كان الفيلم الألماني- الفرنسي "دبلوماسية"
Diplomacy
من أفضل ما عرض في مهرجان برلين (خارج المسابقة) في إطار
الاحتفاليات الخاصة التي ينظمها المهرجان لعدد من الأفلام لكبار
السينمائيين. الفيلم من إخراج المخرج الألماني فولكر شلوندورف
(75
سنة) الذي يعتبر أحد أهم السينمائيين من جيل السينما الألمانية
الجديدة تلك الحركة السينمائية التي ظهرت في السبعينيات من القرن
الماضي، جنبا إلى جنب مع رفيق جيله، فيرنر هيرتزوج.
كان شلوندورف قد اشتهر في البداية بفيلمه "شرف كاترينا بلوم
المهدور" (1975) قبل أن يحقق شهرة عالمية كبيرة عام 1979 بعد فوز
فيلمه "الطبلة الصفيح" (عن رواية غونتر غراس) على السعفة الذهبية
في مهرجان كان ثم جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي.
كان موضوع الحرب العالمية الثانية التي تجسد "المأزق الألماني
التاريخي" موضوعا مؤرقا عند شلوندورف منذ "الطبلة الصفيح". وهو
يعود مجددا اليوم في "دبلوماسية" ليلقي بالضوء على أحد أكثر
الأحداث إثارة للجدل في تاريخ تلك الحرب الضارية. والموضوع هو: كيف
أمكن إنقاذ العاصمة الفرنسية الجميلة، باريس، من الدمار، بعد أن
أمر هتلر الحاكم العسكري الألماني للمدينة- الجنرال ديتريتش فون
شوليتز- بتدميرها تماما في حالة إقتراب الحلفاء من الاستيلاء عليها
حسب الفرضية المطروحة في الفيلم.
كان هتلر قد عين الجنرال شوليتز في هذا المنصب قبل عشرة أيام من
نزول الحلفاء على شاطيء نورماندي وبدء زحفهم على باريس في الخامس
والعشرين من أغسطس 1944.
أما ما يقال عن صدور أمر من هتلر بحرق وتدمير باريس بكل كنوزها
الفنية والمعمارية، فهو موضوع لم يثبت صدوره تاريخيا حتى الآن، بل
ظل مجرد "إفتراضات" تصلح للدراما وكتب الخيال أكثر مما تصلح لكتب
التاريخ.
إذا كنا بصدد الحديث عن أعمال الخيال السينمائي التي تقوم على
افتراضات قد يثبت ذات يوم وجود دليل عليها، فيجب أن نذكرأن أول
فيلم تطرق لهذه الفرضية الرائجة وهو فيلم "هل تحترق باريس"
Is Paris Burning? (عرض
عام 1966) للمخرج الفرنسي رينيه كليمو.
كان هذا الفيلم فيلما "إحتفاليا" لإبراز دور المقاومة الفرنسية ضد
الاحتلال النازي، وقد تحمس الفرنسيون لإنتاجه بمناسبة مرور عشرين
عاما على نهاية الحرب، وحشدوا فيه عددا كبيرا من نجوم السينما
الفرنسية والأمريكية منهم آلان ديلون وجان لوي ترنتنيان وكيرك
دوجلاس وشارل بواييه وليزلي كارون وجلن فورد وجان بول بلموندو
وأنتوني بيركنز وإيف مونتان وسيمون سينوريه وكلود ريش، والعملاق
الكبير أوروسون ويلز. لكن الفيلم جاء ضعيفا مفككا في بنائه، مترهلا
في إيقاعه، مليئا بالثرثرة، يعاني من تعدد الشخصيات على نحو مربك،
وغياب الحبكة القوية.
وكان معظم هؤلاء الممثلين النجوم، يظهر بشكل عابر في الفيلم الذي
اعتمد على مصادر أدبية ومباشرة عدة، وشارك في كتابته عشرة من كتاب
السيناريو بينهم: فرنسيس كوبولا والكاتب الأمريكي الكبير غور
فيدال. والواضح أن كل كاتب ساهم بقصة ما من القصص الكثيرة داخل
الفيلم، ولذلك افتقد السيناريو التماسك والترابط، وجاء الفيلم
هزيلا رغم أن السلطات الفرنسية والجنرال ديجول شخصيا، أتاحا لصناع
الفيلم الفرصة للتصوير في المواقع الحقيقية في باريس. وقام بدور
الجنرال شوليتز الممثل الألماني الأصل- جيرت فروب- الذي اشتهر بعد
ذلك بدوره في فيلم "الإصبع الذهبي"
Goldfinger (من
أفلام جيمس بوند الشهيرة). وقام أوروسون ويلز بدور القنصل السويدي
الذي يلعب دورا كبيرا في إقناع الجنرال بالتفاوض مع رجال المقاومة
الفرنسية وعدم حرق باريس مقابل وقف أعمال المقاومة ضد القوات
الألمانية.
دبلوماسية
أما فيلم شلوندورف فهو عمل سينمائي متميز رغم أنه يعتمد على مسرحية
فرنسية من تأليف سيريل جيلي، عرضت على المسرح في باريس قبل ثلاث
سنوات، وحققت نجاحا كبيرا. كتب سيناريو الفيلم مؤلف المسرحية سيريل
مع شلوندورف، وقام بالدورين الرئيسيين نفس الممثلين اللذين أديا
الدورين على المسرح: الممثل العملاق نيلس أريستروب
Niels Arestrup (يتذكره
المشاهد العربي في فيلم "نبي"
Prophet
الذي قام فيه بدور "سيزار" زعيم المافيا في السجن)، وأندريه
ديسولييه
Andre Dussollier
الممثل المفضل عند المخرج آلان رينيه (شارك في أفلام "ميلو"
و"مخاوف خاصة في مكان عام" و"الحشائش المتوحشة" و"حياة رايلي" كما
شارك في الإنتاج الجديد لفيلم "الحسناء والوحش").
يبدأ الفيلم بمشهد "فوتومونتاج" مكون من لقطات من معارك الحرب
العالمية الثانية، وبوجه خاص لقصف المدن الألمانية وما حل بها من
دمار، على خلفية من موسيقى بيتهوفن، قبل أن ننتقل إلى باريس.
زمن الفيلم لا يزيد عن 85 دقيقة. الساعة الأولى تقريبا تدور كلها
في ديكور مغلق يفترض أنه حجرة مكتب الجنرال شوليتز في مقره بفندق
"ميوريس" في باريس، ومن شرفة المكتب يمكنه التطلع إلى الخارج، إلى
الشوارع وما يدور فيها، ويستخدم شلوندورف كثيرا اللقطات
البانورامية من الشرفة أو من النافذة التي تظهر بعض الأماكن
التاريخية الشهيرة في وسط باريس. لكن الغرفة تظل هي الديكور
الرئيسي في الساعة الأولى، ومنها ينتقل أحيانا إلى موقع الضابط
"ليجر" المسؤول عن تنفيذ تعليمات الجنرال والذي يشرف على عملية
تلغيم المباني والجسور الهامة في باريس بالمتفجرات إنتظارا لأوامر
الجنرال بنسف المدينة.
يقف الجنرال يدخن في الشرفة فجرا وهو يرتدي ملابس النوم، ويرى
رجلا باريسيا يسير في الشارع مع كلبه، فيعلق قائلا لمساعده: أنظر..
الفرنيسون الآن أصبحوا يجاهرون بالسخرية منا!
الجنرال يشعر بالتوتر بعد أنباء نزول الحلفاء في نورماندي، لكنه لا
يستطيع سوى أن يتحلى بالانضباط العسكري، وهو يقطع اجتماعه مع ضباطه
لمناقشة خطة تدمير باريس في حالة الانسحاب، وصول القنصل العام
السويدي، راول نوردلنج، وهو شخصية حقيقية للدبلوماسي السويدي الذي
عاش في باريس ثماني سنوات وأتقن اللغة الفرنسية مثل أهلها وعشق كل
شيء فيها، وكان يقوم بالكثير من الوساطات والمفاوضات بين الجنرال
وبين رجال المقاومة للإفراج عن بعض السجناء الفرنسيين، خاصة في
المراحل الأخيرة من الحرب أي قبل إنسحاب الألمان.
المحاورة
راول نوردلنج يأتى إلى مكتب الجنرال من سلم خلفي سري لم يكن
الجنرال وضباطه يعلمون بوجوده، ويقول مبررا ذلك إنه أراد تفادي
المرور على الحراس الموجودين عند المدخل الرئيسي للفندق. يبدي
الجنرال دهشته من وجود مدخل سري، يفضي إلى مكتبه، فيأمر مساعديه
بتأمين ذلك المدخل. ويحاول الدبلوماسي بشتى الطرق إقناع الجنرال
بتجاهل تعليمات هتلر وإنقاذ المدينة. إنه يضغط حينا، ويلوح حينا
آخر بما لديه، يجادل ثم يلطف الأجواء يقترح تناول كأس من النبيذ مع
الجنرال، يتمتع بذلاقة اللسان، والقدرة على التودد والملاطفة لكنه
يلجأ أيضا إلى التلويح بالتاريخ والتلميح بما يمكن أن يتنظر
الجنرال في حالة تنفيذه الخطة، وكيف سيصبح مجرم حرب.
يروي الدبلوماسي قصة طريفة للجنرال، فيقول إن الجناح الذي يتخذ منه
الأخير منها مقرا له كان "الجرسونيرة" التي يلتقي فيها نابليون
الثالث عشيقته عبر هذا السلم السري لكي لا يراه أحد. في البداية
لا يهتم الجنرال بهذه الخلفية التاريخية، لكن اهتمامه يتزايد عندما
يطلب الدبلوماسي السويدي أن يحتسيا كأسين من الويسكي الذي يعرف أنه
موجود في خزانة الجنرال بالمكتب.. كيف عرف هذا؟ يقول له إن نابليون
الثالث كان يستمتع بمراقبة عشيقته قبل أن يدخل عليها في الغرفة من
خلال تلك المرآة التي يمكن لمن في الخارج- على السلم السري- أن يرى
ما يحدث داخل الغرفة دون أن يراه من بداخلها!
هل كنت تراقبني إذن؟ وكيف أثق بك وأنت تتعامل مع الإرهابيين الذين
تطلقون عليهم رجال المقاومة، ولابد أنهم هم الذين أرشدوك إلي هذا
الطريق، ولابد أنك أتيت من قبل بصحبة أحدهم وتلصصتم علي؟
الدبلوماسي يقول بهدوء إنه لو كان هذا صحيحا لأمكن التخلص من
الجنرال أي قتله، لكن مهنته هي الدبلوماسية وليس القتل!
المباراة تشتد بين الرجلين. في البداية، يبدو الدبلوماسي مهيمنا
على الموقف، صاحب الحجة الأقوى، والمنطق البسيط: باريس ستقع خلال
ساعات في أيدي الحلفاء، وألمانيا هزمت وقضي الأمر، فلماذا تدمير
هذه المدينة الساحرة التي تنتج هذا الجمال والفن؟ أتريد أن يتذكرك
التاريخ باعتبارك الرجل الذي قتل مليونا من السكان ودمر أجمل مدن
العالم؟ ما الذي ستجنيه من هذا؟ ستصبح أبشع قاتل في التاريخ!
هذه المحاورة والمناورة يستخدم في إخراجها شلوندورف كل تفاصيل
المكان ببراعة: الإضاءة وقطع الديكور والإكسسوارات، وحركة الممثلين
في فضاء الغرفة، والانتقال بين اللقطات من حجم إلى آخر، أو التطلع
من النافذة.. كل حركة أو تفصيلة من التفاصيل لها دور ووظيفة. مثلا
في أحد المواقف يقترب الدبلوماسي من النافذة، يحاول أن يشير
للجنرال بماتمتلكه باريس من جمال وسحر.. لكن الجنرال ينهره ويطالبه
بلهجة جافة بالابتعاد عن النافذة "فربما أنك تريد إعطاء إشارات إلى
أصدقائك الإرهابيين"!.
الحوار بين الرجلين يقطعه دخول بعض الضباط أو مساعد الجنرال
لاطلاعه على ما يجري، أو رنين التليفون الموجود على مكتبه، أو
محاولاته التحدث مع الضابط المسؤول عن تنفيذ خطة تدمير المدينة.
الحوار مكتوب ببراعة تصل إلى مستوى الكمال، فكل شيء محسوب بدقة،
ولغة الدبلوماسية الرقيقة البارعة تتناقض بوضوح مع لغة العسكرية
الجافة بل إننا نرى الجنرال في الثلث الأول من الفيلم، يتعامل مع
الدبلوماسي كما لو كان أحد ضباطه، أي بطريقة إصدار الأوامر بشكل
جاف استعلائي، ولكننا نرى تدريجيا، كيف يكتسب الدبلوماسي ثقته،
فيبدأ بالتعامل معه بلطف كصديق جاء لينصحه.
الجدل
في
الثلث الثاني من الفيلم، ينتقل الثقل من الدبلوماسي إلى الجنرال.
صحيح أنه يوضع أولا في موقف الدفاع عن قراره بقوة وحسم بدعوى أنه
"رجل عسكري" لا علاقة له بالسياسة، إلا أنه يتحول إلى الهجوم
بمنطقه القوي المقنع أيضا، فهو لا يستطيع تجاهل أوامر هتلر وإلا
فقد شرفه العسكري. وهو يبرر الإقدام على تدمير باريس بما فعله
الحلفاء في هامبورج التي قتل فيها بفعل الغارات التي لم يكن لها
هدف عسكري، 45 ألف شخص، ثم ما فعلوه من تدمير لمدينة برلين. لكن
الدبلوماسي يقول له إن ارتكاب أخطاء من جانب طرف لا يعني أن يرتكب
الطرف الآخر أخطاء مشابهة. يعود الجنرال فيشرح كيف أن أفراد أسرته
سيصبحون عرضة للقتل في حالة عدم تنفيذه التعليمات فالجستابو سيعلم
على الفور. ويتعهد له الدبلوماسي باتخاذ تدابير فورية لإخراج أسرته
من المانيا إلى سويسرا.
في الثلث الأخير من الفيلم، ننتقل إلى مشاهد خارجية بل ويهبط
الجنرال في أحد المشاهد بنفسه لاستقبال ضباط جاءوا لإطلاعه على ما
تم تنفيذه بعد أن انقطعت الاتصالات التليفونية، لكي نرى الفندق
ونمر بردهاته وقاعاته البديعة. وينتهي الفيلم كما هو معروف بنجاة
المدينة من الدمار، واستسلام الجنرال للحلفاء (أطلق سراحه عام 1946
وهو ما يطرح تساؤلا جديا حول إحتمال تعاونه معهم في تسهيل دخول
المدينة دون قتال حقيقي أو بسبب اطلاق سراح الكثيرين من أفراد
المقاومة).
إن جوهر موضوع الفيلم، ليس كما رأينا في فيلم "هل تحترق باريس" أي
موضوع الاحتلال والمقاومة والبطولات الفرنسية المبالغ فيها، بل ذلك
الجدال المثير بين العسكري والدبلوماسي، وهو بهذا المعنى فيلم عن
دور الدبلوماسية في زمن الحرب، عن قدرتها على الإنجاز، عن قيمة
التاريخ والفن والعمارة والتراث الإنساني، أكثر من كونه فيلما عن
الحرب والاحتلال والتحرير والإنتقام. إنه عن ذلك المأزق الفكري،
بين ما يتسق مع القناعات الشخصية، وبين ما يمليه علي المرء إلتزامه
كعسكري. ولا يوجد هنا غالب ولا مغلوب، شرير أو طيب، بل رجلان
يواجهان لحظة تاريخية فارقة.
وكما برع شلوندورف في إخراج مشاهد فيلمه بكل تلك الحساسية والرقة
والرصانة والسيطرة الكاملة على المواقع والديكورات وحركة الكاميرا،
والانتقال الواثق من الداخل إلى الخارج، مع معرفة أين ومتى يتوقف
عن الحوار ويتيح مساحة للتنفس والتأمل والتفكير، يعتبر فيلم
"دبلوماسية"- أيضا- "فيلم تمثيل"، ففيه تبرز الخبرة الكبيرة
والموهبة اللتان يتمتع بهما ممثلا الدورين الرئيسيين. يستخدم
دوسيلييه في دور نوردلنج الدبلوماسي السويدي، أقصى درجات الرقة
والنعومة وسحر شخصيته وصوته الرخيم الهادي ونظراته التي تتحول من
الرقة إلى الصرامة، من التصريح إلى التلميح، ومن المناورة إلى
المباشرة. إنه يلجأ – بكل ما يوحي بالصدق - إلى كل ما في جعبته من
حيل، لا لكي يضحك على محاوره، بل لكي يجعله يصل إلى الإحساس بما
يشعرهو به، أي أهمية الحفاظ على هذه المدينة، تقديرا للنفس
البشرية، للجمال والإبداع البشري وللتاريخ.
أما الجنرال فيؤدي دوره ببراعة نيلس أريستروب، الذي لا يمكن تخيل
من هو أفضل منه في أداء هذا الدور، بقوته وإحساسه كضابط بروسي
ينتمي لعائلة من العسكريين ليس من الممكن أن يتخلى أبدا عن مهمة
أوكلت إليه، ثم يتلاشى جموده وتشبثه بموقفه تدريجيا بعد أن يدور
حوار داخلي في نفسه، فيصل إلى لحظة الاستنارة التي تجعله يقبل
بتغيير موقفه وإلغاء قراره. وهو ينتقل بسلاسة وثقة من اللغة
الألمانية إلى الفرنسية.
والحقيقة أن ابرز ما يميز الأداء هو ذلك الانسجام الواضح بين
الممثلين، والتفاهم الكبير بينهما، وهو ما يعود إلى تجربتهما
السابقة في أداء الدورين على خشبة المسرح.
إن مشاهدة الأداء التمثيلي في هذا الفيلم متعة لا يعادلها شيء.
وبعيدا عن الحرب والنازية وهتلر والمقاومة والحلفاء، ما هو حقيقي
وما هو خيالي.. فهذا الفيلم ينتمي للفن الرفيع ولتاريخ الإبداع
السينمائي، وهذا ما سيبقى!
. |