ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح
مرسى.. الحلقة السادسة
اللقاء الأول بين تحية وحسين رياض وعزيز البقال
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
كانت تلك الليلة هى أول ليلة ترى فيها تحية كاريوكا بدلة رقص.
ما إن وصلت إلى الصالة معهما حتى عرفت أن اسم المرأة هو «جانيت
حبيب».. وأنها راقصة!
وعرفت أن اسم الرجل هو «محمد الدبس».. وأنه عازف بيانو.
وعرفت أنهما يعملان فى نفس المحل، وأن المرأة مسيحية، وأن زوجها
مسلم.
وعندما وصل الثلاثة إلى الصالة، لكزتها جانيت حبيب وهى تومئ برأسها
نحو الباب هامسة:
«هادا
صاحب المحل.. يوسف عز الدين».
والتفتت بدوية نحو الباب، لترى دكة عريضة هائلة، وفوق الدكة رجل
سمين غليظ مستدير الوجه، وكان ينظر إلى الجميع بعينين شديدتى
اليقظة، لكنها لم تخف منه!
كان المحل شديد الزحام.. وكانت هناك نساء كثيرات، جميلات الوجوه
والأجسام، عاريات الصدور والظهور، يتحدثن بحرية ويحادثن الرجال
حديث الند للند، كان ما رأته بدوية فى تلك الليلة شيئا يشبه
الخيال، فراحت ترقب ما حولها، وقد امتصتها الأضواء والأحاديث
والناس، وعندما دخلت جانيت حبيب إلى غرفتها فى الكواليس، تبعتها
بدوية فى صمت، وراحت ترقبها بعينين مفتوحتين فى انبهار ودهشة، كانت
المرأة تغير ملابسها وتضع الماكياج.
كان وجه جانيت حبيب جميلا، وكان لونها أبيض فاقعا، ذلك البياض الذى
يصدم العين فترتد عنه، ورأت جانيت تضع الماكياج فإذا الوجه الجميل
يصبح فى عينى الصبية كوجه البلياتشو.
وتعلقت عينا بدوية ببدلة الرقص، كانت هذه هى أول بدلة رقص تراها فى
حياتها، الترتر اللامع والقماش الشفاف والألوان الزاهية والمساحات
العارية.. وعندما استعدت جانيت لأداء رقصتها غادرت الغرفة فغادرتها
بدوية خلفها.. جلست فى الكواليس وراحت ترقب ما يجرى على المسرح
فأصابتها السعادة، وضحكت لأول مرة منذ أيام طويلة.. أشد ما أسعدها
وأضحكها هو «نعيمة ولعة».. لم تكن تعرفها أو سمعت عنها، وهى حتى
الآن لا تعرف من هى نعيمة ولعة.. لا تعرف سوى أنها لم تكن جميلة
الوجه، لكنها كانت خفيفة الظل، كانت نعيمة ولعة، وهى تلقى
مونولوجاتها، تلتهب أكف الناس بالتصفيق وحناجرهم بالضحكات!
رقصت جانيت حبيب، وألقت نعيمة ولعة مونولوجاتها، فضحت بدوية وسعدت
وطربت.. ثم صعد إلى المسرح حسين المليجى وزوجته نعمات المليجى،
أشهر من ألقى المونولوج فى ذلك العصر!
كان كل من يمر بجانيت، ينظر إلى بدوية ويسأل:
«مين
دى يا جانيت؟!».
وعندما سمعت بدوية هذا السؤال لأول مرة دق قلبها.. فماذا يمكن أن
تقول المرأة؟.. لكنها استراحت عندما سمعتها تقول:
«هادى
تحية.. بنت أخت الدبس!».
وكلما سأل أحد بدوية عن اسمها قالت: «اسمى تحية!».. كانت وكأنها
تتخفى، أو كأنها تختار اسمها هذا لتنسى الماضى، وتلغيه.. وكلما
حاول أحد أن يتجاذب مع الصغيرة أطراف الحديث مجاملة للدبس، كانت هى
تغلق فمها، فلم تكن تعرف ماذا تقول.
قبل أن ينتصف الليل، كان التعب قد أخذ منها كل مأخذ، وكان رأس تحية
يسقط فوق صدرها، كانت تنام.. ونادت جانيت رجلا يعمل فى المحل،
وأعطته مفتاح البيت، وأوصته أن يوصل تحية، وطلبت منها أن تنام حتى
يعودا، فتتناول معهما طعام العشاء.
لكن تحية لم تنم.
هذا من الممكن أن يحدث.. هذا كله لوجه الله، ماذا كتب عليها القدر؟!
ما إن وصلت إلى البيت وأغلقت الباب عليها حتى طار النوم من عينيها،
كان الكلب قد تعود على وجودها فلم يعد يزوم أو ينبح، نظرت الصبية
يمينا ويسارا، ولم يكن فى البيت خادم، وكان محمد الدبس وجانيت
يخدمان نفسيهما بنفسيهما.. وكانا يشتريان الطعام من السوق، وكان
البيت يحتاج إلى نظافة.. وما هى إلا دقائق حتى شمرت عن ساعديها..
وبدأت العمل!
بعد ساعة، كان البيت قد أصبح شديد النظافة.
ازدادت مع النشاط يقظتها، فخرجت إلى الشرفة، وفتحت عينيها على
الشارع الصاخب المضىء.. ولقد مضت سنوات طويلة، وقد انطبعت هذه
الصورة فى ذهنها لا تدانيها صورة أخرى، حتى سافرت إلى فرنسا..
وزارت الشانزليزيه!!
مضت أربعة أيام كاملة..
أربعة أيام كانت تحية تفضل فيها أن تجلس فى «البلكونة» لتشاهد ما
يجرى فى الشارع من أحداث وترقب ما فيه من أضواء، لا تغادر البيت
إلا معهما عندما يستيقظان فى الثانية بعد الظهر، ويصحبانها إلى ذلك
المقهى الذى كانت ترى فيه كل الأسماء اللامعة، والوجوه المشهورة.
عرفت بعد ذلك أن اسم هذا «المقهى» هو «قهوة الفن»، كانت تواجه
سينما استوديو مصر -ريتس حاليا- ويلتقى فيها كل الفنانين ليلعبوا
الطاولة ويشربوا البيرة.. فى هذا المقهى شاهدت تحية -لأول مرة-
شابين لفتا نظرها، كان اسم الأول حسين رياض، وكان اسم الثانى أحمد
علام.
أما الشخصية الثالثة التى علقت بذهن الصبية الصغيرة فكانت شخصية
عزوز البقال.
فى اليوم الأول وعندما شارفت الساعة على السادسة مساء، أعطت جانيت
لتحية قرشين، واشترت تحية سندويتشين، ولم تستطع أن تأكل إلا
واحدا.. كانت قد اطمأنت إلى تلك السيدة البيضاء الطيبة، وذلك الرجل
الأسمر ذى الأصابع الرقيقة.. والذى ارتضى أن تكون -أمام الناس-
ابنة أخته وهو لا يعلم عنها شيئا..
وهكذا مرت الأيام الأربعة... وجاء صباح يوم أحد، فقالا لها وهما
يستيقظان مبكرين على غير عادتهما:
«يلا
يا تحية، علشان نوديكى لسعاد محاسن!».
كان يوما لا ينسى...
ذهبت جانيت فى الصباح إلى الكنيسة، وصحبت تحية معها.. وقفت تحية فى
الكنيسة مثلما كانت تفعل فى الأيام الخوالى عندما كانت فى مدرسة
السبع بنات، وانتظرت جانيت حتى صلت، ثم غادرت الكنيسة وركبت مع
الصبية حنطورا إلى باب الحديد.. دق قلب تحية وهى ترى الميدان مرة
أخرى، تجمعت سحب الذكريات السوداء، فانقبض صدرها، غير أن ابتسامة
محمد الدبس، الذى كان ينتظرهما على المحطة، بددت القلق، ركبا
القطار فركبت معهما، وتحرك القطار إلى الإسكندرية، يحمل تلك الصبية
التى كانت تعلم عن يقين -الآن وبعد أن هدأت نفسها وتبينت طريقها-
أنها تسير نحو المجهول..
سؤال واحد ظل يتردد فى ذهنها بلا انقطاع:
هل ستعرفها سعاد محاسن بعد كل هذه السنين؟!
وإذا عرفتها، ماذا يمكن أن تفعل معها؟!
■
■
■
الذين يعرفون الإسكندرية منذ تلك الأيام يعلمون جيدا، أن تلك
المدينة الساحرة، لم تتغير كثيرا.
كانت سعاد محاسن تعمل فى إحدى الصالات المطلة على شاطئ البحر فى حى
كامب شيزار، حيث تقوم اليوم محطة بنزين. نزلت بدوية مع جانيت حبيب
ومحمد الدبس من القطار، وركبوا حنطورا سار بهم إلى كامب شيزار،
والأفكار تتلاطم فى صدر تحية وفى رأسها.
سعاد محاسن.
كانت الدقائق تجرى بالصبية وقلبها ينتفض بالقلق، ماذا يحدث لو أن
سعاد محاسن لم تعرفها، أو لم تذكرها، أو ماذا يحدث لو أنها ذكرتها؟!
عندما كان الثلاثة يصعدون السلم إلى حيث كانت الصالة بمسرحها، وحيث
كانت البروفات تتم على عرض الليلة، كادت تحية تتوقف، لم تبق إلا
خطوات وتصبح أمام سعاد محاسن وجها لوجه.. فماذا بعد؟!
«سعاد!».
صاحت جانيت باسم سعاد فى نفس اللحظة الذى انتفض فيه قلب الصغيرة
وهى ترى سعاد التى سعت لها بكل ما فيها من أمل.. وانتفض قلبها أكثر
عندما حملقت سعاد فى وجه الصبية وصاحت:
«مين؟..
تحية.. إيه اللى جابك إسكندرية؟!».
لحظتها.. انفجرت بدوية فى البكاء عسى أن تزيح الدموع ذلك الهم الذى
جثم على صدرها طوال أسبوع كامل.. جلست جانيت والدبس يحكيان لسعاد
محاسن كل شىء، منذ جاءت بدوية تسأل عنها، حتى أتيا بها إلى سعاد..
ونظرت إليها سعاد طويلا وقالت:
«دى
كانت فى صغرها زى الوردة!».
ولم يمض وقت طويل حتى رحلت جانيت مع زوجها، وظلت تحية مع سعاد
وحدهما.
«إيه
اللى حصل يا تحية؟!».
وجلست تحية تحكى لسعاد محاسن، التى تركت البروفة وانتحت بها جانبا،
وبجوار نافذة تطل على شاطئ البحر، جلست الصبية تحكى كل ما حدث لها
منذ مات أبوها.. كانت تحكى وعيناها تتبعان العمال وهم يشقون طريقا
محازيا للبحر، قالت لها سعاد عنه: «ده الكورنيش!!».
واستمعت المرأة لحكاية تحية فى صمت، وانهمرت دموعها تسابق دموع
تحية.. لكنها وبعد أن انتهت تحية من قصتها.. مسحت دموعها قائلة:
«بس
انتى لازم ترجعى لأهلك يا تحية.. انتى قاصر!!».
ومادت الأرض تحت قدمى الصغيرة!
التحرير المصرية في
|