ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح مرسي
«الحلقة الاخيرة»
أعدها للنشر- محمد توفيق
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية
كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس
صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف قرن من
الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948
ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت
أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت
السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح
مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة،
المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح
مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
مع الأيام لم تعد علاقة تحية كاريوكا بسليمان نجيب علاقة التلميذة
بالأستاذ، مع الأيام سقط ذلك الحجاب الذى صنعته الطبقة التى ينتمى
إليها سليمان نجيب.. كما سقطت كل الحجب الأخرى، وأصبحا صديقين
حميمين.. ولقد كانت تحية إذا ما صادف وذهبت لتؤدى مع المجموعة رقصة
فى أحد الأفلام، وكان سليمان نجيب يعمل فى نفس الفيلم، أو فى فيلم
آخر فى نفس الاستوديو، كانت تُفاجأ بالرجل وقت الغداء وهو يدعوها
للذهاب إلى غرفته، فإذا ما سألت عن السبب، صاح فيها:
«حاتلاقى هناك سندوتشات، روحى كلى واتغذى يمكن يطمر فيكى!».
وكانت تضحك، وتأكل سندوتشات الفراخ التى كان يأتيها بها يوميا ما
دام يعملان فى نفس الاستوديو، أو الفيلم، وكانت أيضا تفيض حنانا
وعرفانا.
ولقد كان حسنى نجيب -شقيق سليمان- يحمل هو الآخر رتبة البكوية،
وكان مديرا لاستوديو مصر، وذات يوم بعد سنوات طويلة من تلك الأيام،
كانت تحية كاريوكا قد أصبحت تحية كاريوكا، كان يكفى أن يكتب هذا
الاسم على أفيش من أفيشات الأفلام لكى يدر ألوف الجنيهات، وكانت
العلاقة بين سليمان نجيب وتحية كاريوكا قد توطدت إلى حد تبادل
الشتائم والسباب الضاحك، بأعلى صوت وأمام الجميع.. وأصبح تبادل مثل
هذه الشتائم «مزاج» عند سليمان نجيب، لكنها كانت بالنسبة إلى
شقيقه، مدير الاستوديو، شيئا يجب أن يوقف فورا.
وذات يوم طلبهما معا فى مكتبه.
وفى المكتب انفجر فيهما حسنى نجيب، انفجر غاضبا وهو يطلب منهما فى
صراحة أن يوقفا هذا الأسلوب المبتذل الذى يمرمط بالأم والأب والأهل
جميعا أرض الاستوديو.. ولم يغضب سليمان من شقيقه، بل قدر موقفه،
وكذلك فعلت تحية، ووعد الاثنان حسنى نجيب أن لا يعودا إلى هذا
الهزار مرة أخرى.
وخرجا من مكتب حسنى نجيب وقد صممت تحية على أن لا تعامل سليمان
نجيب، ما دام فى استوديو مصر، إلا بأسلوب رسمى، أن لا تضاحكه، ولا
تشتمه ولا تناديه إلا باللقب: يا سليمان بيه!
ومضى يوم.. ويومان.. وثلاثة.
مضت ثلاثة أيام بدا فيها سليمان نجيب شديد العصبية، كان كلما تعامل
معها أو حدثها أصابته نوبة من نوبات الكآبة وسيطرت عليه، كان
الأسلوب المهذب الجديد يعيده رغما عنه إلى مكتبه بدار الأوبرا،
وإلى طبقته التى كان يعرف خباياها ولا يحترمها.. وفى اليوم الرابع
لم يعد يحتمل، لم يعد يستطيع، وما إن قالت له تحية: «صباح الخير يا
سليمان بيه!» حتى انفجر فيها صارخا أمام جميع مَن فى الاستوديو:
«ملعون أبويا ابن كلب.. دى حاجة غريبة، وهو ماله -يقصد حسنى-
ومالنا.. اشتمى يا ستى الجزء اللى يخصنى فى أبويا وأمى.. هو
حايخنقنا ولا إيه؟!».
لم يحتملا المعاملة الرسمية أكثر من ثلاثة أيام، وضربا عرض الحائط
بكل شىء، وعادا صديقين كما كانا، تسيل ألفاظهما بالشتائم والضحك
والمرح والحب جميعا.
■
■
■
ثم حانت فرصة العمر لتحية كاريوكا.
حانت عن طريق سليمان نجيب أيضا، ولو بطريق غير مباشر.
وإذا كانت الأقدار قد ألقت تحية فى طريق من علموها كيف تحترم نفسها
وتحترم فنها، وإذا كانت بديعة، هى أول من قادها إلى الطريق، وإذا
كان سليمان نجيب ثانى الأساتذة.. فإن أستاذها الثالث كان.. السفر.
فى تلك الأيام التى سبقت الحرب العالمية الثانية مباشرة، حانت
الفرصة لتحية كاريوكا لتسافر..
كانت بديعة قد قامت برحلة من تلك الرحلات التى تطوف بها دول المغرب
العربى وحدوده.. لا يصحبها أحد سوى المطربة نادرة.. وكانت بديعة فى
تلك الأيام مدينة بمبالغ طائلة من المال، وكانت مضطرة إلى السفر،
وإغلاق الكازينوا لشهور، وكانت النوادى الليلية تتخاطف فيها «بنات»
بديعة.
وفى إحدى هذه المرات التى سافرت فيها بديعة لثلاثة أشهر، قبل هذه
المرة بعامين، عملت تحية بالإسكندرية فى كازينو ببا عز الدين، وكان
أنطوان هو الذى تعاقد مع الشلة -تيتى وجينا وجمالات وتحية- لكن
تحية هذه المرة لم تتلق عرضا بالعمل فى أحد النوادى الليلية، بل
كان العرض للسفر إلى الخارج.
قال لها مسيو فيتاسيون: «تسافرى بيروت يا توحة؟!».
وقالت تحية: «أسافر!».
كان فيتاسيون هذا هو مدرس اللغة الفرنسية الذى عهد إليه سليمان
نجيب بأن يدرس اللغة الفرنسية لتحية، وكان يعرف قيمة هذه البنت
التى كانت تتورد مثل زهرة طازجة فى عالم الفن، وعندما ركبت تحية
السفينة لتغادر مصر لأول مرة، لم تكن تعلم أنها سوف تلتقى أعظم
خبرات الفنان، بالناس خارج وطنه، بالدنيا كلها.. ولم تكن تعلم أيضا
أنها سوف ترفض الرقص أمام ديكتاتور تركيا، الذى كان اسمه يدوى فى
الدنيا بأسرها لكل ما كان يفعله فى تلك الأيام.. لم تكن تعلم أنها
سترفض الرقص أمام كمال أتاتورك، لأنه أهان السفير المصرى، ولم تكن
تعلم أنها ستمنع من دخول تركيا أيضا!
لم يكن فيتاسيون فقط هو الذى عهد إليه الفنان نجيب بتعليم تحية. إن
الفنان يريد أن ينحت تمثاله بحيث يأتى إلى الناس كاملا من جميع
الوجوه، وكان التمثال مصنوعا من خام طيع، كان يستجيب بلا مناقشة،
ويستجيب بالمناقشة، ويستجيب إن لزم الأمر بالخناق.. لكنه كان
يستجيب فرحا، لأن استجابته نوع من الإحساس بالتمييز، كانت تحية
كاريوكا بالفعل متميزة عن الأخريات، كان ذهابها إلى مدام رطل
لتدريب مهارتها يعذبها أشد العذاب، لكنه جعل نطقها سليما عن
الأخريات، وكانت سونيا إيفانوفا، نافذة أطلت منها تحية على عالم
ساحر، هو عالم الفن الحقيقى، عالم الفن المرتكز على أصول تحول
الإنسان فى حركاته، من رقص، إلى ملاك يسبح فى الهواء!
لقد جعلت علاقة سليمان نجيب منها فتاة أخرى، ولقد كان للأخريات
علاقات، لكن هذه العلاقات لم تقدهن إلى مدارج الأرستقراطية
المصرية.. يكفى أن سونيا إيفانوفا، مدربة الرقص الشهيرة، كانت تدرب
بنات العائلات فقط، لم تفتح مدرستها لكل من هب ودب، بل لكل من يريد
أن يرتقى بإحساسه وذوقه، ولكل من يستطيع أن يدفع أيضا!!
وفى البداية.. كان سليمان نجيب هو الذى يدفع.
فى البداية لم يكن فى مقدور تحية كاريوكا أن تدفع أجر سونيا
إيفانوفا، لكنها ما إن كسبت بعض المال، حتى دفعت، بمنتهى الشهامة
والإحساس بالكرامة. إن أكثر ما تميزت به تحية كاريوكا فى تلك
الأيام أنها لم تجعل سليمان نجيب سلما ترقى فوقه إلى حيث المجد
والشهرة والمال، احترمته وأحبته وأحبت رغبته فى صقلها فصنعت منه
عكازا يقودها إلى بعض الطريق!
عند سونيا كانت تحية تمنع من التدخين، الراقصة والمغنية ممنوعتان
من التدخين، ولم تجرؤ تحية، التى أصبحت تدخن فى تلك الأيام، على أن
تشعل سيجارة عند سونيا إيفانوفا.. وكانت تؤدى التدريب الشاق فى صبر
وعذاب، قالت لها سونيا إيفانوفا أنها تعدت العشرين، ولم تعد صالحة
إلا لمرحلة معينة من التدريب فقط، لأن عظامها لن تساعدها على بقية
المراحل.. فلم تغضب تحية، ولم تحزن، واقتنعت بما تستطيعه، ومها
كانت مشغولة، فهى بعد التدريب تأخذ دشا ساخنا، ثم تشرب كوبا من
عصير الليمون الساخن، ثم ترتاح لمدة ساعة.. بعدها كانت تستطيع أن
تذهب، وأن تدخن، وأن تشرب كأسا إن أرادت!
ذات يوم جاءها فيتاسيون:
«مدموازيل تحية.. تسافرى بيروت؟!».
كان السؤال مفاجأة، إن مصر لا تصدر إلى الخارج سوى قمم الفن فيها
فقط، يوسف وهبى، ونجيب الريحانى، وبديعة مصابنى، ويوم جاءها
فيتاسيون بسؤاله لم تكن بديعة فى مصر، كانت قد سافرت مع المطربة
نادرة إلى المغرب، وكانت الرحلة ستطول إلى شهور عديدة، وكانت تحية
تشعر بمدى الفارق بين كازينو بديعة والنوادى الليلية الأخرى، كانت
تشعر بالفرق من حيث مستواها الذى كانت تعرف قيمته.
قالت بعد لحظة تفكير:
«حارقص عند مين؟!».
«عند مدام بلانش!».
ولم تكن تحية تعرف من تكون مدام بلانش هذه، لكنها وافقت، خصوصا
عندما قال لها فيتاسيون:
«حتاخدى فى الليلة خمسة جنيهات!».
ولم تمض أيام حتى كانت تركب الباخرة، لتغادر مصر لأول مرة، وكانت
فى الطريق إلى بيروت.
■
■
■
الذين عرفوا تحية كاريوكا جيدا، والذين عاصروها وتعاملوا معها،
كانوا يدهشون لذلك السحر الذى تجذب به ابتسامة هذه الفتاة كل
القلوب.. كانت تحية كاريوكا صادقة، لم تتصنع الأرستقراطية رغم أنها
داست أرض هذه الطبقة، ولم تلو لسانها بالكلمات الفرنسية كى تتعالى،
وإن كانت تتقن الفرنسية.. كانت تحية بنت بلد، حتى وهى تنطق
الفرنسية، وكان صدقها هذا يحبب فيها الناس والقلوب.
تركت نفسها على سجيتها، فلم تتصنع، وكان ظهورها فى بيروت بهذه
الشخصية المتميزة قنبلة انفجرت فى الأوساط التى تعودت على بنات
أوروبا، أو المتفرنجات من بنات العرب.. وبهرت تحية جمهور بيروت
فنجحت نجاحا شديدا، وارتفع أجرها فى أسابيع قليلة، وبعد انتهاء
العقد بينها وبين مدام بلانش، من خمسة جنيهات فى الليلة الواحدة،
إلى مبلغ لم تحلم به حتى ذلك الوقت، إلى مئة جنيه فى الليلة!
ووجدت الفتاة، التى هربت من الإسماعيلية حافية القدمين قصيرة الشعر
معها قرشان فقط، وجدت نفسها بعد أقل من خمس سنوات، تتقاضى فى كل
ليلة ألوف الليرات، رزم من الورق الذى يشترى كل شىء، وجاء عليها
وقت لم تكن تعرف كيف تعد كل هذه الألوف!
بعد شهر فى بيروت جاءتها مدام بلانش هامسة:
«مدموازيل تحية.. تسافرى تركيا؟!».
ولم تتردد تحية هذه المرة كما فعلت فى المرة الأولى، بل قالت:
«أسافر!».
لكنها عندما قالت هذه الكلمة، لم تكن تعلم -يقينا- أنها تخطو فى
الطريق إلى أعظم دروس الفنان، فى طريق سوف تعود منه إنسانة أخرى،
طريق اكتشفت فيه حقيقة ما كان يريده لها سليمان نجيب، فخفق قلبها
-وما زال يخفق حتى اليوم- عرفانا لهذا الرجل!
فى نحو سنة 1934، وقع حادث دبلوماسى جعل العلاقات التركية -
المصرية تمر بأزمة.
ولقد كان هذا الحادث الذى وقع فى إحدى الحفلات الرسمية مثار
تعليقات الصحف والناس لفترة طويلة.
كان مصطفى كمال أتاتورك يجتاح كل يوم ماضى تركيا فى ثورة عارمة،
كان يريد لتركيا أن تتغير وأن تلحق بالدول المتقدمة، بعد أن شاخت
وهرمت كإمبراطورية، فراح يغيرها بالعنف.
تحولت اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، وحرم
أتاتورك، ضمن محاولته للتغيير، لبس الطربوش، وأصدر قانونا بإعدام
كل من يرتدى الطربوش.
وفى إحدى الحفلات الرسمية التى حضرها أتاتورك، كان كل سفراء الدول
موجودين، وكانوا- كما هى العادة- قد تركوا قبعاتهم فى الاستقبال،
كانت رؤوس الجميع عارية، عدا رأس السفير المصرى، عبد الملك حمزة
باشا، الذى كان متوَّجًا بالطربوش.
كان أتاتورك عنيفًا، وحشى التصرفات، وصِفتُه واحدة من الذين أرّخوا
لحياته باسم «الذئب الأغبر»، وكان هذا هو عنوان الكتاب، وفى تلك
الليلة كان منظر الطربوش مستفزًّا للرجل الذى كان يعدم كل من
يرتديه من مواطنيه.. وعندما حانت الفرصة واقترب أتاتورك من السفير
المصرى، صاح أمام كل الآذان والعيون التى كانت تسترق السمع والبصر
حول هذا الرجل الغريب:
«اخلع الطربوش.. اخلع الطربوش!».
وفى ثوان تكهرب الجو كله وساد الصمت القاعة المزدحمة، وجمد السفير
المصرى فى مكانه مذهولا، تردد للحظات فلقد كان تصرف أتاتورك بمثابة
إهانة «للمملكة المصرية»، ثم خرج السفير من تردده بأن خلع الطربوش
فى صمت، ووضعه فوق صينية كان يحملها ساقٍ.. وبعد دقيقة واحدة انسحب
السفير، مع كل أعضاء السفارة من الحفل!
ورغم أن وزير خارجية تركيا لحق بالسفير المصرى بعد دقائق وقدم إليه
اعتذارًا بأن ما فعله أتاتورك كان حركة ودية منه لسفير دويلة
صديقة.. ورغم أن الأزمة بين الدولتين كانت قد مرت، فإنها ظلت فى
أفواه الناس وآذانهم، فلم ينسوها.
وكانت تحية كاريوكا يومَ وضعتْ قدمها فى إسطنبول، تعلم هذه الحكاية
وتحقد على أتاتورك، لأنه فعل ما فعل مع السفير المصرى.
كان الوقت فى رمضان، وكانت تحية تملك ما يكفيها من المال ويزيد،
وكانت مطمئنة إلى فاطمة الزهراء فى القاهرة، لأنها كانت ترسل إليها
ما يكفيها ويفيض.. وقبل الغروب كانت تسير فى شوارع إسطنبول، وتتفرج
على الطعام الذى كان يعرض فى الفتارين، وتسر بكل لحظة تقضيها،
وتنجح كل ليلة عندما ترقص، وتذهل الذهول كله.. لاحترام الناس للرقص
الشرقى، وحبهم له.
تركت تحية وراءها فى مصر عشرات الراقصات، ووجدت حولها فى بيروت
عشرات مثلهن، لكنها لم تجد فى إسطنبول من تستعد لأن تتقن مثل هذا
النوع الفريد من الرقص، ذى الخليط من الرقص الشرقى وإيقاع
الباليه.. انسياب الجسد واتساق حركته.. نجحت تحية فى إسطنبول حتى
جاءها المتعهد ذات يوم يفرك كفيه فرحًا: إنها سترقص أمام كمال
أتاتورك نفسه!
«لأ.. مش حارقص!».
(45)
ها هى تعود إلى الوطن من جديد، مضت الأشهر الثلاثة كلمح البصر، وها
هى تجلس مرة أخرى إلى الأستاذة، وكأنها كانت تجلس معها بالأمس
فقط.!!
«احكى لى يا بت.. عملتى إيه؟!».
وجلست تحية لتحكى كل شىء لبديعة، عادت بذاكرتها إلى الوراء قليلا
فإذا هى تعيش النجاح فى بيروت، ورمضان بكل تقاليده فى تركيا،
وفيتاسيون معها فى رومانيا، وفى هنجاريا، وفى النمسا.. بين الثلوج
وفى بلاد الخواجات، حيث يحترم الناس الفنان احتراما شديدا.. حيث
واجهت الجمور لأول مرة وحدها، بلا بديعة، أو حتى سمعة بديعة.
وكانت بديعة سعيدة كل السعادة، أن الانسان يشعر فى مثل هذه اللحظات
أنه صنع شيئا، نحت تمثالا عظيما، قدم للعالم فنانا جديدا وقادرا..
وبالأمس فقط، بالأمس القريب، كان هذا الفنان قطعة من الماس، مدفونة
فى قلب الناس!
سألتها بديعة: «والصاجات، اتمرنتى عليها ولا لسه خايبة فيها؟!».
وصاحت تحكية: «لسه خايبة فيها!!».
وغرقت الاثنتان فى الضحك.. وصمتت بديعة برهة ثم رفعت رأسها نحو
تحية وهى تقول:
«ولا يهمك.. أنا حادق لك الصاجات!» ودق قلب تحية بعنف..
دق قلبها حتى كاد يتوقف.. فلم يحدث فى تاريخ بديعة كله، أن وقفت
هذه الفنانة العظيمة صاحبة المدرسة التى اكتسحت مصر أيامها
اكتساحا، لتدق الصاجات لواحدة ممن تخرجن فى أكاديميتها!!
وبالأمس.. بالأمس القريب جدا، كاد يتوقف قلب تحية، عندما وجدت أن
عليها أن ترقص بدلا من بديعة.
هذه حكاية لا بد أن تروى وأن يتذكرها المرء.
قبل شهور من ذلك اليوم، كانت بديعة قد استأجرت واحدًا من أشهر
مسارح مصر فى ذلك الوقت، وهو مسرح برنتانيا.
وكان المسرح يقع خلف صالة بديعة فى عماد الدين مباشرة، وكان يكفى
أن تهدم الحائط فى ما بين المسرح والصالة، حتى تصبح الكواليس
لكليهما.. ولم تستأجر بديعة هذا المسرح لتوسع نشاط الصالة، وهذا هو
الغريب فى الأمر، بل لتقدم فيه عرضا فنيا صرفا، عرضا غنائيا راقصا
متقنا.. وكان على البنات أن ينفذن من المسرح إلى الصالة، يقدمن هنا
رقصة، وهناك رقصة، ولقد نظمت بديعة العمل فى المكانين دون أن ترهق
الفتيات اللاتى كنّ يلمعن بسرعة شديدة ويصبحن نجمات لهن وزنهن
وثمنهن.. وكان يوم افتتاح المسرح حافلًا.. حشدت بديعة للافتتاح كل
ما لديها من إمكانيات، كانت تقدم تابلوهات راقصة وغنائية مع
إبراهيم حمودة وفريد الأطرش، وكان هناك محمد فوزى وسامية جمال
وفتحية شريف وثريا حلمى وإسماعيل ياسين، وعشرات من الأسماء التى
أصبحت اليوم أسماء لها وزنها الكبير فى هذا النوع من الفن.. وانتاب
الجميع ذلك الإحساس الغامر بالحماس والنشوة والسعادة، واستمرت
البروفات شهرًا كاملًا استنفد فيه الجميع ما لديهم من إمكانيات،
وغمرت شوارع القاهرة الإعلانات عن العرض الجديد.. كانت مصر تستقبل
مع العالم نذر الحرب العالمية الثانية حقًّا، لكنها كانت قد غرقت
تماما فى مضاربات بورصة القطن، وكراسى الحكم معًا، وأصبحت فى حاجة
إلى مكان أوسع وأرحب.. وذات يوم عرض عليها أولاد جعفر أن تشترى
كازينو أوبرا، وكان العرض سخيا، ذلك أن موقع كازينو أوبرا إلى
الميدان موقع فريد، ولجأت إلى تحية:
«توحة.. تشاركينى؟!».
«أنا حارقص عندك بس، أنا ماليش دعوة بالفلوس!».
«تاخدى 25٪ من الكازينو!».
«ولا مليون فى المية!».
«طب أربعين فى المية!».
«لأ!!».
وهكذا فى حسم قررت تحية أن لا تدخل غمار المال، كانت المئات تجرى
بين يديها بلا حساب، وما إن مضى عام واحد على هذا العرض حتى كانت
تحية صاحبة لشركة سينمائية!».
كانت كاريوكا.. قد أصبحت كاريوكا. |