الحياة غير عادلة.. لكنها جميلة!
كتبت: امل فوزى
متعة مهرجان كليرمون فيران السينمائى الدولى للأفلام القصيرة
والتجريبية والذى أتم دورته السادسة والثلاثين هذا العام.. ذلك
المهرجان الذى ينعقد سنويا فى تلك المدينة الصناعية الصغيرة المسمى
باسمها المهرجان، والتى تقع فى جنوب شرق فرنسا، والذى يتردد سنويا
عليه ما لايقل عن مائة ألف مشارك ومتفرج على أفلام من عوالم أخرى ،
إن متعة حضور هذا المهرجان لا تتوقف على أهميته فحسب، حيث إنه يعد
فى القيمة والأهمية السينمائية ثانى أكبر وأهم مهرجان فى فرنسا بعد
مهرجان كان السينمائى..
إن هذا المهرجان بما يعرضه من أفلام قصيرة وتسجيلية وتجريبية تعكس
عوالم وحيوات أخرى، مهرجان يقرب البعد الإنسانى، مهرجان يمثل
توثيقا إبداعياً لفكر ورؤى صناع الأفلام، وكذلك يمثل توثيق اجتماعى
وإنسانى وثقافى من مناطق كثيرة فى العالم ربما لم نسمع بها ولا
نعرف شيئا عن سكانها.
أفلام البشر والحب والحرب والصراع الإنسانى والوهم والمعاناة
والحلم والقسوة والاختلاف.. لكن يبقى شىء واحد ثابت هو «البنى
آدمين».. علامة الاستفهام يراها كل مبدع بطريقته.. وفى مهرجان
كليرمون فيران، سقف الإبداع حر، وسقف التعبير عن الفكرة والرؤية
غير مصادر ولا مراقب ذاتيا، والأهم والأروع والذى يستحق الرصد
والتقدير أن سقف التلقى والمشاهدة والتفاعل.. هو إبداع فى حد ذاته
لا يقل أهمية عن إبداع الصنع!!
على الرغم من أن المهرجان يحتوى على أقسام كثيرة حوالى 28 قسما
وبرنامجا، حيث إن المسابقة الدولية وحدها تضم حوالى 75 فيلما تم
اختيارها من بين عدد كبير من الأفلام التى تقدمت للترشح، وهناك
مسابقة للأفلام الفرنسية فقط وتضم حوالى 70 فيلما، والأفلام
التجريبية تضم ما لايقل عن 50 فيلما، إلا أن هناك أفلاماً كثيرة
تستوجب التوقف عندها- على الأقل مما تمكنت من مشاهدتها- فما أروع
من أن تكون مهمتك اليومية هى مشاهدة الأفلام التى تنتظر أما روعتها
أو دهشتها أو جنونها وشطحاتها، أو تميزها وإبداع صناعها.. انتظار
المتعة شىء رائع فى الحياة.
قد تشاهد فيلما، وبشكل لا إرادى إذا جردته من اسمه الأجنبى أو
جنسية ممثليه، تجد واقعه وإنسانية فكرته تنطبق تماما عليك، هكذا
شعرت عندما شاهدت الفيلم الكندى:
Inflammable
أو قابل للاشتعال، وبشكل بسيط يتحدث عن حالة اكتئاب أصيب بها
ريتشارد الذى ترك عمله، ويرى كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، فى
الشارع، فى بيته ، مع جيرانه ، ما هى إلا عنف وغضب، كيف تتحول حياة
إنسان بسيط إلى هذا الصراع، وكيف يحول الغضب والعنف «كفكرة» فى عقل
وقلب إنسان حياته إلى سلسلة من اللاحتمال؟ هذا الفيلم لا يخص
بالطبع واقع ما فى كندا، لكنه يعكس ما يشعر به أى «بنى آدم»، يرى
الحياة ويتعامل معها سواء مجبرا أو مختارا- إلى نفس حالة ريتشارد
«إنسان قابل للاشتعال»!!
بنفس معاناة وواقع الظلم على الإنسان- أيا كان موطنه- عكس الفيلم
الأمريكى (التضامن) أوSolidarity للمخرج
داستن براون، حياة اثنين من المهاجرين غير الشرعيين فى لوس أنجلوس،
رجل وامرأة لا علاقة لهما ببعض، ولكن تتقاطع تفاصيل حياتهما، وتصب
فى نفس الهم الإنسانى الذى يعكس قضية الهجرة غير الشرعية، والتى
يمكن استغلالها من قبل المواطنين الأمريكيين إلى استعباد هؤلاء
البشر الذين اضطرتهم الظروف للبقاء بشكل غير قانونى، لدرجة أن يصل
هذا الاستعباد الذى لا يسمح لهم بممارسة الأم لمشاعر الأمومة، فهى
لن تتمكن من السفر لحضور حفل زواج ابنتها يمكنها العمل من قدرتها
على شراء فستان الزفاف للابنة، يأتى الفستان، وتغيب الأم، ويرفض
صاحب المصنع الذى تعمل به أن يعطيها أيام إجازة، بل يتحرش بها، ولا
تتمكن من شكواه للسلطات حتى لا تخسر عملها، فى الوقت الذى فقد فيه
الشاب كلبه الذى يعتبره الونس والصديق، وعندما تتأثر حالته النفسية
ثانى أيام وفاة الكلب، يهدده صاحب «المجزر» الذى يعمل به أنه سيتم
الاستغناء عنه إن لم ينتبه لعمله، فليس من حقه- حتى الحزن ولو
لساعات!!
أما الفيلم التسجيلى الأسبانى البوليفى «مينيريتا
Minerita
وعلى مدار 27 دقيقة، فكان الشعور الوحيد المسيطر على هو أننا نعيش
أحيانا داخل بالونات وفقاعات ننعزل بها عن العوالم الأخرى، فهذا
الفيلم يوثق ما يحدث فى المحاجر فى أعلى الجبال فى بوليفيا، والذى
تتعرض له فتيات صغيرات، ونساء حيث إن فرصة بقائهن على قيد الحياة
هى فرصة ضئيلة يوميا أثناء رحلتهن فى الحفر تنقيبا عن الفضة
والزنك، وما هى حيواتهن القاسية التى عرضها المخرج (رول دو لا
فونت) بمنتهى الكشف والوضوح والوجع الإنسانى.
يبدو أن الحقيقة التى لا يمكن أن نغفلها هى أن المرأة فى المجتمعات
الإنسانية لها النصيب الأكبر من الهم والوجع والمعاناة، بداية من (زياو
زو) بطلة فيلم ربيع العمر وهو من إنتاج تايوان وسنغافورة، وهو
يستعرض قصة سيدة بلغت من العمر 84 سنة، وحيدة لا عائل لها، وترفض
الإحسان، والتسول، تقرر أن تبحث عن عمل، ولكن ضآلة جسدها وضعفها
ورعشة يديها، كانت كافية لرفض أى شخص وعدم قبوله لتوظيفها، وكيف
انتهى بها الحال أن تعمل فى فندق.. وكيف كانت رحلتها وأداؤها، ولكن
الفيلم له طابع كوميدى إلا أن القيمة التى يرسيها واللفتة
الإنسانية كانت شديدة الرقة والتأثير.
ومرورا «بأولجا»AOLGA
تلك المرأة التى تعيش فى صقيع الطقس والحياة، حيث إنها فى منتصف
العمر، تعيش بمفردها، تعمل فى إزاحة الجليد عن السيارات وتحدث
ابنتها فى عيد الميلاد للمجىء إلى البلدة لأخذ سيارتها التى أرهقت
الأم فى إزاحة الجليد عنها يوميا وتزيل تراكمه، يزداد الجليد،
ويزداد مجهود الأم، وتزداد وحدتها، وشعورها بأن الابنة لا تفكر حتى
فى قضاء الكريسماس مع والدتها،.. تقرر الأم فى لحظة أن تختار مصير
آخر فى تلك الليلة، عدم الانتظار، وربما أن تأخذ السيارة ومشاعرها
بعيدا عن منطقة الجليد القاتلة!!..هذا الفيلم من إنتاج إستونيا،
والذى دارت أحداثه فى الصقيع ولكن كانت فكرته وإيقاعه شديدى الدفء.
وعبورا إلى «بيرو».. تجد نفس المعاناة التى قد تجدها فى مصر أو
دولا كثيرة أخرى، استخدام الأطفال وتسريحهم من أجل العمل وكسب
الرزق، وهذا ما تفعله الفتاتان الصغيرتان، اللتان ترتديان الزى
الشعبى وتذهبان إلى المناطق السياحية، لالتقاط السائحين صورا
معهما، ويحصلان على بعض المال، وكيف يحاولان الهرب من الشرطة، فى
نفس الوقت الذى تساعد أمهما جارتها لإعداد ابنتها الأصغر عمرا
لبداية رحلة العمل.
وصولا إلى الفيلم الاسترالى «منظور» أو
PERCEPTION للمخرجة
الشابة ميراندا ناشون، التى تطرح فكرة جريئة ربما تكون غريبة عن
واقعنا، لكنها تمس شعوراً خاصاً بامرأة شابة تعمل فى مجال الرقص
العارى، وكيف أنها تعرضت للإصابة بسرطان الثدى مما يستوجب
استئصاله، هى محاولة للغوص فى الشعور الخاص الذى تمر به المرأة فى
ذلك الظرف.
وكان الفيلم التونسى «سلمى» مهما لرصده حقيقة مجتمعاتنا العربية،
مات الزوج الذى كان يعمل سائقا، وبقيت الزوجة وابنتها فى بيت أهل
الزوج، لم تمر أيام وكانت الأرملة تجاهد من أجل أوراق سيارة الأجرة
وإصلاحها استعدادا للعمل عليها، فى الوقت الذى يجلس فيه شقيق الزوج
المتوفى عاطلا لا يبحث عن عمل، وفى الوقت الذى تتضرر فيه الحماة
بالخروج اليومى لسلمى خوفا على سمعتها فى الوقت الذى تحاول فيه
الفتاة الصغيرة الاستقلال والاعتماد على نفسها والحصول على نسخة من
مفتاح المنزل حتى لا تبقى فى بيت الجدة فى وقت غياب الأم، بعد رحلة
عناء.. وإتمام أوراق التاكسى وحصول سلمى على رخصة القيادة، تهددها
الحماة بأنها ستكون عارا على العائلة، تطلب منها مفاتيح السيارة
ليعمل عليها الأخ العاطل مقابل أن يعطيهما راتباً شهرياً.
كيف واجهت سلمى محاولة القمع وتحدى الأعراف الظالمة فى قرية صغيرة
فى تونس؟
فى الوقت الذى حاولت فيه «دينولا»، من جورجيا الإصرار على حبها
والزواج من الرجل الذى اختارته وتحدت قانون الجبل الذى تعيش فيه فى
جورجيا، إلا أنها وبعد وفاة زوجها، أجبرت على ترك أولادها والزواج
بأول رجل يطلبها للزواج!!
إن مشاهدة الأفلام فى ذلك المهرجان تخلق حالة من البراح لتقبل
الآخر ومعرفته، ومواجهة ذاته ومشاعره التى تكتشف بسبب روعة الفن
وتميزه.
متعة أخرى أراها فى هذا المهرجان وأحب أن أعايشها بنفسى وهى متعة
حضور الأفلام الخاصة ببرنامج وقسم أفلام الأطفال، وسط فعاليات
مهرجان كليرمون فيران، الذى يحضره سينمائيون ومبدعون ونقاد وممثلو
مهرجانات، تفاجأ برحلة مدرسية لأطفال رائعين فى صفوف ممتدة يملأون
هم وذووهم ومدرسوهم صفوف قاعة
COCTEAU
التى تزيد سعتها على ألفى كرسى، وتجد الأطفال فى حالة شغف وانتظار
للفيلم، والأروع هو نمط مشاهدة الأطفال، واحترامهم وفهمهم الناضج
لمعنى السينما، متى يضحكون ينصتون ويستمتعون.
نمط أتمنى أن نصل به إلى أطفالنا، هذا الدمج الرائع بين الكبار
والصغار فى مهرجان مخصص أساسا للكبار يؤكد على فكرة أن السينما
رسالة وليست مجرد وقت نمضيه فى التسلية.
من العلامات التى تستحق التوقف عندها عند مشاهدة أى فيلم فرنسى هو
وجود لوجو وشعارcnc أى
المركز الوطنى للسينما، حيث إن هناك مساهمة ودعماً حقيقيا للأفلام
الفرنسية، كيف أن المحطات الكبرى مثلCANAL+
والتى أصبحت بمرور السنوات، ومع نجاحه، هى أحد الرعاة الرسميين
للمهرجان، وللأفلام، وكذلك لها نصيب فى أن تخصص جائزة باسمها.
إن معنى إقامة مهرجان ليس أمرا سهلا ليحصد هذه القيمة والنجاح،
ولكن من المهم أن يكون المهرجان ومؤسسوه لديهم الرؤية والفهم
والوعى لكيفية خلق نظام وسيستم يعرف به المهرجان، فليست المسألة
شخصية ولا تتوقف على فرد بعينه، لكنها منظومة متكاملة تهدف إلى أهم
قانون «النجاح بمتعة» ومتعة النجاح.
كليرمون فيران، مهرجان تزداد قيمته، وأصبح علامة فارقة فى حياة
كثير من النقاد والسينمائيين الذين يتجولون فى أغلب مهرجانات
العالم، إلا أن هذا المهرجان يتحول حضوره إلى الكثيرين، وربما أكون
منهم إلى إدمان.. إدمان فكرة الاستمتاع بالإبداع والنظام والدقة
ووروعة المشاهدة.
كنت دوما أتساءل بعد مشاهدة كل فيلم غالبا.. ما الذى يعين «البنى
آدمين» على حيواتهم القاسية، كان يأتينى هاتف الإجابة.. أن لكل
إنسان ما يعينه عليها، ببساطة لأننا غالبا نحن البشر ندرك أن
الحياة غير عادلة، لكن هناك سحر لجمالها.. وانسجمت لفكرة أن ما
شاهدته من أفلام فى كليرمون فيران تصلح له تلك التيمة.. «اللاعدل
وقسوة الحياة.. جمالها وجنونها»!!
صباح
الخير المصرية في
|