«التحرير»
تنشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح مرسى
تحية كاريوكا: رقصتُ لأول مرة فى حياتى فى الشارع
على طبلة كراوية!
أعدها للنشر: محمد توفيق
·
عملتُ خادمةً فى بيت أخى أحمد.. وفكرت فى الهرب لأول مرة بعد أن
قصُّوا لى شعرى
·
لم يعد أمام بدوية سوى ذلك الحلم الغريب.. الشارع الذى اسمه: عماد
الدين
·
منذ تلك الليلة التى قصوا فيها شعر بدوية.. وبدوية لا تفكر إلا فى
شىء واحد.. هو الهرب!
·
عندما علم أحمد بهروبى إلى بيت مرسى جاء وفى يده السوط الأسود..
وأجبرنى على العودة إلى بيته
·
لم أحزن عندما مات أبى مثلما حزنت عندما ماتت جدتى وأخى مرسى
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف القرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
كان الشارع الذى تجرى فيه بدوية شارعا غريبا، كان شارعا طويلا
وكأنه بلا نهاية، تدلت فى سمائه القناديل والأضواء والكلوبات.. على
جانبيه يسير الناس فى زحام ثم راحت توسع لنفسها طريقا وهى تجرى
وأصوات الموسيقى تلاحقها أينما ذهبت.. ظلت تجرى وتجرى والأضواء
تخطف بصرها، ثم ها هو الصوت الجميل يأتيها من بعيد. وتسرع بدوية فى
عدوها أكثر. إن سعاد محاسن تغنى هناك، صوتها ينساب إلى أذنَى
الصبية فترتجف بالنشوة، ها هى جاءت إلى القاهرة، وها هى سعاد محاسن
تغنى والناس يصفقون، ومن خلف سعاد محاسن يلمحها الطبال وهو يعزف
فوق طبلته، يبتسم وجهه، وتسرع يداه بدقات «الشارلستون»، ويغادر
مكانه ليقابل بدوية.. وتلتقى نظرات سعاد بنظرات بدوية، وترى
الصغيرة الوجه الأبيض المكتنز وهو يبتسم فى سماحة.. وقالت سعاد
محاسن: «مين؟!.. تحية؟.. إنتى جيتى؟!».
ومنذ غادرت المدرسة لم ينادها أحد باسم «تحية»، كان هذا هو اسمها
فى المدرسة فقط.. تحية.. تلتفت إلى حيث كان كراوية الطبال ينادى،
ويدق على الطبلة «ارقصى.. ارقصى!».. وترقص بدوية، ويطول شعرها
أمتارا، وسعاد محاسن تضحك وتضحك.. وبدوية ترقص وترقص، وكراوية يدق
الطبلة، الأضواء تملأ الدنيا، والأنوار، والضحكات، والمكان فسيح،
واسع، واسع.. أوسع من البيت الكبير.. ومن البحيرة التى تمتد حتى
الأفق عند شاطئ الإسماعيلية.. وتلتفت بدوية فجأة نحو الباب،
فتتوقف، وتبتسم، ثم تصرخ: «أمه»!
كانت فاطمة الزهراء تقف هناك.. كانت تبتسم، وكانت الدموع -مثلما
كانت بدوية تراها دائما فى المرات الأخيرة- تنسال من عينيها،
واندفعت بدوية نحو أمها.. اندفعت.. جرت.. بكل قواها كانت تجرى،
وكلما اقتربت خطوة ابتعدت الأم خطوات، وبدأ الذعر يستولى على
بدوية، راحت تصرخ: «أمه.. أمه..» الأضواء، الناس، سعاد، كراوية،
عماد الدين، والأم تبتعد، وبدوية تجرى، وتصرخ، ثم ينتشر الألم مثل
سيخ محمى فى أحشائها، وإذا بركلة هائلة تصيب البطن، وتفزع الصبية
من نومها.. تهب مذعورة تريد أن تبتعد، لكن الأصفاد فى قدميها
تمنعها، فتزحف إلى الحائط، وسط الظلام، بينما وجه زوجة الأخ يطل
عليها من أعلى تضيئه لمبة الجاز الصغيرة! «فزّى قومى علشان العجين،
الشمس هاتطلع!».
واستيقظت بدوية تماما من النوم وراحت أنفاسها تهدأ قليلا، وقد نسيت
الحلم برمته!
لم تكن بدوية قد رأت سعاد محاسن منذ أربع سنوات، ومنذ هذا اليوم
الذى رقصت فيه فى الفرح، لم تر أمها سوى مرة واحدة، فى قسم البوليس!
منذ تلك الليلة التى قصوا فيها شعر بدوية، وبدوية لا تفكر إلا فى
شىء واحد.. هو الهرب!
فبعد تلك الليلة، لازم مرسى الفراش تماما، وكان أحمد قد ازداد سطوة
وقوة بعد أن آلت إليه أمور العائلة.. وكان شعرها لا يزال قصيرًا،
وعلى جسدها أسمال ممزقة، عندما دخل أحمد البيت هادرا غاضبا،
وناداها، وراح يشتم، ويصرخ، ويحدث زوجته.. وكانت بدوية ترتجف فزعا،
ولكنها لم تكن خائفة، كانت ركبتاها ترتجفان رغما عنها وكانت تعلم
أنها سوف تضرب، ولم يعد الضرب يعنيها أو يؤلمها، كان فقط يبكيها،
كانت تريد أن تهرب، إلى أى مكان، فقط تهرب.. وعلمت من صراخ أحمد أن
أمها فى الإسماعيلية، وأنها عادت ترفع دعوى، وأن بدوية سوف تذهب
إلى القسم ليسألها الضابط من جديد!
كان على بدوية أن لا تنسى هذه المرة كلمة واحدة.. أن لسعات السوط
تمزق جسدها، أن الهول والجوع فى انتظارها، وذهبت إلى القسم، وقالت
أمام الضابط هذه المرة إنها تذهب إلى المدرسة، وعندما بكت فاطمة
الزهراء، وسألها الضابط، لماذا قصوا لها شعرها؟ قالت:
«علشان
كان فيه قمل!».
كان هذا منذ سنوات، بعد ليلة الفرح بأشهر قليلة.. ومنذ سنوات وهى
تعمل فى البيت خادمة!
نهضت الصبية من مكانها وراحت تحجل والأصفاد فى قدميها، كانت تعرف
الطريق إلى جوال الدقيق، والماء، وكانت تعرف تماما ما يجب عمله فى
مثل هذا اليوم، كان عليها أن تعجن ما يكفى العائلة من الخبز لمدة
أسبوع، وما إن قفزت بأصفادها إلى خارج الغرفة، حتى جاءت زوجة الأخ
لتفك الأصفاد، وتدفعها نحو غرفة الكرار!
شخص واحد شذ عن الجميع.. هو عثمان.
كان عثمان أحد أولاد أحمد.. وكان يكبر بدوية بثلاث سنوات، كان
هادئا، رزينا، وكان يعطف عليها فيحمل إليها الحلوى فى السر، ويهمس
فى لهفة وهو يعطيها نصيبه: «ابلعى.. ابلعى!».. وتبتلع بدوية كل
الحلوى دون أن تتذوقها، خوفا من أن يراها أحد فتنهال عليها الضربات
والركلات!
منذ تلك الليلة -ليلة الفرح- وهى تفكر فى الهرب، وتنفذه!
كان الهرب هو طريقها الوحيد، وبعد أن جزوا لها شعرها من الجذور،
وبعد أن انتهى الفرح وسافرت سعاد محاسن إلى القاهرة، قررت أن تهرب
إلى بيت مرسى.
وبالفعل، هربت فى الصباح، أطلقت ساقيها للريح وذهبت إلى بيت مرسى،
أخيها المريض، وحكت، وقصت، وبكت.. وعندما جاء الظهر، كان أحمد يدخل
البيت غادرا صاخبا، لاعنا، فى يده سوط أسود.. كالإعصار كان أحمد،
لا يستطيع أحد أن يقف فى طريقه وبجبروت غادرت بيت مرسى عائدة إلى
بيت أحمد من جديد.
الهرب..
لا شىء غيره، كانت بدوية تفكر فيه، ليل نهار، وما إن تحين الفرصة،
حتى تهرب بالفعل.. وفى كل مرة، كانت تهرب إلى بيت أخ أو أخت.. وفى
كل مرة، كان أحمد يأتى هادرًا كالإعصار، ثم يعود وقد طواها تحت
ذراعه الرهيبة!
ذات ليلة استيقظت بدوية على صوت عثمان -ابن أخيها- وهو يدخل
البيت.. أطلت من فرجة الباب فوجدته يبكى.. كان ثمة شىء غريب يحدث
فى البيت طوال ذلك اليوم، لكنها لم تعرفه، جاء أحمد وخرج، ولحقت به
زوجته المالطية الأصل، واختفى أولاد أخيها واحدًا بعد الآخر.. وكان
فى عيون الجميع نظرات غريبة، وكأنهم يتجنبون النظر إليها!
نهضت بدوية -ولم تكن الأصفاد قد وضعت بعد فى قدميها- إلى عثمان،
واقتربت منه:
«مالك
يا عثمان!».
وشهق عثمان، وازدادت دموعه انهمارا، ثم تهته قائلا:
«عمى
مرسى!».
وارتجفت بدوية، ارتجفت لكنها لم تصرخ، ولم تدمع.. فقط، اندب الحزن
فى أحشائها كنصل حاد.
مات مرسى!
ولكم تمنت وانتظرت يوم شفائه ليعيدها إلى المدرسة!..
وعندما مات أبوها فزعت، لكنها لم تحزن.. لم تشعر بذلك الإحساس
الأسود المقبض الذى يظلل النفس باليأس.. كانت المرة الأولى التى
أحسستْ فيها بالحزن يوم ماتت جدتها، وكانت هذه المرة -يوم مات
مرسى- هى المرة الثانية، فماذا تجدى الدموع.. ترنحت واستندت إلى
الحائط، ودلفت إلى الغرفة، وفى ركن منها جذبت الفَرشة، وجلست
عليها، ودفنت رأسها فى الوسادة.. وانبثقت دموعها مدرارًا!
فى تلك الليلة أيضا.. قررت أن تهرب.
حسمت أمرها أن لا تهرب إلى بيت أحد من إخوتها لأبيها، ففى هذه
البيوت جميعا، تسرى كلمة أحمد كرعد مدمر.. وليس أمامها إلى أن تهرب
لبيت أختها، لأمها «فاطمة النبوية»!
ولسوف تفعلها!
وكان هذا اليوم، هو يوم الخبيز أيضا، حملت بدوية وعاء العجين فوق
رأسها وصعدت به إلى السطح.. كان عليها أن تغطيه، وأن تجهز الفرن
والحطب، وأن تتركه حتى يتخمر.. وتهبط إلى الشارع لتشترى الفول،
والفطور، تخدم هذا، وتلبى نداء ذاك، وتنظف الشقة، حتى إذا انتصف
النهار، صعدت إلى السطح لتبدأ الخبيز، فإذا ما عاد الرجل من عمله
والأولاد من مدارسهم.. أكلوا خبزا لا يزال ساخنا بنار فرنه!
وعندما مات المعلم على النيدانى لم يكن من المعقول أن تعيش فاطمة
الزهراء بابنتيها وسط بحر الكراهية هذا، الذى أحاط بها، فعجلت
بزواج ابنتها من زوجها الأول -فاطمة النبوية- وزوّجتها وهى فى
الثالثة عشرة من عمرها!
وإذا كانت فاطمة النبوية هى أختها لأمها فإن أحدا لن يذهب إلى
هناك، إنهم يكرهونها أيضا،.. ولسوف تهرب إلى بيت فاطمة النبوية،
وتختبئ هناك، ولن تعود!
وهربت بدوية..
هربت وهى لا تعرف أن هذه هى الطامة، وأنها ارتكبت كبيرة الكبائر..
لم تهرب إلى بيت أحد من النيدانية، فهى بهذا تخرج عن طوع العائلة
كلها، وتهرب إلى بيت رجل غريب!
هربت وهى لا تدرى أنها ستعود فى نفس اليوم لتوضع فى قدميها
الأصفاد، لتظل مقيدة لعام كامل.
لم تهبط إلى الشقة، بل هبطت إلى الشارع، وأطلقت ساقيها بكل ما فيها
من ضعف وهزال ووصلت إلى بيت أختها، وأغلقت الباب وراءها، وانفجرت
باكية، وقد ظنت أنها قد أصبحت فى مأمن..
قصت بدوية كل شىء على أختها، وراحت كل منهما تقول ما بدا لها، ثم
توقفت بدوية عندما قالت فاطمة النبوية:
«وهو
حد يقدر على أحمد النيدانى!».
لم تمض ساعات قليلة حتى عرف أحمد أن بدوية هربت، وأنها ذهبت إلى
بيت «الجداوى»، فذهب والشرر يتطاير من عينيه.. كان شعرها قد طال
قليلا، فجذبها منه، جرها عبر الدرج إلى الشارع، وجرها من الشارع
إلى البيت، وقذف بها فى الغرفة الصغيرة، وسمعت لأول مرة فى حياتها
صليل القيود، قيود حديدية كان أحمد يمسكها فى يده، ويهبط بها إلى
الأرض، ليضعها فى قدمى أخته، ثم ينهال على جسدها ضربا حتى يتعب،
فيستدعى حلاقا، يجز لها شعرها من جديد!
وعادت بدوية تحلم من جديد، وكلما أغمضت عينيها طالعها وجه سعاد
محاسن، وأضواء شارع اسمه عماد الدين، وطبلة يعزف عليها شاب بمهارة،
شاب باسم اسمه: كراوية.. وكانت تفكر أيضا فى الهرب.
وعندما يُضرب الإنسان كل يوم، يتعود جسده على الألم، فلا يؤثر
الضرب فيه.. ولكن نفس الإنسان أبدًا، لا تتعود على الهوان.. فإذا
لم يؤلم الضرب جسده، آلم نفسه وجرح كرامته، حتى ولو كان مكانه فوق
فَرشة خادم فى غرفة مهملة!
لذلك.. كانت بدوية تبكى دائما كلما ضُربت..
ولقد كانت تُضرب لسبب وبلا سبب، ولم تعد ضربات السوط تؤثر كثيرًا
فى جلدها.. عام كامل وهى فى الأصفاد لا تعطى لقدميها حرية الحركة
إلا إذا كانوا يريدون منها أن تفعل شيئا.. شهر وراء شهر وعثمان
يهرِّب لها الحلوى التى يجلبها أبوه من بورسعيد، ويطلب منها -فزعًا
هو الآخر- أن تبتلعها بسرعة، فتبتلع الحلوى دون أن تتذوقها!
مات مرسى وانزوت زوجته بأولاده بعيدًا عن العائلة!
وأُغلق بيت فاطمة النبوية فى وجهها إلى الأبد.. بعد أن علمت أن
ذهابها إليه هو جريمة الجرائم، وكبيرة الكبائر!
ولم تعد أمها تأتى لزيارتها.. فحتى لو أتت.. أنى لبدوية أن تذهب
إليها بالأصفاد فى قدميها؟!
فى البداية: كانت الأصفاد تسلخ جلد الساقين -ولقد ظلت علاماتها
باقية حتى اليوم!- ثم لم تعد تؤثر فى الجلد، بعد أن تركت فيه
علامات واضحة!
ولم يعد أمام بدوية سوى ذلك الحلم الغريب.. الشارع الذى اسمه: عماد
الدين، والوجه الأبيض المكتنز، وصوت سعاد محاسن الجميل، ونقرات
الطبلة وأصابع كراوية تعزف بخفة.. الأضواء والصيحات والناس، والأم
تنادى، وبدوية تعدو إليها.. تعدو وتعدو.. والأم تبتعد، وبدوية
تصرخ، ويزداد ابتعاد الأم، فتفزع بدوية، وتستيقظ من النوم خافقة
القلب والصدر، وقد ضاع منها كل شىء، سعاد، وكراوية، والأم معًا!!
الهرب!
كان الهرب هو الشىء الوحيد الذى يعنيها، وتفكر فيه..
ولسوف تهرب إلى أمها.. ولو استطاعت أن تصل إلى المنزلة، فلسوف
يحميها خالها.. فقط، عندما تحين الفرصة.
ولكن كيف؟!.. كيف والأصفاد فى قدميها تكبل حركتها؟.. كيف، وعيون
الجميع تراقبها فى حذر، وقد أيقنوا أنها -فى أول فرصة- سوف تهرب؟!
>>>
حتى كانت ليلة!
كان الجميع قد ناموا، لكنها كانت مستيقظة.. تبكى وحدها!
كان أحمد قد ضربها منذ قليل، ظل يضربها حتى ناله التعب بتوقف.. وهى
لا تذكر لماذا ضربها أحمد، فلقد كان يضربها دائما، ولقد كان كل ما
تفعله، خطأ تستحق عليه العقاب.
كانت القيود فى قدميها تمنعها من الهرب، عندما انفتح الباب فى
هدوء، وكان عثمان يقف به!
«مش
كفاية عياط يا بدوية؟!».
ولكن بكاءها ازداد، وازداد انهمار الدمع من عينيها.
ركع عثمان بجوارها وهو يهمس:
«كفاية
عياط علشان أبويا ما يسمعشى حاجة!».
كان الصبى يحمل فى يده شيئا.. وكانت يداه تقتربان من ساقيها فى
الظلام، وساد الصمت وقد حبست الصبية أنفاسها خشية ورهبة، واصطدم
المفتاح الصغير بقفل القيد فى قدميها، فدوّى فى سكون البيت.. وكان
عثمان يفك قيود بدوية، فسألته:
«عاوزنى
أعمل لك شاى؟!».
فقال هامسًا:
«لا..
أنا عاوزك تهربى!».
كالذى تعوّد السجن، تصدمه الحرية، وتعوق حركته!
وقفت بدوية فى منتصف الغرفة تترنح، لم تكن تفهم شيئا، وكانت أنفاس
عثمان متهدجة، وصوته الهامس يحذرها:
«إوعى
تروحى بيت حد من إخواتك، إوعى تروحى أى حتة يقدروا يروح لك فيها».
وأسقط فى يد بدوية:
«أمال
أروح فين؟!».
احتد صوت عثمان وهو يقول:
«سافرى
مصر، روحى لأمك، أى حتة.. بس لازم تهربى!».
وسادت فترة صمت تأكد فيها عثمان أن أحدًا فى البيت لا يسمع. وكان
الليل قد انقضى ولاحت تباشير الفجر، عندما أمسك ابن أخيها بيدها،
وسحبها صاعدًا بها إلى السطح وهو يهمس:
«تعالى..
لازم تهربى.. دلوقت.. اهربى!».
ولم تكن بدوية، تحية، تحلم أن تلك الليلة، شهدت مولد نجم عظيم،
وكان هذا النجم: هى نفسها!
لم تكن تعلم، لكنها أسلمت نفسها ليد عثمان، وتبعته إلى سطح البيت!
التحرير المصرية في
|