«التحرير»
تنشر مذكرات تحية كاريوكا.. «الحلقة السابعة»
كاريوكا: «عسكرى ينام فى المعارك» أول أدوارى على
المسرح!
أعدها للنشر- محمد توفيق
·
بشارة واكيم أول من رشَّحنى للتمثيل وبعدها التقيت بديعة مصابنى
لأول مرة
·
عندما وصلت إلى شارع عماد الدين ذهبت إلى سيدة سورية وقلت لها «شغلينى
معاكى أى حاجة إن شالله خدامة بس ما ترجعنيش لأخويا!»
·
كانت هذه هى المرة الأولى التى تسمع فيها تحية اسم بديعة مصابنى..
لم تكن تعرف من هى ولا من تكون لكنها كانت قد اتخذت قرارها أن تخوض
بحر الحياة
·
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
·
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
·
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
·
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
كانت تحية تعيش مع سعاد محاسن وتصحبها إلى كل مكان، إلى البيت..
إلى المسرح.. كانت تجلس فى الصالة فى الصباح تشاهد البروفات، وكانت
تجلس فى المساء، فى الكواليس، لا تفقه شيئا مما يجرى أمام عينيها،
كانت هناك أغنيات وكلام تمثيل ورقص، لكن شيئا من هذا لم يحرك بها
شيئا، فلم يكن يعنيها فى تلك الأيام، إلا أنها تخلصت من القيود
ولسعات السوط.
لم تكن بدوية تحية تعلم شيئا عن شارع عماد الدين سوى أن سعاد محاسن
تسكن فيه، وهى لم تكن تعلم بالتالى أن قهوة الفن هذه التى جلست
عليها مع جانيت حبيب ومحمد الدبس، وأكلت سندويتش الكفتة من عند
عزوز شهدت منذ ما يقرب من عشر سنوات مولد حركة أدبية رائدة، كان
لها تأثيرها القوى على القصة المصرية الحديثة!
ومنذ عشر سنوات، كانت هناك مجموعة من الشباب يلتقون على قهوة الفن
كل مساء، ليناقشوا ويكتبوا ويبحثوا لأنفسهم عن طريق جديد يعبرون به
من عصرهم، كان منهم الطبيب، وكان منهم المحامى، وكان منهم الطالب..
غير أن أبرز هؤلاء كانوا ثلاثة.. شاب قصير أبيض الوجه مستدير يرتدى
نظارة طبية، ويناقش فى صوت خافت شديد الحماس، وكان اسم هذا الشاب
يحيى حقى!
وكانت الشلة التى يلتقى معها يحيى حقى فى تلك الأيام على قهوة الفن
تضم محمود طاهر لاشين، أحد رواد القصة الواقعية فى مصر، والدكتور
حسين فوزى، الذى أصبح اليوم واحدا من أعلام الثقافة فى بلادنا.
ولم تكن تحية تعلم شيئا عن هذا كله، كما أنها لم تكن تعلم أن شارع
عماد الدين، فى أيامها تلك.. كان يزهو بسيدة استطاعت أن تتربع على
عرش الفن الاستعراضى لسنوات طويلة، وكان اسم هذه السيدة: بديعة
مصابنى.. وكان القدر قد خط لتحية أن يكون لقاؤها ملكة المسارح لقاء
يترك بصماته على حياتها، حتى يومنا هذا.
وهو شىء كاليقين -وإن لم يكن هناك مصدر حى له، فلا أحد يعرف اليوم
شيئا عن سعاد محاسن- إن سعاد محاسن وقعت فى مأزق عندما واجهتها
بدوية بالقصة كلها.
ولقد وجدت هذه السيدة، سورية الأصل، والتى كانت تمتلك صالة فى شارع
عماد الدين، والتى انفصلت عن زوجها الذى كان يشغل مركزا محترما فى
سوريا، وجدت نفسها أمام فتاة قاصر، نحيلة، شاحبة الوجه، قصيرة
الشعر، جريئة، «مستبيعة».. تركت بيت أهلها ذات فجر وطفشت، لا تعرف
عن الدنيا شيئا، قطعت الطريق من الإسماعيلية إلى القاهرة، ومن
القاهرة إلى الإسكندرية لتلتقيها.. فماذا هى فاعلة؟!
وقالت سعاد: «لأ يا تحية.. لازم ترجعى لأهلك!».
وردت تحية: «حاطفش تانى!».
قالت: «إنتى لسه صغيرة.. إنتى قاصر!».
قالت تحية: «شغلينى عندك!».
وسألتها سعاد: «تشتغلى إيه؟!».
ردت الفتاة بجرأة وتصميم: «أى حاجة إن شالله خدامة، بس ما ترجعنيش
لأخويا!».
ساد الصمت للحظات، وبدت على سعاد مظاهر الحيرة، ثم قالت:
«تروحى
لأمك؟!».
ردت تحية، وكانت تراوغ: «زى بعضه.. بس أخويا لأ!».
هكذا انحسم الأمر.. كان ذهن الصبية يشرد فى أثناء الحديث إلى حيث
كان المسرح، والممثلون يقفون على خشبته يؤدون البروفة استعدادا
لعرض المساء.. وكانت سعاد أمام أمر واقع ومحير، فهذه فرقة، وجمهور،
وفنانون، وعمال، ومال.. فهل تترك هذا كله لتسافر إلى المنزلة مطرة،
فتعيد البنت إلى أمها.. وتنفض يدها من هذا المأزق؟! وعلى كل.. فلا
أحد يعرف على وجه اليقين ما الذى كان يدور فى ذهن سعاد محاسن، كما
أن أحدا لا يعرف ما الذى كانت تنويه.. كل ما نعرفه أنها أجلت الأمر
أياما، حتى تستطيع أن تدبر له الوقت الكافى، وأن تجد لنفهسا مخرجا.
ومضت عشرة أيام فى الإسكندرية.
كانت تحية تعيش فيها مع سعاد محاسن.. كانت تصحبها إلى كل مكان، إلى
البيت.. إلى المسرح.. كانت تجلس فى الصالة فى الصباح تشاهد
البروفات، وكانت تجلس فى المساء فى الكواليس لا تفقه شيئا مما يجرى
أمام عينيها، كانت هناك أغنيات وكلام تمثيل ورقص، لكن شيئا من هذا
لم يحرك بها شيئا، فلم يكن يعنيها فى تلك الأيام، إلا أنها تخلصت
من القيود ولسعات السوط.
ثم كان يوم..
كانت الفرقة تستعد فيه لتقديم رواية تدور أحداثها فى العصر
الفرعونى، وكانوا بحاجة إلى «كومبارس» يقفون فى خلفية المشهد، وهم
يمسكون بالحراب والدروع، مجرد تماثيل من البشر تكمل اللوحة.. وكان
فى الغرفة ممثلان شاميان، كان أحدهما شابا خفيف الظل عصبى المزاج
اسمه «بشارة واكيم»... ووقع نظر بشارة على الفتاة اليافعة ذات
الشعر القصير، فصاح: «ها البنت تنفع.. أعطوها ملابس وحربة!»..
ولم ترد تحية، لكن سعاد هى التى ردت بحزم، ولقد كانت شخصيتها بعيدة
تماما عن الحزم:
«لا
يا بشارة.. دى قاصر!».
وصاح بشارة:
«وهى
حاتعمل إيه؟.. دى حاتقف ماسكة حربة!».
وصعدت تحية إلى خشبة المسرح لأول مرة فى حياتها.. صعدت إلى الخشبة
دون أن تعرف أو تعلم أو تدرى ما هى فاعلة، كان لا بد له أن تصنع
شيئا، إنها تأكل، وتشرب، وتجد المأوى، ولقد اشترت لها سعاد ملابس
وحذاء!
وفى المساء ارتدت الملابس الفرعونية، وأمسكت الحربة بيد، والدرع
باليد الأخرى، ووقفت فى خلفية المشهد، وفتحت الستارة!
وفى حياة كل فنان، تصبح هذه اللحظة، هى لحظة العمر، لحظة الوقوف
أمام الناس حتى ولو كان الدور لتمثال بشرى لا ينطق كلمة ولا يتحرك
خطوة.. غير أن هذه اللحظات مرت على تحية، دون أن تعنى شيئا على
الإطلاق، كانت تنظر إلى الناس تارة، وإلى الممثلين تارة دون أن
تفقه شيئا مما يقولون.. وذلك أن النوم كان قد بدأ يغلبها، وبدأ
رأسها يسقط فوق صدرها، وراحت تقاوم النوم وهى منتصبة وقد حمى وطيس
التمثيل دون جدوى، وأصبح جسدها كله يترنح مع تميلات الكرى.. حتى
إذا هبطت الستارة، صاح فيها بشارة واكيم:
«شو
بدك تعملى.. هادى أكبر إساءة!».
ولم ترد تحية، غير أن سعاد محاسن هى التى ردت:
«وهى
ذنبها إيه؟.. أنا قلت لك إنها صغيرة وما تعرف شىء!».
وفى الليلة الثانية وضعوا بجوارها حارسا آخر، حتى إذا غلبها النوم
وبدأت تترنح، لكزها الحارس فأيقظها!!
ولقد انتهى عرض هذه الرواية، وقدمت الفرقة رواية أخرى وجدوا فيها
لتحية دور تمثال بشرى آخر، كانت الرواية التالية تدور فى العصر
الرومانى، وارتدت تحية ملابس رومانية، ومشطت شعرها القصير، فأصبحت
بلا ماكياج أقرب إلى الصورة، غير أنها -كلما حمى وطيس المعركة-
ترنحت من فرط ما يغالبها النوم!.. وتستمر الصبية فى أداء الدور،
بعينين نصف مغلقتين.
ومضت أربعة أشهر على هذا الحال!
واستردت الصغيرة بعض نضارتها، وجرت الدماء فصبغت لون بشرتها بلون
الورد، وأخذت تحية تفتح عينيها على ما يدور حولها، كانت قد تحولت
إلى قطعة متوحشة صغيرة ذات مخالب، عاد إليها ذلك الإحساس القديم
بالثقة، والذى كان قد فارقها منذ فارقها «أبا».. لكن رغم كل هذا
ظلت بعيدة عن كل شىء، قريبا فقط من سعاد محاسن، تلازمها كظلها،
وتصحبها أينما ذهبت، وكان هذا يكفيها تماما!
ومع مضى الأيام كانت رغبة سعاد فى إعادة تحية إلى أمها تذوى شيئا
فشيئا.. كانت تحية قد بدأت تدرك ماذا يمكن أن يفعله أحمد لو أنها
ذهبت إلى المنزلة.. فهل تعود؟!
وذات يوم هبط الإسكندرية شاب سورى أنيق المظهر، يرتدى ملابس فاخرة،
يبدو عليه العز، وتبدو على ملامحه علامات الوقار.. ووصل الرجل إلى
مسرح سعاد محاسن ذات ليل، وما إن رأته تحية، وما إن رأت استقبال
سعاد له.. حتى أيقنت أن ثمة شيئا سوف يحدث.. فقبعت فى مكانها لا
تبرحه.. ولا تبرح عيناها ذلك الرجل الغريب، الذى انهمكت معه سعاد
فى حديث طال حتى كاد الصباح يطلع!
كانت سعاد محاسن قد وقعت فى بداية حياتها فى دمشق، فى غرام شاب
سورى من أسرة عريقة.. وكان هذا الشاب يشغل مركزا اجتماعيا مرموقا،
وكان قد وقع فى غرام هذه الراقصة، حتى لقد عرض عليها الزواج، بشرط
أن تترك فنها وتتفرغ لبيتها.
وافقت سعاد.. وهجرت الجميلة حياتها وفنها، وعاشت قصة حبها هذا الذى
كان يشتعل يوما بعد يوم، وكلما اشتعل التهبت الحياة بينها وبينه،
فانفصلا بالطلاق.
وعادت سعاد إلى حياتها، إلى فنها، حتى عادت الحياة من جديد إلى
مجراها بينها وبين ذلك الحبيب العاشق، فهجرت الفن، وعاشت فى أحضانه
أياما ملتهبة بالحب والغيرة والخلاف، فانفصلا.. فعادت من جديد إلى
ممارسة الفن.
ولسنوات طويلة.. سارت حياة سعاد محاسن على هذه الوتيرة، تغضب من
زوجها فتنفصل عنه، وتعود إلى فنها، ويغلبها الحب والحنين والشوق،
فتطلق الفن لتعود إلى أحضان الزوج والبيت.
فى هذه المرة كانت سعاد محاسن قد طلقت من زوجها، فغادرت سوريا كلها
إلى القاهرة، وكوّنت فرقة، وافتتحت صالة، ونجحت.. وكانت قد مضت
سنوات، كان الشوق فيها قد غمر الحبيبين بعد طول فراق، وكانت سعاد،
كما كان زوجها قد تعب من لعبة الطلاق والعودة، فقررا أن يعودا هذه
المرة إلى الأبد.. وقررت سعاد أن تعود معه إلى دمشق، وأن تصفى كل
أعمالها فى القاهرة.
اتخذت سعاد قرارها، فأصبح عليها أن تحل الفرقة، وأن تعطى لكل ذى حق
حقه، وأن يذهب الفنانون والفنانات والراقصات والعمال والفنيون كلٌّ
إلى حال سبيله.. ولقد كان هذا كله بسيطا لا يحتاج إلى القلق، ففى
تلك الأيام كانت سوق الفن فى مصر رائجة، وكان من الممكن لكل فنان
أو راقصة أن يجد له مكانا فى صالة أو مسرح..
وكانت سعاد قد عادت بفرقتها إلى القاهرة عندما جلست ذات يوم مع
تحية، وكان يبدو عليها التأثر الشديد.
«تحية..
ما بدك ترجعى لأمك؟!».
وقالت تحية بحزم: «لأ!».
«أنا
راجعة سوريا.. رايحة لحالى».
وقالت تحية: «أنا هاشتغل أى حاجة!».
وعبثا حاولت سعاد أن تقنع تحية بالعودة، قصت عليها القصة كلها،
أنها تحب هذا الرجل، وهى تضحى بكل شىء من أجله، وعلى تحية أن تختار
الآن طريقها، ولم يكن أمام سعاد إلا أن تقول أمام إصرار تحية:
«أنا
حاخدك لواحدة مثل أختى تمام.. حاتروحى معى فى الصباح لبديعة مصابنى!».
وكانت هذه هى المرة الأولى التى تسمع فيها تحية اسم «بديعة مصابنى»،
لم تكن تعرف من هى ولا من تكون، ورغم هذا فلقد وافقت، كانت قد
اتخذت قرارها أن تخوض بحر الحياة وليحدث ما يحدث.. فقط، لا تعود
إلى أحمد!
التحرير المصرية في
|