·
كنت أقابل حسين رياض مع مجموعة من الفنانين الشباب فى قهوة «الفن»
·
بقدر ما عانت كاريوكا فى طفولتها من قسوة القدر بوفاة والدها
وأختها وجدتها وأخيها وانفصالها عن أمها إلا أن هذا القدر الذى أخذ
منها بيد أعطاها باليد الأخرى حنانًا وحظًّا
استمعت سعاد محاسن إلى حكاية تحية فى صمت وانهمرت دموعها تسابق
دموع تحية.. لكنها وبعد أن انتهت تحية من قصتها مسحت دموعها قائلة:
«بس إنتِ لازم ترجعى لأهلك يا تحية.. إنتِ قاصر!!»
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
الآن فقط عرفت بدوية وجهتها تماما، فى آخر عربة فى القطار ركبت،
وفى ركن من العربة انزوت، وكانت تعد الثوانى حتى دق الجرس وتحرك
القطار، فتداخلت فى نقسها وهى ترقب الصحراء من النافذة، جاشت نفسها
لكنها لم تدمع، ولسوف تحكى لسعاد محاسن كل شىء، ولسوف ترقص إن
أرادت لها أن ترقص، ولسوف يدق لها كراوية فوق طبلته كما فعل منذ
أربع سنوات، فى يدها المنديل وبه القرشان والنصف، ولن يأخذ أحد
كنزها هذا إلا على جثتها!... ولسوف تقول للناس إن اسمها تحية!
«التذاكر
يا بنتى».
أفاقت بدوية على صوت الكمسارى، فارتجفت ثم حلت عقدة منديلها،
وأخرجت كنزها كله وقدمته له فى صمت.
«إيه
ده.. انتى رايحة فين يا شاطرة؟».
«مصر».
«وراكبة
من غير تذكرة ليه، وإيه اللى ركبك القطر فى الساعة دى، انتى تنزلى
المحطة الجاية أحسن لك!».
كان صوت الرجل يجلجل فى العربة، فالتفتت نحوها كل الرؤوس، كانت
الوجوه كلها لرجال فقراء، فلاحين وعمال، وكانت دموعها قد بدأت
تنساب من جديد، وإذا كانت أمها تبتعد عنها فى الحلم كلما اقتربت،
فها هى سعاد محاسن تبتعد هى الأخرى فأين المفر؟
صاح رجل من وسط العربة:
«معلهش
يا فندى.. دى عيلة».
ويحيا الأمل من جديد عندما ينطق رجل آخر، ويتحدث الكمسارى: «مش
بإيدى».. ويرد ثالث، ويقترب منها رابع وهو يسأل فى حنان:
«إيه
حكايتك يا شاطرة؟!».
فانفجرت بدوية فى البكاء، ولو حكت لهم حكايتها فلسوف تعود إلى
الإسماعيلية من جديد، لكنها قالت: «باشتغل عند ناس بيضربونى
بالكرباج ويحطوا الحديد فى رجلى».
«ورايحة
مصر لمين؟».
«لأهلى!».
ونهض ابن حلال وصاح:
«كلنا
عندنا ولايا.. أنا حادفع قرش».
وتساقطت القروش فى يد الكمسارى ليتجمع لبدوية ثمن التذكرة، ويعيد
الرجل إليها كنزها، بعد أن يدفع بدوره قرشا مثل كل الرجال!
إذا ما جاءت سيرة الشعب المصرى، صاحت تحية كاريوكا: «شعبنا قلبه
كبير وطيب».. وإذا سألها أحد عن سر هذا الحماس الغريب لأبناء
البلد، حكت لهم حكاية التذكرة «اللى لموا ثمنها من بعضهم
بالتعريفات».
عندما وضعت بدوية قدمها لأول مرة فى محطة القاهرة لم تكن تملك سوى
قرشين فقط، فلقد اشترت فى أثناء الطريق، مع الانبهار الشديد
بالمحطات، والزحام، والحقول المترامية، اشترت سميطة أكلتها، وشربت
من «قلة» كان يضعها فلاح بجواره!
رفعت رأسها إلى سقف المحطة، فانتابها مع الدوار فرح غريب، كان
الزحام شديدا فدهشت، لأن القطار يحمل كل هؤلاء البشر، راحت تتخبط
فى الناس وتقول: «معلهش». -حدث نفس الشىء لتحية كاريوكا عندما سارت
فى شوارع نيويورك لأول مرة، وكان هذا بعد الحرب العالمية الثانية-
جرفتها موجة البشر إلى الخارج.. ميدان واسع لا حد لاتساعه، تمثال
تعرف أن اسمه «نهضة مصر» منذ أن كانت فى المدرسة، زحام وأصوات
سيارات وحناطير وعربات... ووسط هذا المحيط من البشر، كانت تريد
الوصول إلى سعاد محاسن.
«والنبى
يا عم.. عماد الدين فين؟».
أصبحت سعاد محاسن هى كل الأمل ولا شىء غيره... ولم يكن غريبا أن
تسأل صبية رثة الثياب حافية القدمين قصيرة الشعر هزيلة، عن شارع
عماد الدين، لكن حب الاستطلاع يدفع الإنسان إلى السؤال: «رايحة فين
فى عماد الدين!».
لكن بدوية لا ترد... لا تذكر اسم سعاد محاسن وكأنهم سوف يخطفونها
منها، أو يمنعونها عنها... وإذا ما أشار إليها أحدهم على الطريق
سألت آخر.. ولا تكف عن السؤال حتى عندما يشير إليها كل الناس على
الطريق.. وكان النهار ينصرم وهى تعبر شوارع القاهرة كالمنومة، عند
سعاد محاسن فقط سوف تشعر بالأمان، سوف تقص عليها كل شىء، وبدوية لا
تكف عن سؤال الناس: «عماد الدين منين؟»، حتى صاح بها رجل: «ما هو
انتى فى عماد الدين يا شاطرة».
«مسرح
نجيب الريحانى».
«كازينو
بديعة... مغلق لفصل الصيف... أعظم الاستعراضات الإفرنجية فى كازينو
الكوبرى».
«كازينو
برينتانيا».
قرأت بدوية الكلمة الأولى وعجزت عن قراءة كلمة «برينتانيا»...
وانتابها القلق، كيف ستجد سعاد محاسن؟!
كانت تقرأ اللافتات وهى تتداخل فى نفسها من الخوف، كان الوقت عصرا
والشارع مزدحما بالناس، وتوقفت عيناها عند لافتة كتب عليها «كازينو
يوسف عز الدين»... وبجوار الباب كانت هناك صور ولافتات ورجل وامرأة
يجلسان فوق مقعدين على الرصيف.
«والنبى
يا عم.. ماتعرفش الست سعاد محاسن؟!».
قالتها بدوية وهى تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
«عاوزاها
ليه؟!».
ضخمتها الفرحة فاهتزت بالطرب.
«عاوزاها!».
وقالت المرأة:
«سعاد
محاسن يا بنتى فى إسكندرية!!».
لا يستطيع الإنسان عندما يصل إلى تفاصيل حياة تحية كاريوكا إلا أن
يقول: إنه بقدر ما عانت هذه السيدة فى طفولتها من قسوة القدر بوفاة
والدها وأختها وجدتها وأخيها مرسى، وانفصالها عن أمها، فإن هذا
القدر الذى أخذ منها بيد، أعطاها باليد الأخرى حنانا وحظا حسنا.
ولقد كان من الممكن أن تنحرف قدم تحية يمينا أو يسارا فى بداية
حياتها فى القاهرة، كان من الممكن أن تتأخر عن موعدها ساعة أو
تتقدم ساعة، كان من الممكن أن تسأل إنسانا آخر ممن كان يعجّ بهم
شارع عماد الدين، غير هذا الرجل الجالس على الرصيف أمام إحدى
الصالات مع تلك المرأة شديدة البياض، جميلة الوجه.. كان من الممكن
أن تسأل بدوية، وفى شارع عماد الدين بالذات، وفى تلك الأيام التى
كانت فيها الفتيات بضاعة شديدة الرواج، كان من الممكن أن يحدث هذا
ويتغيّر مجرى حياتها تماما، إلى مجهول لا يعلمه إلا الله!!
ما إن قالت تلك السيدة الجالسة على الرصيف أمام صالة «يوسف عز
الدين» لبدوية، إن سعاد محاسن فى الإسكندرية، حتى مادت الأرض تحت
قدمى الصبية، انهارت كل أحلامها فجأة، تبدد الأمل واجتاحها إحساس
بالوحدة والضياع رهيب، فأين تذهب بعد كل هذا المشوار وهى لا تملك
من الدنيا سوى قرشين فى منديل معقود؟!
راحت بدوية تبكى بحرقة، لم تستطع إلا أن تبكى على الرصيف وأمام
الناس وبصوت عالٍ.. ولقد دهشت المرأة والرجل معًا لهذا «الجعير»
الصادر من هذه الصبية الحافية القدمين حليقة الرأس، وكان لا بد أن
يسألاها عما بها، وعما يبكيها، ولم تجد الصغيرة أمامها إلا أن تقص
عليهما كل شىء!
وعندما انتهت بدوية من قصتها، سألتها المرأة:
«شو
اسمك هلا؟!».
وعرفت بدوية على الفور أن المرأة ليست مصرية، لكنها شامية، ووجدت
نفسها تقول: «اسمى تحية!».
إن سعاد محاسن تعرفها بهذا الاسم، هى الوحيدة، عدا الراهبات
وتلميذات السبع بنات، التى تناديها باسم «تحية».. وتراجعت الطفلة
خطوة إلى الخلف، عندما ابتسمت لها المرأة قائلة:
«تعالى
معنا واحنا بنوديكى لسعاد محاسن!».
رغم الأمل الوحيد الباقى، فلقد لعب الفأر فى عب بدوية.. فماذا تريد
منها هذه المرأة؟!
ساعة الغروب وهذا هو شارع الأحلام.. الضجيج والناس والحناطير
والسيارات والوجوه الغريبة.
«تعالى
معنا!».
نهض الرجل والمرأة معا بعد أن تهامسا فتبعتهما بدوية دون كلمة -وهل
كان أمامها غير ذلك؟.. وأين تذهب لو لم تذهب معهما؟!- عبرا الشارع
فعبرت وراءهما الشارع، برزت مخالبها خوفا وشكا وترقبا، وتوترت
عيناها، لكنهما كانا يعبران الشارع إلى البيت المقابل للصالة
تماما.. دخلا بابا وصعدا درجا إلى الدور الأول وهى خلفهما دون
كلمة.. فتح الرجل الباب ودخلا فدخلت وراءهما.. أغلقا الباب، فراحت
نظراتها كالسهام تفحص البيت شبرا شبرا، وبابا بابا، ونافذة بعد
أخرى!
كانت الشقة خالية تماما إلا من كلب صغير أبيض اللون، أبى أن يستقبل
بدوية إلا بنباح مستمر!
كان الرجل والمرأة يحملان طعاما، فجلسا إلى المائدة، وقدما إليها
الطعام فأكلت.
كانت جائعة فالتهمت كل ما قدماه إليها.. غابت المرأة فى غرفتها ثم
عادت إليها بقميص نوم، راحت تخيطه بيدها حتى يلائم الجسم النحيل
-أتفعل امرأة كل هذا لوجه الله؟- أدخلتها غرفة عارية إلا من سرير
صغير، ثم غادرت البيت مع رجلها وتركتها وحدها مع الكلب الصغير.
ساد السكون من حولها إلا من أصوات الناس والسيارات فى الشارع، ورغم
نباح الكلب خرجت إلى الصالة، وفتحت باب الشقة واطمأنت أنهم لم
يغلقوه عليها.. ثم عادت إلى الغرفة وخرجت إلى الشرفة.. وراقبت
الشارع وتعبت من الوقوف ونباح الكلب.. وعندما جلست فوق الفراش
أرادت أن تتمدد، وعندما فعلت، سقطت فى النوم بلا مقدمات!
هبت بدوية من نومها على أصوات ونباح وأحاديث، كان نومها عميقا
وهادئا لم تتخلله الأحلام. كان نوعا من الغيبوبة. استيقظت منها
وقلبها يدق بعنف وخوف.. جاءتها أصوات الرجل والمرأة وقد عادا من
الخارج وكان الليل قد انتصف منذ ساعتين.. سألتها المرأة عن حالها،
ثم قدمت إليها طعاما فأبت، كانت شبعانة بالفعل، فلم تكن قد تعودت
على الطعام الكثير، أصر الرجل والمرأة فأكلت.. ثم تركاها إلى
غرفتهما، وكان عليها أن تنام من جديد، لكنها لم تعرف للنوم طعما.
كان كل شىء غارقا أمامها فى الأضواء.. المحلات والشارع وعربات
الطعام ورائحة الشواء وغناء السكارى. كان الشارع مزدحما بالخلق،
رغم انتصاف الليل منذ ثلاث ساعات، وكانت المحلات والصالات والمسارح
والمقاهى متجاورة ومفتوحة الأبواب والنوافذ، وكانت مزدحمة بالخلق..
هذا هو عماد الدين الذى شاهدته فى حلمها، لا ينقصه سوى وجود سعاد
محاسن.
ومع أضواء الفجر دخلت بدوية إلى غرفتها ونامت، ثم استيقظت بعد ساعة
وقد أرقتها الكوابيس والأحلام المزعجة.. همت من فراشها فزام الكلب
ثم نبح. كان البيت ساكنا ولا بد أن الرجل والمرأة نائمان، وكلما
تحركت نبح الكلب، فارتدت إلى الفراش مذعورة، لم يكن هناك سوى أن
تظل قابعة فى مكانها فوق الفراش لا تتحرك.. لقد تعودت كثيرا -وعلى
مدى عام انتهى بالأمس فقط- على حياة القيود، فماذا يهمها لو جلست
صامتة حتى بعد الظهر!!
ذلك أن المرأة والرجل لم يستيقظا إلا فى الساعة الثانية والنصف،
وجداها حيث كانت فسألاها لماذا لم تأكل؟ لكنها لم ترد.. وضع الطعام
وتناول الثلاثة إفطارهم ثم أخذاها إلى الشارع، سارت بجوارهما وسط
زحام الشارع تدير رأسها، الألوان والمحلات والملابس والناس كانت قد
استسلمت لقدرها، لكن مخالبها كانت تستعد خوفا ورهبة وشكا عظيما..
دخلا بها محلا واشتريا لها فستانا جديدا، ثم دخلا محلا آخر واشتريا
لها حذاء!
لماذا يفعلان ذلك وهما لا يعرفان إلا أن اسمها تحية؟!
هل يخبئان لها شيئا لا تعرفه؟!.. فى طريق العودة اشتريا طعاما، وفى
البيت أكلوا جميعا، ثم طلبت منها المرأة أن ترتدى الفستان والحزام،
لأنها سوف تذهب معها إلى الصالة!
توقف ذهن الصبية أمام كلمة «صالة»! ما الذى تعنيه الصالة؟!..
هل تتحقق مخاوفها بعد أن أطعماها واشتريا لها الفستان والحذاء؟!..
ولقد عادا بالأمس بعد منتصف الليل بكثير؟.. فهل.. وهل.. وهل..
لكن بدوية كانت تعلم أنها لو تركتهما، فلسوف تتوه تماما، وسط هذا
البحر الخضم من الناس.. فاستسلمت.
التحرير
المصرية في
|