مائة عام وأكثر ومازلنا نغني للنهر الخالد
يحرره: خيرية البشلاوى
احتفل علي طريقتي الخاصة بعيد ميلاد محمد عبدالوهاب.. لست مؤهلة
للاقتراب من عبدالوهاب الموسيقار. الملحن. المطرب الملقب بـ أبو
الأغنية العربية الحديثة. وعبقري الموسيقي العربية وموسيقار
الأجيال.. الألقاب أكبر من قدرتي المتواضعة علي سبر اغوار هذه
المجالات التي برع فيها عبدالوهاب حتي أصبح "أيقونة" لجميع الأجيال
التي جاءت بعده.
احتفل به لأنني من الجيل الذي أنعم الله عليه بنعمة الوجود في مصر
عبدالوهاب وأم كلثوم و.. مصر الحديثة المنفتحة علي ثقافات العالم
الحر والمحظوظة بمعاصرة عباقرة خرجوا من رحم الوطن وجسدوا أجمل ما
في ميراثه الثقافي الانساني. المتحرر والمستقبل بدون حواجز لثقافات
العالم.. لست ممن ضيع في الأوهام عمره. بل قد أكون ربحت عمرا بفضل
ألحان عبدالوهاب.
عبدالوهاب لحن لنفسه ولاحقا لأم كلثوم وكثيرين من رموز الطرب ما
يقرب من 1800 لحن.
عبدالوهاب غني للشعراء الكلاسيكيين والمحدثين والغنائيين وجعلنا
بعذوبة اللحن والأنغام الموسيقية البديعة بديع البيان وجمال اللغة
العربية.
"سلام
من صبا بردي أرق.. ودمع لا يكفكف يا دمشق نحن حاليا نذرف الدموع
علي دمشق ليس بسبب عدوان استعماري فرنسي وانما بسبب ارهاب عربي
وحشي مسلم
!!".
"أخي
جاوز الظالمون المدي.. فحق الجهاد وحق الفدا" شعر علي محمود طه
غنته أنغام بلحن عبدالوهاب في حفل عيد الفن يوم الخميس. غنته عن
وعي وفي حضرة المشير وزير الدفاع.. والظالمون في عصر عبدالوهاب حين
تغني بأشعار الشاعر العربي المصري. كان الظالمون من "البعدا"
الصهاينة. بينما اليوم هم كتائب القسام وحماس والجماعة الارهابية..
اختلف الاستعمار وبات الحال صادما.. ولذلك فأنا احتفل بميلاد
عبدالوهاب حين كان "العدو" عدوا.. وليس اسلاميا عربيا..
محمد عبدالوهاب يمثل للغالبية العظمي من الشعوب العربية. فنانا
عملاقا. نصيرا للموروث العربي الأصيل وللثقافة العربية والموسيقي
العربية والطرب العربي والأغنية الوطنية.
كان الراديو الوسيط الوحيد بين عبدالوهاب والمستمع يمضي المرء
الساعات إلي جوار المذياع ليستقبل ابداعات هذا العبقري والقادر من
عشاقه يشتري التسجيلات الصوتية علي اسطوانة. يستحضر كلما أراد صوته
الآسر ليس فقط للوجدان وانما ايضا للعقول عبر معان تكرس مشاعر
العزة ومنذ الثلاثينيات وحتي منتصف الأربعينيات انفتح الباب السحري
ودخل عبدالوهاب.. زحفت اليه السينما فلم يعد صوتا نستقبله عبر
الاثير وانما صورة وحركة وأداء صوتيا للحوار وأغاني كتبت خصيصا
لتكريس خيوط الحدوتة. دخل عبدالوهاب بقوامه الممدود وأناقته التي
كان يحرص عليها وبسلوكه المتحضر. يحمل أكثر من رسالة يبثها بألوان
الأبيض والأسود من خلال حبكة رومانسية نستقبلها بمشاعر دافئة "جفنه
علم الغزل". "يا مسافر وحدك". "مجنون ليلي".
استثمرت السينما نجاح المطرب الكنز فحولته إلي فتي أحلام.. إلي نغم
يصل للقلب ظهر أول ما ظهر في فيلم "الوردة البيضاء 1934" أمام
سميرة خلوصي وزكي رستم ودولت أبيض وسليمان نجيب ومحمد عبدالقدوس
ونجح الفيلم وامتد عرضه اسابيع ولم يكن الفيلم الغنائي الأول سبقه
فيلم انشودة الفؤاد "1932" لأميرة الطرب "نادرة" أين نادرة من ملك
الطرب في الوجدان العربي..
من حسن حظ السينما المصرية انها جاءت إلي التربة المصرية وعليها
كتيبة غنائية جاهزة وتمتلك جماهيرية كبيرة "أم كلثوم ـ ليلي مراد ـ
نادرة ـ شادية ـ إلخ" بعد فيلم "الوردة البيضاء" نقل عبدالوهاب
خيال المستقبل من جهاز المذياع إلي الشاشة البيضاء من السماع
الفردي إلي الفرجة الجماعية من البهجة والاستمتاع ليس فقط بلحن
جميل إلي لحن وحدوتة وصراع رومانسي من أجل المحبوبة وآخر طبقي
اجتماعي من أجل الصعود علي سلم الموهبة والكفاءة وليس النسب
والثراء.
ومن انبهار بالصوت إلي افتتان بالصوت والصورة من بدايات متواضعة
إلي مرتبة اجتماعية وتأثير واسع في الطبقات المحظوظة من علية القوم
الذي أصبح عبدالوهاب منهم وصاروا يتقربون إليه.. فهو مطرب الملوك
والطبقات الهاي.
عبدالوهاب لعب بطولة سبعة أفلام من 1934 وحتي ..1946 بدأ بـ
"الوردة البيضاء" وانتهي بفيلم "لست ملاكا" وظهر في هذه الأفلام
نخبة من الفنانين ذوي التأثير الجماهيري الكبير ليلي مراد وفاتن
حمامة التي اكتشفها محمد كريم وقدمها طفلة صغيرة في فيلم "يوم
سعيد" "1939".
نادرا ما تظهر فاتن حمامة في المناسبات الاحتفالية السينمائية
ولكنها ظهرت مؤخرا في عيد الفن وظهورها هنا محمل بالدلالات ظهرت
بعد مرحلة العتمة وتحريم الفن وبعد أن انجلي الكفر واستعاد الفن
عيده وتراجع كهنة التكفيريين الذين نشروا الرعب في المجتمع المصري
فلا يصح لسيدة الشاشة أن تغيب في هذه الليلة الليلاء.. ظهرت وبانت
وشعرنا بالأمان.
مازالت أفلام محمد عبدالوهاب مثيرة للشجن وللحنين للقاهرة التي
صورت الأفلام بعضا من ملامحها ومن أجوائها. ابان الثلاثينيات
والأربعينيات من القرن العشرين.
وبعد فيلم "لست ملاكا" اعتزل عبدالوهاب التمثيل تأثرت السينما ربما
ببعده عنها ولكن رصيد عبدالوهاب ومكانته وتأثيره الكبير لم يتراجع.
علي العكس ابان الخمسينيات وبعد الثورة "1952" انبهرت بألحانه
الوطنية الشعوب العربية التي كانت تكافح الاستعمار من أجل
استقلالها كان هو صوت الجماهير العربية في كل الميادين غني ولحن
عشرات الأغاني الوطنية التي جمعت بين الترفيه الذي يثري الوجدان
والعقل ويغذي المشاعر الوطنية في آن واحد.
غني لدمشق وفلسطين وللوطن العربي حتي أصبح بحجم اسهاماته اسطورة في
الموسيقي والغناء.. انغامه انبعثت في جميع أركان الوطن العربي
لسنوات طويلة.
مازال صوت عبدالوهاب ترياقا يخفف من حالات التوتر التي تجلبها
السياسات العربية والأنظمة العربية المناوئة للتحرر المتعاونة مع
القوي الكبري التي تتصدي لأحلام الشعوب في الخبز والحرية والكرامة
الانسانية.
عبدالوهاب المطرب العربي الوحيد الذي حمل رتبة "لواء" رتبة عسكرية
وودعته الجماهير في جنازة عسكرية مهيبة وذهب إلي مثواه الأخير
محمولا علي عربة تجرها الخيول وسط موكب مهيب تحرسه قوات من الجيش
والشرطة ويسير فيه كبار رجالات الدولة والفنانون والمطربون
والموسيقيون.
ودعته الجماهير بدموع غزيرة وبأعلام مرفوعة وكأنه أحد الأبطال
المقاتلين وهو بالفعل كذلك. حارب بالموسيقي والألحان والشعر المغني
وبالتلاحم الوطني مع أحلام أمة ظل ينتمي إليها حقا وفعلا..
غطت الجنازة جميع الوسائط الجماهيرية وكأنها الحدث العظيم لشخصية
عالمية كبيرة.. وهو بالفعل شخصية عالمية عربية وطنية كبيرة.. حمل
لواء اللغة واللحن الموسيقي ودعم الشخصية العربية بتخليد ميراثها
الثقافي الأصيل الذي يخاطب الروح والوجدان ويعكس ثراء العقل وقوة
التقاليد.
احتفالي الشخصي بذكري ميلاد عبدالوهاب شمعة وصلاة علي روحه.. مع
صحبة من أغانيه التي حملت ذكريات عزيزة من زمن فات ومناسبات بيننا
نناجيها بشجن وحنين وألم.. وصور تمر علي البال وأحيانا تثير تيارا
من الخواطر.
تخيلوا لو فكر أحدنا الآن أن يدندن بأغنية مثل "الدنيا سيجارة وكاس
للي هجروه الناس" أو "الكاس بين ايديا والشوق بين عينيا" هذه
الأغاني الممنوعة. كان العالم والسياسي في ذلك الزمان البعيد
يتحملون ويتفهمون هذه المساحة من التعبير الغنائي الحر ولم تكن
وقتئذ نسبة المجون والشذوذ والعنف والتطرف والأذي الوحشي للآخرين
بهذا القدر من الاتساع والقوة التي نراها الآن.. تناقض لافت.
وكان "القمح" حين غني عبدالوهاب له "القمح الليلة ليلة عيده" مخازن
وصوامع الطين فوق أسطح بيوت الفلاحين.
ولم يكن الخبز بالكوبونات ولا بالطوابير مثلما هو الآن.. ألف رحمة.
فمن المؤكد انك في جنة الخلد فقد خلفت لنا أكثر من ألف حسنة جارية. |