجآت.
1-
كانت العاصفة تنذر بالهبوب، والسحب تتجمع وتحجب قرص الشمس الواهن..
وبدا لون الأمواج المتعالية أسمر مقبضا.. والسفينة الصغيرة تمخر
عباب الخليج فى جهد شديد، والرياح تأتيها من الشمال، وصوت الآلة
الصغيرة يتردد فى الداخل مجهدا لطول ما عانى فى الرحلة.. والرجال
على السطح يرقبون الأفق وقد بلل رذاذ المياه المتطاير وجوههم،
وكانت وجهتهم هى ميناء السويس، ثم النصف الجنوبى للقناة، ثم
البحيرات، حيث ترقد الإسماعيلية فى دعة وهدوء!
كانت السفينة عائدة من رحلتها الطويلة إلى جدة، تلك الرحلة التى
تعودت أن تقطعها فى كل عام مع بداية فصل الشتاء، وتعود منها دائما
فى مثل تلك الأيام، والربيع يدق الأبواب.
وكانت الإسماعيلية تبدو فى ذلك الوقت من النهار هادئة بنصفيها
العربى والإفرنجى، كان الحى الإفرنجى يبدو نظيفا جميلا، وقد تناثرت
فيه البيوت الصغيرة ذات الطراز الفرنسى، ومن حول البيوت الحدائق
المليئة بالزهور وأشجار المانجو.. كان الحى يبدو كأنه قطعة من
أوروبا، وقد راحت الزوجات الفرنسيات والإنجليزيات والبلجيكيات
-وكانت هذه هى الجنسيات الغالبة على هذا الحى- يسعين إلى المحلات
لشراء ما يلزم بيوتهن، أو يدفعهن أمامهن بعربات أطفالهن فى هدوء
واطمئنان!
كان كل شىء قد هدأ منذ عامين، وخمدت تلك الثورة التى هبت فى عام
1919 فاجتاحت مدن مصر كلها، بما فيها مدن القناة رغم وجود جيش
الإمبراطورية بكثافة فيها، وكف المصريون منذ زمن عن خطف الرجال
والتمثيل بجثثهم، بل إن بعض الزوجات كن يخترقن الشوارع إلى الحى
العربى وأزياء الشرق فيه، فيشترين ما يلزمهن من خضراوات أو بضائع،
بثمن أقل!!
كذلك كانت الحياة تسير فى الحى العربى الذى بدا كأنه مدينة أخرى،
فى قارة مختلفة!!
كانت البيوت ترتفع أدوارا بمشربياتها، وتتكدس المحلات متجاورة تحت
الشرفات المغلقة فوق أعمدة البواكى، حيث كان المارة يجتمعون فيها
من المطر الذى كان يهطل رذاذا رقيقا ثم انقطع.. وكانت الشوارع
مزدحمة بالناس الرائحين والغادين، والمقاهى تضج بما فيها من حياة،
وتتعالى نداءات الباعة وتتشابك فى نغم له رائحة.. لا شىء كان يلفت
النظر سوى تلك المناقشات التى احتدت منذ أيام، والتى تجددت بعد هذا
التصريح الذى ألقاه المستر ونستون تشرشل، وزير المستعمرات
البريطانى الجديد، الذى خلف اللورد ملتر فى حكومة المحافظين.. وكان
المستر تشرشل أكثر شبابا وأكثر تطرفا وحدة من اللورد ملتر، فصرّح
بعد توليه الوزارة مباشرة بأن: المسألة المصرية مسألة بريطانية،
لأن مصر قد أصبحت جزءًا من الإمبراطورية المرنة؟!
واحد من الرجال فقط -على ظهر السفينة التى كانت تقطع مياه الخليج
نحو الشمال- كان أكثرهم قلقًا، لم يكن قد سمع شيئا مما كان دائرا
فى مصر، بل تخطى فؤاده مدينة الإسماعيلية بكل ما فيها إلى قرية
صغيرة فى الدقهلية، اسمها: المنزلة.
كان شاربه الكث يتطاير مع الرياح وتلتصق شعيراته بوجهه.. كان يبدو
وسيما قويا هائل الحجم مثل «سارى» متين.. ولم يكن هناك ما يشغل بال
المعلم محمد على النيدانى فى تلك الليلة سوى زوجته الجميلة
الصغيرة، التى تركها منذ بضعة أشهر وقد انتفخت بطنها بجنين طال
الشوق إليه.. كانت سفينته عائدة من رحلتها إلى جدة وقد تكدست فى
منابرها البضائع، وكان حاله ميسورا، وهو يملك هذه البيوت فى
الإسماعيلية، بلاده ومسقط رأسه وموطن كل عائلته -وله ثمانية من
الأولاد والبنات، ثم.. لقد رزق وهو فى هذا العمر- بزوجة شابة،
جميلة، ومطيعة.. فعشق قلبه طبعها مثلما عشق وجهها ذا النمش الكثير!!
ترى: هل أنجبت فاطمة؟!
هل وضعت ولدا أم بنتا؟
ذهب السؤال وعاد وألح على ذهن الرجل، فظل فى وقفته تلك حتى أتى
المساء، واشتد هبوب الرياح، وبانت أنوار السويس فى الأفق المظلم،
فتنهد بالحنين، وعاد إلى داخل السفينة!
كان هذا فى يوم 19 فبراير عام 1921.
ولو علم المعلم محمد على النيدانى بالحديث الدائر وقتئذ فى
الإسماعيلية لتغير حاله واشتد به القلق وتشعب.. إن أكثر ما يخفيه
ويقلقه تجدد المظاهرات، ووقف الحال، والكساد وبوار البضائع، وضياع
الألوف من الجنيهات.. ثم تلك الشهرة التى اشتهر بها أخوه حسن
النيدانى. ذلك الشاب الذى كان يجر على العائلة كثيرًا من المصائب،
يوم كان يهوى خطف جنود الإمبراطورية، وقتلهم بالخوازيق! ولقد كان
حسن واحدا من الذين كانوا يتناقشون فى ذلك الوقت على المقاهى وفى
البيوت.. ولقد احتدت المناقشات يومها إلى حد أن نادى البعض بالعودة
إلى أيام 1919 ورفع راية الجهاد من جديد.
غير أن شيئا من هذا لم يحدث، لقد هاج الناس وماجوا، وانهالت
البرقيات -برقيات الاحتجاج على تصريح المستر ونستون تشرشل- على
جميع الصحف والدوائر السياسية.. و.. وكان هذا هو كل شىء!!
2- فى
يوم 19 فبراير عام 1921 هذا.. انبعثت الصرخة الأولى لطفلة قُدّر
لها أن تصبح واحدة من أشهر نساء مصر.. كانت فاطمة الزهراء -زوجة
المعلم محمد على النيدانى- وقد ضمت طفلة، ولم يكن ميلاد الطفلة فى
الإسماعيلية، بل كان فى قرية المنزلة، حيث ذهبت فاطمة منذ سفر
زوجها لتقيم فى بيت أخيها.
ولأن الأب كان غائبا يوم ميلاد الطفلة التى لم ترث عن أمها شيئا
سوى ذلك النمش الكثير الذى كان يغطى الوجه واليدين، فإن فاطمة
الزهراء أبت أن تطلق عليها اسما قبل عودة الأب من سفره الطويل.
جاءت هذه الطفلة إلى الدنيا كأنها صورة مصغرة للأب، ورأت عنه كل
شىء، اليدين الكبيرتين، والقدمين الرشيقتين، والقوة والشخصية
المتميزة بالاقتحام دون خوف!
والذين تتبعوا حياة تلك الطفلة منذ مولدها حتى اليوم.. يعرفون،
ويدهشون فى نفس الوقت، ذلك التشابه الغريب بين أخلاقها وأخلاق
البحارة.. هؤلاء الرجال ذوو الطباع الخشنة والقلوب الشديدة الطيبة
الذين يقتحمون الأهوال، ويواجهون الأخطار.. لا لشىء، إلا لكى يصلوا
إلى الشاطئ حتى إذا ما رست بهم السفينة أياما، انتابهم قلق لا يزول
إلا عندما يبارحون الشاطئ من جديد، يخوضون ملحمة الطبيعة، بحثا عن
شاطئ آخر!
أما النمش الذى ورثته عن أمها فلقد قُدر لها أن يزين الوجه لربع
قرن من الزمان، حيث اضطرت أن تهرب من مصر إلى الولايات المتحدة
الأمريكية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية!
3- كان
المعلم محمد على النيدانى -الذى اشتهر بين الناس باسم المعلم على
النيدانى- يحب زوجته الصغيرة حبا شديدا، لكنه أيضا كان يخاف عليها
خوفا أشد.. ذلك لأن زواجه من فاطمة الزهراء كان سابقة لم تحدث فى
عائلة النيدانى من قبل.
ولقد كان العرف السائد بين أفراد العائلة، هو أن لا يتزوج شبابها
أو رجالها أو من النيدانية فقط.. وفى بداية حياة المعلم على لم يشذ
الرجل عن القاعدة، فلقد تزوج قبل زواجه من فاطمة الزهراء ست مرات،
وكانت فاطمة الزوجة السابعة!
لم يكن الرجل مزواجا، كما قد يتبادر إلى الذهن، لكن شيئا غريبا كان
يحدث كلما تزوج من فتاة من النيدانية.. كانت الزوجة تعيش معه شهورا
أو سنوات، ثم تموت.. تاركة له طفلا أو طفلين أو أكثر.
لم تعش زوجاته الست، سوى زوجته الأولى فقط، ورغم أن الحب بينهما
كان مفقودا فإن الرجل لم يُطلّقها، كل ما فعله أنه راح يبحث عن
زوجة يأوى إليها كلما عاد من سفر بعيد.. تزوج الثانية فماتت بعد
شهور، وماتت الثالثة بعد سنوات، والرابعة بعد أسابيع، وعندما ماتت
زوجته السادسة أبى الرجال فى العائلة أن يُزوّجوه من بناتهم خوفا
عليهن من الموت، فاضطر الرجل أن يبحث لنفسه عن زوجة لا من خارج
العائلة فقط بل من خارج الإسماعيلية كلها.
لم يكن غريبا فى تلك الأيام أن يبحث الرجل عن زوجة وهو الستين من
عمره، ولم يكن غريبا أيضا أن يتزوج من فتاة تصغره بأربعين عاما،
ولم يكن من الصعب على رجل مثل المعلم على النيدانى أن يعثر على
ضالته فى قرية المنزلة التى لا تبعد كثيرا عن الإسماعيلية، وكانت
فاطمة أرملة فى العشرين من عمرها، مات زوجها الأول منذ خمس سنوات،
مات وهى فى الخامسة عشرة من عمرها، وكانت قد أنجبت منه طفلة واحدة
اسمها فاطمة النبوية.
منذ اللحظة الأولى أيقن الرجل أن فاطمة الزهراء، هذه الأرملة
الشابة الجميلة، هى هدية الله إليه فى آخر أيامه!
كانت فاطمة الزهراء من عائلة الزينى فى المنزلة، وكانت هذه العائلة
لا تطلق على أفرادها سوى أسماء من عائلة النبى، ذلك أن شجرة
العائلة تمتدّ جذورها إلى سيدى على زين العابدين، أحد أحفاد الرسول
محمد صلى الله عليه وسلم.
وسرعان ما تمّت مراسم الزواج، وإذا كانت العروس أرملة فلا فرح ولا
طبول ولا زفّة ولا عوالم، وذات يوم انطلقت فى القرية زغاريد النسوة
فقط، تُعلن عن زواج فاطمة من المعلم على النيدانى، وما كاد الرجال
يشربون الشربات، ويقرؤون الفاتحة داعين للعروسَين بالهناء، حتى كان
الليل قد أرخى سدوله على الدنيا، فصحب الرجل زوجته الصغيرة إلى
البيت الكبير فى الإسماعيلية.
وكان طبيعيا أن تصل فاطمة الزهراء إلى الإسماعيلية لتواجه بحملة
شديدة من الكراهية، شنها عليها أبناء الرجل وبناته، الذين كانوا
-فى الغالب- يكبرونها فى السن بكثير.. ولقد زاد من حفيظتهم عليها،
أنه أفرد لها البيت الكبير، ذا الطابقين، تعيش فيه وحدها، مع
ابنتها من زوجها السابق، ومع أمه، الجدة التى يهابها الجميع!
كان أكثر ما يوغر صدور الأبناء ضد فاطمة الزهراء أنها غريبة.. فهى
ليست من النيدانية.. وهى فلاحة فهى ليست -حتى- من الإسماعيلية..
وهى بذلك دخيلة، قد تنجب للرجل أولادا يشاركونهم الميراث المرتقب.
كان الرجل قد أنجب من زوجاته السابقات ثمانية، هم: نجية، أحمد،
فاطمة، مرسى، مريم، بدوية، هانم، ثم محمد الذى توفيت والدته وهو
صغير، فتركته وسط إخوته بلا أشقاء.
وكانت العلاقات داخل العائلة الكبيرة قد تحولت، مثلما تحولت الحياة
فى مصر، إلى شبح وأحزاب، وكان أولاد كل زوجة يكوّنون «عصبة»، ويشتد
التصاق الأشقاء بعضهم ببعض، ليحتموا من إخوتهم الآخرين!
وعندما تزوج المعلم على النيدانى، لأول مرة، كان أقصى ما يصبو إليه
أن يرزقه الله بولد، يقف بجواره على ظهر السفينة، ويرث منه مهنته..
ولما كانت نجية هى كبرى أولاده، فلقد صمّم الرجل على أن يجعل منها
هذا الابن المرجو.. فعاملها منذ طفولتها على أنها صبى، وقص لها
شعرها، واشترى لها ملابس الغلمان.. وارتدت الفتاة جلبابا، ووضعت
على رأسها لاسة، وظلت حتى السادسة عشرة من عمرها تركب البحر رجلا
مع الرجال، وتسافر مع أبيها كلما أقلعت السفينة، تقف إلى الدفة،
وتجذب الحبال، وتفرد الشراع، وتتسلق الصوارى!
الغريب فى الأمر.. أن المعلم على النيدانى أنجب بعد تحية أولادًا
كثيرين، لم يرث واحد منهم مهنة أبيه، ولم يصعد أحدهم على ظهر
سفينته!
ولقد اكتسبت نجية من حياة البحر خشونة الطبع، فكانت أكثر الناس
إيذاء لفاطمة الزهراء، الزوجة الصغيرة، للأب العجوز!
4- مع
غروب يوم 31 فبراير عام 1921 كانت سفينة المعلم على النيدانى
تتهادى فوق سطح البحيرات نحو شاطئ الإسماعيلية، بعد أن عبرت الجزء
الجنوبى لقناة السويس، وكان خبر ميلاد الطفلة -التى ظلت رغم مرور
يومين بلا اسم- قد وصل إلى أسماع العائلة فى الإسماعيلية، وما إن
ألقت السفينة الصغيرة بالهلب إلى قاع البحيرة واستقرت، حتى صعد
إليها الرجال والمستقبلون والمهنئون بسلامة الوصول.. ورغم القلق
واللهفة اللذين كانا قد اشتدا بالمعلم على النيدانى فإنه لم يسرع
فى مغادرة السفينة، راح يعمل مع الرجال، يجذب الحبال ويهم على
المنابر ويطوى الشراع، ويستقبل من استقبل من أولاده ورجال الشاطئ..
وعلم -وسط ضجيج الوصول والترحاب- أن فاطمة الزهراء قد أنجبت بنتا،
فلم يفه بكلمة، وكان كل ما حدث أن لاحت على وجهه ابتسامة راضية،
نظر إلى السماء وتمتم دون صوت: «الحمد لله»! وكان كل ما يبغيه الآن
الوصول إلى البيت الكبير، حيث كانت أمه -دون شك- تنتظره فى لهفة!
وكانت والدة المعلم على النيدانى امرأة طاعنة فى السن. كانت تكبر
ولدها بخمسة عشر عاما أو أقل من ذلك بعام.. لكنها رغم سنها هذا
كانت مثل رجل قوى الشكيمة، يهابها الجميع، أحفادها مثل أولادها،
ويعملون لها ألف حساب.
ولقد كانت هذه الجدة العجوز الاستثناء الوحيد، وسط بحر الكراهية
الذى أحيطت به فاطمة الزهراء.. ولقد عاشرت هذه العجوز كل زوجات
ابنها الست، وكانت تذكر بعضهن بالخير، وتذكر الأخريات بامتعاض..
لكنها لم تحب، ولم ترتح لواحدة منهن، قدر حبها وراحتها لتلك المرأة
الصغيرة الطيبة التقية، التى كانت -رغم فارق السن بينها وبين
ولدها- تعبد زوجها عبادة!
وأكثر ما كان يثير أحفادها تلك الرغبة الغريبة، فى أن تنجب فاطمة
الزهراء ولدا، ولقد نذرت الجدة العجوز أن تسمى المولود -إن كان
ولدا- باسم السيد البدوى، ولى الله ذى الضريح الهائل فى طنطا.
مع غروب هذا اليوم كانت العجوز تعلم أن سفينة ولدها قد وصلت إلى
الشاطئ.. فراحت تقطع الوقت فى انتظاره وهى تفكر فى فاطمة الزهراء.
وفى المولودة الجديدة، وما إن صعد المؤذن إلى المئذنة ليؤذن لصلاة
العشاء، حتى جاءتها الأصوات من الدور السفلى، وملأت البيت بسملة
المعلم على القوية، فقامت من جلستها لتستقبله من قمة السلم، وصعد
الرجل إليها يلملم جلبابه الواسع، فبدا لها فى ضوء المصباح الذى
كانت تحمله فى يدها، مثل شاب فى الثلاثين، وقبل أن تتفوه بكلمة كان
الرجل ينحنى ليقبل يدها، فقالت والدموع تكسو عينيها:
«الغيبة
طالت المرة دى يا على!».
وجلس المعلم على بجوار أمه على الكنبة يستعد لاستقبال الخبر الذى
زف إليه منذ ساعة.. كانت علامات السعادة تطرد من ملامحه علامات
التعب والإجهاد، وكان قد قرر أن يسافر فى الصباح إلى المنزلة..
وابتسمت الأم وهى تدرك بغريزتها ما يعتمل فى نفس ولدها، فقالت على
الفور:
«ناوى
تسمى المولود إيه؟».
كان المعلم على النيدانى يعلم رغبة أمه فى تسمية المولود باسم
السيد البدوى، فسألها: «إيش قولك انتى يا امه؟».
قالت: «بدوية..».
فقال المعلم على:
«وحياة
النبى دى تبقى تحية يا امه!»، وهكذا استقر رأى الأم والابن معا،
على أن يصبح اسم الطفلة التى ولدت منذ يومين «بدوية تحية»!
وفى ضحى اليوم التالى، أى يوم 22 فبراير عام 1921، كان المعلم على
قد وصل إلى المنزلة، فسجل ميلاد الطفلة فى دفتر المواليد تحت اسم
«بدوية تحية محمد على أبو العلا النيدانى كريم»!
ولم تمض خمسة وعشرون عاما على هذا اليوم حتى كانت بدوية تحية ملء
الأسماع فى مصر، وبهجة للأبصار والوجدان.. وكان اسمها قد تغير،
وكانت هى قد أصبحت شيئا آخر.
كانت قد أصبحت تحية كاريوكا.
الحلقة القادمة
تحية كاريوكا: لهذه الأسباب أكره اسمى
التحرير المصرية في
|