ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح مرسى
«الحلقة الخامسة عشرة»
أعدها للنشر : محمد توفيق
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
كاريوكا: اقترضتُ ستة جنيهات من صاحب سينما «ريفولى» لأشترى بدلة
رقص
وفى تلك الأيام كانت القاهرة مسرحًا لنشاط سياسى وفنى شديد.. كان
على ماهر قد استقال من الوزارة ليخلفه حسن صبرى، وكانت المعارك بين
الشعراء تحتدم كل صباح على صفحات الجرائد والمجلات، ودخلت إيطاليا
الحرب وزحفت قوات الدوتشى من ليبيا لتغزو أرض مصر وتحتل السلوم
وسيدى برانى وتدق أبواب الإسكندرية بمدافعها الثقيلة.. وتحدث أزمة
وزارية فى وزارة حسن صبرى فيستقيل الوزراء السعديون فى مظاهرة
سياسية هائلة، ويسقط رئيس الوزراء ميتًا فى البرلمان أمام الملك
فاروق وهو يتلو خطبة العرش.. ويؤلف حسين سرى وزارة جديدة.. وكان
ديجول يعيش فى مصر بعد أن سقطت فرنسا تحت أقدام النازى فى أيام
قليلة.
مع بداية الحرب العالمية الثانية أُعلِنَت الأحكام العرفية،
وفُرِضَت الرقابة على الصحف، واحتجَّ حزب الوفد بمذكِّرة قدمها
للسفير البريطانى، وملأ الإنجليز حيطان المدن بأفيشات تحمل رسومًا
كاريكاتيرية ضد النازية والفاشستية، وفُتحت معسكرات الإنجليز
لعشرات الألوف من العمال المصريين للعمل فى الورش أو البناء..
وأغرقوا البلاد بملايين الملايين من الجنيهات، واستخدموا كل طريقة
للترويج والدعاية.. وكان كازينو بديعة، بما له من شهرة وصيت ومكانة
فنية، أحد هذه الأماكن التى أغدق الإنجليز عليها أموالهم.. وإذا
كان الكازينو قد أصبح يمتلئ كل ليلة بضباط جيش الإمبراطورية -ويحرم
دخوله على الجنود- فإن ما كان ينفقه الضباط لم يكن يكفى، فاتفقت
السلطات البريطانية مع بديعة، نظير ألوف الجنيهات على أن تقدم
برامج دعائية، ترتدى فيها البنات زى مضيفات جويات، أو مجندات، وأن
تصمّم لهن رقصات تبشر بالنصر!
وكانت تحية بطبيعة الحال تشترك فى هذه البرامج، وكانت تؤدِّى مع
الراقصة الناشئة -مثلها- هدى شمس الدين، رقصة ترتديان فيها زِىَّ
مضيفات جويات.. وكانت إذا وجدت ساعة أو بعض ساعة بلا عمل، أسرعت
إلى شلة المحنطين، فى ما بين الماتينيه والسوارية، برداء المضيفة
الجوية، إلى حيث كانوا يجتمعون فى مثل هذا الوقت من كل يوم فى بار
الأنجلو!
وذات يوم، قبل أن تدخل تحية بار الأنجلو، كان حسنى (بك) نجيب فى
انتظارها!
«اسمعى
يا توحة…».
همس لها الرجل بأنهم يدبِّرون مقلبا للشيخ عبد العزيز البشرى.
قالت تحية: «البشرى! وده يطلع إيه؟!».
فى كلمات أخبرها حسنى نجيب بمن يكون ذلك الرجل الذى اشتهر بلسانه
الطويل وأسلوبه اللاذع، وفى كلمات طلب منها أن لا تنطق حرفًا
بالعربية إذا ما دخلت البار، فهى -كما أخبروا الشيخ عبد العزيز-
إحدى المجندات التابعات للجنرال ديجول، جاءت تبحث عنه، ليلقى
حديثًا فى إذاعة فرنسا الحرة، موجَّهًا إلى الدول العربية!
وشاهدت تحية الشيخ عبد العزيز لأول مرة، وجلست ترقب هذا الرجل ذا
الشارب الكث والعمامة فوق رأسه، وراحت ترطن معه بالفرنسية، وحسنى
نجيب يترجم.. وكان من عادة الشيخ عبد العزيز البشرى أن يتناول
غداءه فى تمام الساعة الثانية ظهرًا، وأن ينام ساعتين أو ثلاثًا،
وأن يرفض أى موعد لعمل أو لقاء فى هذه الفترة من اليوم.. وكان
الشرط الوحيد لهذه المضيفة الجوية التى جاءت من قِبَل الجنرال
ديجول للشيخ عبد العزيز، أن يسجِّل حديثه، فى فندق الكونتننتال فى
تمام الساعة الثانية ظهرًا!
ورفض الشيخ عبد العزيز، غير أنه ما إن سمع بالأجر الذى عرضته عليه،
وهو ثلاثون جنيهًا، حتى وافق، ومَضَت تحية بعد ساعة على موعد معه
فى اليوم التالى، لكنها غادرت بار الأنجلو، لتنسى الأمر برمته!
ولقد مضت الأيام، مضى عام كامل، وكانت تحية تسير ذات يوم فى ميدان
الأوبرا، وتعبر الرصيف أمام فندق الكونتننتال، عندما فوجئت برجل
معمَّم، كَثّ الشارب، يخرج عليها من الفندق شاهرا عصاه، ومن فمه
تنهال الشتائم والسباب بلا حصر، وعندما التفتت نحوه ورأته، عرفت
فيه ذلك الشيخ الذى قابلته فى بار الأنجلو ذات يوم، فأطلقت لساقيها
العنان، وشهد ميدان الأوبرا فى ذلك اليوم منظرًا فريدًا، كانت تحية
كاريوكا -كانت قد عُرفَت بهذا الاسم واشتهرت به فى كل أنحاء مصر-
تجرى بكل قواها، ومن خلفها الشيخ عبد العزيز البشرى وهو يطاردها
وقذائف الشتائم تنهال من بين شفتيه.
أفلتت تحية من الشيخ عبد العزيز بأعجوبة، لكنهما أصبحا بعد ذلك
صديقين، وأصبح هو، من أقرب الناس إلى قلبها، ذلك العالم، الذى كانت
تتعلم منه حقيقة، أصول الدين!
لم تكن تحية تعلم -قبل هذا الحادث بعام واحد- أن الرقصة التى كانت
تستعد لها مع إيزاك ديكسون، بموافقة المدام وسخطها الدائم لاستغراق
تحية فى التدريب، سوف ترتبط بها إلى الأبد ارتباطًا لا ينفصم، لم
تكن تعلم أن هذه الرقصة سوف تصبح اسمها هى نفسها!
وعندما سمحت بديعة لتحية بأن تتدرب فى أثناء فترات الراحة فى
البروفات، وبعد البروفات أيضًا، لم تكُن موافقتها مجرد موافقة رغم
أنها كانت ترفض -حتى هذا الوقت- أن تتحدث مع إيزاك أو تعامله، ذلك
أنها راحت -من بعيد وبعين الخبير- ترقب خطوات الرقصة بوما بعد يوم،
وتشاهد التدريبات وتتابعها وتناقش تحية فى الخطوة، وقد تُبدِى
رأيًا سريعًا وقد لا تُبدِى رأيا، لكنها فى النهاية كانت راضية.
ولم تكن تحية تريد أكثر من ذلك، لم تكن تحلم بأكثر من ذلك، ولم
تستطع أُمّ حورية محمد، ولا حورية نفسها، الاعتراض فى البداية،
كانت حورية فى تلك الأيام راقصة لها شأنها وكانت راقصة ممتازة
قديرة تنساب حركاتها فى الرقص الشرقى، أو فى رقصة التانجو التى
كانت قد اشتهرت بها، فى إبداع لا ينكره أحد، وعلى ذلك، فلقد كان من
غير المعقول أن تعترض على هذه البنت الناشئة بخاصة بعدما حدث بعد
أن أدَّت رقصتها الشرقية الأولى، وبعد أن مزقت الست نرجس البدلة
إلى قطع صغيرة دفعت المدام ثمنها كاملًا!
غير أن تحية فى ذلك الوقت، كانت مشغولة بشىء آخر نغَّص عليها
حياتها تمامًا، ولقد اجتمعت «الشِّلة» ذات يوم (جينا وتيتى وجمالات
وتحية) وراحت كل منهن تناقش هذا الأمر وتقلبه على كل وجوهه رغبة فى
الوصول إلى حل دون جدوى!
كان إيزاك ديكسون قد صمّم البدل، وكانت التدريبات الشاقة قد وصلت
إلى نهايتها وأصبحت تحية على استعداد كامل لأن تقدم الرقصة إلى
الناس، فماذا كانت تنتظر؟!
«عملتى
إيه فى حكاية البدلة يا توحة؟!».. هكذا كان يسألها كل يوم، وكانت
فى كل يوم تجيب نفس الإجابة: «لسه، ماعرفش!».
وهكذا بدأت تفقد مرحها الذى لازمها منذ انتقمت من كريمة، ومنذ أصبح
الجميع يخافون منها ويعملون لها ألف حساب ويعاملونها باحترام، ولقد
كانت تحية عقدت صداقات عديدة مع كثيرين من زبائن الكازينو
الدائمين، وكان من هؤلاء ثلاثة من الأشقاء عرفتهم مصر عندما أنشؤوا
سينما «ريفولى» لتضارع فى جمالها سينما «مترو» التى كانت فى تلك
الأيام مفخرة الشرق!
كان أولاد جعفر (مصطفى ومحمد والمرحوم مظهر جعفر) من أقرب الأصدقاء
إلى نفس تحية، ارتبطت بهم ارتباطًا وثيقًا على مدى سنوات طويلة،
وكان محمد جعفر فى تلك الأيام قد وقع فى حب جولييت بعد أن انتهت
علاقتها بفؤاد الجزئرلى، وذات يوم كانت تحية تجلس مع مصطفى ومحمد
جعفر فى حديقة الكازينو، وكان واضحا عليها ذلك الإحساس الدفين
بالضيق والألم، وسألها محمد جعفر: «مكلضمة ليه؟!».
وفى عصبية قصَّت تحية عليه القصة كلها، فسألها مصطفى: «والبدلة دى
تتكلف كام؟!».
قالت: «ماعرفش، اسأل إيزاك».
ثم انصرفت!
وبعد لحظات من انصرافها، دخل إيزاك الكازينو، وناداه مصطفى جعفر،
وسأله عن ثمن البدلة، فقال: «ستة جنيه»!
كان المبلغ كبيرًا بالنسبة إلى تحية، لكنه كان بالنسبة إلى أولاد
جعفر مبلغًا بسيطًا، وعندما أخرج مصطفى جعفر عشرة جنيهات وقدمها
لتحية التى كانت قد عادت إليهم من جديد، رفضت أن تأخذ المبلغ كله،
كان كل ما تطلبه هو الجنيهات الستة ثمن البدلة!
وسرعان ما بدأت مدام مارى (التى كانت تصمم ملابس الراقصات) تصنع
البدلة التى ما إن رأتها تحية حتى كاد عقلها يذهب.
■
■
■
وأخيرا جاءت ليلة العرض.
وإذا كان الرقص الشرقى يعتمد على حرية الراقصة فى التعبير بالجسد
مع النغم المنساب وإذا كان كان يعتمد أيضًا على ذلك الإبداع الخفى
الخاص بالراقصة، والذى يميزها من كل راقصة أخرى، فإن هذا الرقص كان
مختلفًا أشدّ الاختلاف، كانت الخطوة تلازم الإيقاع ملازمة درامية
تتصاعد معه أو تهبط به فى رتم مدروس ومرسوم، إن أى خطأ فى أى خطوة،
كان كفيلًا بكشف الراقصة وتحويل الرقصة بعد ذلك إلى مجرد حركات بلا
معنى، لهذا، لم تكُن تحية هى التى انتابها القلق وحدها، بل امتدّ
القلق إلى بنات الشلة اللاتى تركن الكواليس ونزلن إلى الصالة
ليشجعن تحية بالتصفيق والاستحسان كما امتد إلى إيزاك ديكسون الذى
لازم تحية فى هذا اليوم ملازمة الظل، وراح يدربها كلما استطاع ذلك
فى الصباح أو الظهر أو المساء، يصاحبها بصيحاته وتعليماته، غير أن
أكثر الجميع قلقًا كانت هى بديعة مصابنى.
فى تلك الليلة لم يحدث ما حدث فى المرة الأولى، ولم تقدم الرقصة
باسم تحية كما حدث عندما قدمت الرقصة الشرقية، كل ما قيل فى
الميكروفون: «سيداتى آنساتى ساداتى، نقدم لكم الليلة، ولأول مرة،
رقصة الكاريوكا!».
أُطفِئَت الأنوار ودقت موسيقى الفرقة الغربية التى كانت تعمل فى
الكازينو، فوقع قلب تحية فى قدميها، وارتجفت، وبرد جسدها، وعندما
رُفِعَ الستار، دفعها إيزاك ديكسون إلى المسرح دفعًا، وتعالى تصفيق
البنات وصيحاتهن من الصالة، وبدأت تحية تخطو للمرة الأولى تلك
الخطوات التى كانت سببًا فى شهرتها، ومضت الدقائق وتحية تؤدِّى
الرقصة على إيقاع الموسيقى وصوت إيزاك الذى كان واقفا فى الكواليس
يهمس صائحًا: «واحد، اثنين، ثلاثة، واحد. اثنين، ثلاثة»!
وما إن انتهت الرقصة حتى دوّت الصالة بالتصفيق.
وانحنت تحية للناس الذين كانت أكُفُّهم تدوِّى فى الصالة، لكن
عينيها كانتا عند بديعة، ولشد ما كانت دهشتها عندما رأت بديعة وهى
تشير إلى الأوركسترا أن يعيد العزف من جديد، ومن جديد رقصت تحية «الكاريوكا»
ونجحت، وعندما أُسدِلَ الستار كان أول من تَلقَّاها بين ذراعيه هى،
بديعة مصابنى، كانت هذه السيدة قد أيقنت بما لا يدع مجالًا للشك،
أن تحية قد وضعت قدمها على أول الطريق، وأنها أصبحت راقصة فعلًا،
فلم تتحفظ، وضمَّتها إلى صدرها، وقبَّلَتها!
كان فى هذا فقط كل الكفاية بالنسبة إلى تحية، وكانت هذه هى الليلة
الأولى، التى نسمع فيها من يناديها فى الصالة باسمها الجديد، زبون
عادى لا تعرفه ولا تذكره. كانت تسير بجواره، فناداها صائحا فى
إعجاب: «كاريوكا!».
والتفتت تحية نحوه فى حدة وهى تقول: «أنا ماسميش كاريوكا!».
لكن غضبها لم يكُن يعنى الناس فى كثير أو قليل، فمنذ تلك الليلة
أصبح اسمها «تحية كاريوكا»، إلى الأبد! |