ثلاثية الفقد والغربة والحنين في فيلم "حلبجة"
عدنان حسين أحمد
بالتعاون مع مهرجان لندن للفيلم الكردي نظّم الأستاذ حسين دزئي
عرضاً خاصاً في جامعة "سواس" البريطانية لفيلم "حلبجة: الأطفال
المفقودون" للمخرج الكردي السوري أكرم حيدو وذلك لمناسبة الذكرى
السادسة والعشرين لفاجعة حلبجة. وقد حضر العرض جمهور نوعي من
جنسيات مختلفة تفاعلوا مع ثيمة الفيلم وتأثروا بأحداثة المؤلمة
التي سنتوقف عندها بالتفصيل.
لم يخض المخرج أكرم حيدو تجربة الفيلم الحربي، ولكنه كان مُصراً
على أن يتخذ من تداعيات الحرب موضوعاً لفيلمه الوثائقي الذي بلغت
مدته (72) دقيقة. كما أنه لم ينطلق من الماضي الذي يمتد إلى واحدٍ
وعشرين عاماً بالتحديداً، وإنما شرع في رصد هذه القصة الدرامية
المؤلمة من نهايتها تقريباً بعد عقدين وسنة كاملة من وقوع الحدث
الجلل الذي تمثل بقصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية في 16 مارس
1988.
لقد ارتأى المخرج أن ينطلق من الحاضر حينما قررت السيدة جنار سعد
عبدالله، وزيرة شؤون الشهداء والمؤنفلين في إقليم كردستان إجراء
فحص الحمض النووي
DNA
لعلي من جهة، وللعوائل الخمس التي تدعي أن "علياً" يمكن أن يكون
ابنها من جهة أخرى، معتمدين في ذلك على عمره المقارب لأعمار
أبنائهم المفقودين، ولبعض أوجه الشبه في معالمه الخارجية التي
يحتمل أن تحيل إلى أحد هذه العوائل الخمس.
تقنية الزمن المقلوب
لقد انتقى المخرج أكرم حيدو حدثاً واحداً ستتشظى منه كل الأحداث
التي تابعناها في الفيلم وهو حدث ترك الأم لطفلها الرضيع زمناكو
الذي لم يجتز شهره الثالث بعد وخروجها إلى الشارع كي تنقذ شقيقه
الأكبر لكنها سقطت مغميةً عليها وسوف تجد نفسها في مستشفىً بمدينة
كرمنشاه الإيرانية، لكن هذا الرضيع زمناكو الذي تُرك ملفوفاً بقطعة
قماش في المنزل ستُكتب له الحياة حيث ينقذه الجنود الإيرانيون ويتم
نقله إلى مدينة مَشهد حيث تتبناه سيدة إيرانية وتقوم بتربيته على
أكمل وجه ولا تخبره بقصة تبّنيه إلا بعد ست عشرة سنة. وحينما تتوفى
أمه الإيرانية، إن صحّ التعبير، يقرر العودة إلى وطنه الأول بهدف
البحث عن عائلته التي لا يعرف عنها شيئاً سوى بعض الأخبار
المتناثرة التي جمعها من هنا وهناك.
وبغية تشويق المتلقي ووضعه في دائرة الشدّ والترقب والانتظار يعمد
المخرج أكرم حيدو إلى تقديم بضع لقطات تأسيسية لمدينة حلبجة
المنكوبة ثم نرى علياً وهو في طريقه إلى مقبرة شهداء حلبجة، التي
(يُمنَع فيها دخول البعثيين) حيث يقف أمام شاهدة أحد القبور
المكتوب عليها اسم "خه رمان محمد أحمد" بعد أن شطبوا اسم زمناكو
محمد أحمد وهو اسمه الحقيقي الذي سُمِّي به في حلبجة، أما علي فهو
الاسم الذي أطلقته عليه السيدة الإيرانية التي تبنّته وأحسنت
تربيته وتعليمه.
أراد المخرج أكرم حيدو أن تكون قصة علي أو زمناكو لا فرق، هي
البؤرة التي تتشظى منها الأحداث لكي نطل، نحن المشاهدين، ليس على
العوائل الخمس التي تتمنى أن يكون علياً هو ابنها المفقود، ولكن
على بقية الشخصيات التي أثثت هذا الفيلم الوثائقي وهي كثيرة بمكان
بحيث لا يمكن الوقوف عندها جميعاً، فالمحنة واحدة والنتائج متشابهة
فحتى الشخص الذي جلس إلى جواره مصادفة في مقهى شعبية وكان سجيناً
في سجن "أبو غريب" في أثناء الكارثة قد فقد ابنته التي لم تجتز
عامها الثامن.
فهذا الفيلم هو فيلم شخصيات قبل أن يكون فيلماً دكيّودرامياً يجبر
مشاهديه على ذرف الدموع إن لم أقل الانخراط في بكاء حار خصوصاً في
لحظة إعلان الطبيب لنتائح فحص الحمض النووي واكتشاف علي لأمه
الحقيقية التي افترق عنها من دون إرادته لمدة واحد وعشرين عاما.
الشخصيات الإنسانية
لا يمكننا التفريق بين شخصيات هذا الفيلم على الأساس الثقافي أو
المعرفي على الرغم من أهميته، فقد قال المعلم فخر الدين حاجي سليم
وزوجته، أو المرأة "المُنتظرة" الأخرى التي تتنظر قدوم ابنها في
أية لحظة، قالوا ثلاثتهم أشياء بنفس الأهمية على الرغم من أن
المعلّم فخر الدين كان فناناً وقد أضفت أعماله الفنية بُعداً
توثيقياً لم تتمكن بقية الشخصيات من إضفائه أو تجسيده، لكنهن،
وأعني النساء تحديداً قلنَ أشياء لا تقل أهمية عما قاله المعلِّم
والفنان فخر الدين حاجي سليم.
لقد أخد المعلّم فخر الدين حصة كبيرة من الفيلم قد تبزّ حصة البطل
علي، العائد من إيران بعد واحدٍ وعشرين عاما. ولكن لهذا الرجل
محنته التي لا تقل ألماً وتراجيدية عن محنة علي الذي فقد خمسة من
أشقائه ولم يبقَ لديه سوى والدته واثنين من أشقائه اللذين كان يلعب
معهما كرة القدم بواسطة جهاز الـ "پلَي ستيشن". فالمعلّم فخر الدين
فقد اثنين من أبنائه وقد سرد لنا عبر الفيلم كيف أخذت الأم ولدها
الرضيع الذي لم يتم عامه السابع، فيما أخذ الأب بقية الأطفال فـ
"Nejin"
كانت تريد من والدها أن يحكي لها قصة، فيما طلب
"Senger"
من والده أن يغنّي له أغنية لكنه اعتذر عن الغناء لأنّ أمه قد
توفيت قبل مدة قصيرة ولا تزال الأسرة برمتها تعيش مرحلة الحِداد.
كان المعلّم فخر الدين مُشوَّشاً ومضطرباً شأنه شأن كل الناس الذين
يعيشون المحنة في ذورتها، فحينما قال سينكر بأنه جائع نسي الأب أنه
كان يحمل قطعة خبز في جيب شرواله لأنهم يقفون جميعاً على حافة
الموت وخشيته الوحيدة هي أن يفقد طفليه إلى الأبد لكنه سقط مَغمياً
عليه هو الآخر ولحسن حظه فقد استفاق بعد مدة قصيرة، أما غالبية
الآباء والأمهات الذين أغمي عليهم وحينما استفاقوا وجدوا أنفسهم في
مستشفيات مَشهد وكرمنشاه وطهران.
لقد ماتت نيكين بين يديه، كما حاول أن يقوم بعملية تنفس اصطناعية
لسينكر بعد أن شعر هذا الطفل بالاختناق. أرادت الأم أن تقترب من
فخرالدين لكنه منعها لأنه كان يشمّ في المكان رائحة الغازات السامة
وحينما سألته عن الأطفال الثلاثة قال إنهم معه وهم بخير جميعاً.
ثمة إحساس بالذنب يكاد يشعر به جميع الآباء والأمهات لأنهم أغمي
عليهم وفقدوا أبناءهم نتيجة لهذا الإغماء الخارج عن إرادتهم،
ويمكننا أن نستشف تبكيت الضمير لدى زوجة فخرالدين وهي تتحدث عن
ولدها الرضيع ذي السبعة أشهر فقد كانت تحمله بين يديها، وتتذكر
أنها أرضعته قبل أن يُغمى عليها، وحينما أفاقت وجدت نفسها في إيران
وكان طبيعياً أن تسأل عن طفليها الصغيرين ئاژين وره نج حيث أخذت
ابنتها الكبرى الطفل الرضيع من بين ذراعي أمها كي تنقذه لأن الأم
غابت عن الوعي، وهذا فقد تبددت الأسرة برمتها، كما تبددت بقية
الأسر في تيه مطبق وظروف غامضة لم تنجلِ حتى بعد مرور عقدين من
الزمان ويزيد.
واحدة من الأخطاء التي ارتكبها المخرج أكرم حيدو أنه لم يُظهر
للمُشاهدين أسماء الشخصيات المتحدثة، وبالذات العوائل الخمس التي
فقدت أبناءها. فثمة امرأة محجبة فقدت شقيقها وكانت تقارن صوره بصور
علي الذي عاد من إيران وأعتقدت أنه يمكن أن يكون شقيقها، ولأن
الأمر يحتاج إلى حقائق دامغة أبعد من موضوع الشبه في الملامح
الخارجية فقد ذهبت والتقت بعائلته (الإيرانية) وسألت أمه عن عمره
حينما تبنته فقالت إن الأطباء أخبروها بأنه لا يتجاوز الأربعين
يوماً حسب تقديراتهم الطبية لذلك أيقنت هذه المرأة أن علياً ليس
شقيقها، فأخوها المفقود كان عمره سنتين في وقت الحادث وهو بالضرورة
أكبر من علي بعامين.
امرأة طاعنة في السن تشكو من الوحدة، فقد مات زوجها، وأُبعِد كل
أقربائها، وهي تعيش وحيدة منذ سنوات طويلة وتعتمد على الناس
المحسنين في تأمين لقمة العيش، لكنها تخبرنا بأن حياتها قد باتت
قصيرة وأن الحياة التي أمضتها كانت بائسة وتعيسة.
ثمة امرأة متوسطة العمر تسكن عند مشارف حلبجة شرحت ببعض التفصيل
قصف المدينة بالأسلحة الكيمياوية من كل الجهات مُشيرة إلى الخسائر
البشرية الفادحة وذكرت بأن هناك أسرة فقدت سبعة أطفال ولم يبقَ
منها سوى الأب الذي ظل وحيداً ومفجوعاً هو الآخر. ثم تحدثت عن حاجة
المدينة إلى الغاز والكهرباء والمستشفيات وبقية المتطلبات الضرورية
الأخرى.
وعلى الرغم من الوضع المزري الذي يعيشه أبناء المدينة إلاّ أنها
تشعر بالأمان لخلو حلبجة من الجنود العراقيين الذي يشكِّلون خطراً
جدياً عليهم، وتهديداً متواصلاً لحياتهم التي يُفترض أن تكون آمنة
مطمئنة.
ربما تكون "المرأة المُنتظِرة" كما أسميتها لأن المخرج لم يخبرنا
باسمها الحقيقي هي التي تجلّت في كلامها ووصفت مرارة انتظار الابن
المفقود فكلما طرق أحد بابها هبّت مسرعة لأنها تتصور أن الطارق هو
ابنها الغائب، فلقد أدمنت الانتظار الذي أخذ منها مأخذاً كبيراً،
كما أن الابن المفقود كان يعيش في ذهنها ومخيلتها ولا تستطيع أن
تُخرجه من رأسها.
فلاغرابة أن تموت في كل ساعة ودقيقة وثانية تمرّ لأنها لا تستطيع
أن تقطع الأمل نهائياً، فلو كان ميتاً لما تعذبت وعانت ما تعانيه
الآن لأنها ستطوي قضيته جانباً وربما تنهمك بأشياء أخر. فلقد ذهبت
إلى مَشهد وطهران لكنها لم تجد صورة له في المراكز الصحية ذات
العلاقة، ولم تعثر على جثته المستشفيات الإيرانية، ولهذا بقيت
معلّقة بأهداب الأمل متوقعةً عودته كلما طرق بابها طارق عابر.
أما شخصية الوزيرة الشابة جنار سعد عبدالله فهي أنموذج راقٍ
للشخصية الإنسانية التي تتعامل مع أبناء شعبها بهذا الحنوّ الكبير
الذي يكشف عن مستواها الثقافي والإنساني في آنٍ معاً فقد كان
وجودها مثل البلسم الذي يشفي الجراح، وكان حضورها خفيفاً مثل أي
ملاك يهبط عليك من شاهق السماء.
النَفَس التوثيقي
لا شك في أن أي مخرج ناجح يسعى لأن يرتقي بفيلمه إلى مستوى الوثيقة
التي تؤرشف للحدث وتمنحه مسحة فنية إضافية. فما من مخرج وثائقي
يكتفي بتوثيق الحدث وأرشفته بطريقة واقعية دقيقة لأنه سوف يظل
بمنأى عن الجانب الإبداعي الذي هو هدف المخرج الخلاق الذي يحاول
الجمع بين صفتي التوثيق والإبداع، لذلك لجأ أكرم حيدو إلى شخصية
المعلم فخري الدين حاجي سليم لأنه رسّام ونحّات ولديه نَفَس توثيقي
واضح على الرغم من أنه يتواضع كثيراً حتى أنه لا يصف نفسه بالفنان
وأن رسوماته ومنحوتاته هي ليست أعمالاً فنية! ولكن واقع الحال يشي
بقدرته النحتية الواضحة على الحجر والخشب في آنٍ معا على الرغم من
أن نوعية بعض الأحجار لا تصلح للأعمال النحتية لكنه يستعملها لأنها
من محنة حلبجة وكارثتها. فلاغرابة أن نراه يجمع الحصى والأحجار ليل
نهار طاحناً بعضها إلى ذرات صغيرة كي يستعملها كمادة حيّة شهدت
المأساة وتعرّفت إليها من كثب.
كان فخر الدين موطفاً في وزارة التربية لكنه ما إن فقد أطفاله في
كارثة حلبجة حتى قرّر أن ينتقل إلى التعليم، وهو أصلاً يحب هذه
المهنة التي أمضى فيها (37) سنة، لكي يكون وسط طلابه الذين يرى في
وجوههم معالم أطفاله فهو يقول: "إن عيونهم تُشبه عيون أطفالي،
وشعرهم مثل شعر أطفالي، وابتساماتهم تشبه ابتسامات أطفالي"، بل أنه
أحياناً يتماهى معهم وكأنه يرى أطفاله الحقيقيين، لكنه ما إن
يستفيق من حلم اليقظة حتى يكتشف أنهم تلامذته وليس أطفاله الذين
رحلت أرواحهم إلى جوار العلي القدير أو الذين فقدوا في يوم الكارثة
وانقطعت أخبارهم تماما.
لقد طرق فخر الدين كل الأبواب حتى أنه التقى الرئيس العراقي مام
جلال وقد حثّه هذا الأخير على تأسيس جمعية لمفقودي حلبجة بهدف
البحث عنهم وإعادتهم إلى وطنهم.
ما يهمنا في هذا المقام هو انغماسه الفني الموازي لنشاطاته الأخر
الاجتماعية والثقافية المتعلقة بالأطفال المفقودين فقد أراد أن
يوثق كارثة حلبجة مُركزاً فيها على أبرز اللقطات التي ظلت راسخة
الذاكرة الإنسانية مثل مشاهد الآباء والأمهات الذين تساقطوا أمام
أبواب منازلهم وهم يحتضنون أطفالهم الصغار وقد رأينا العديد من
المنحوتات الحجرية والخشبية التي صوّرت هذه اللقطات المأساوية التي
استمد فخرالدين خشبها من أبواب منازل الضحايا أنفسهم ومن الحصى
والحجر المحيط بهم في كل مكان.
لا تقتصر اهتمامات المعلِّم فخرالدين على الجوانب الفنية والثقافية
في هذا المجال ولكنه وسّع من هذه الدائرة ليلامس الجانبين الفكري
والتنظيري حيث أنجز منحوتة خشبية تمحورت فكرتها على أن حزب البعث
هو حزب نازي من وجهة نظره وقد نحت من الحروف الثلاثة لكلمة بعث
صليباً معقوفاً في إشارة واضحة إلى نازية هذا الحزب الذي يتزعمه
طاغية مُتجبِّر لا يجد حرجاً في قصف أبناء جلدته بالأسلحة
الكيمياوية. كما صنع تماثيلاً أخر من أخشاب متنوعة بينها خشب
الرمّان القوي الذي يصمد أمام تقادم السنوات مُجمِّداً فيها، مثلما
يقول، حركتهم الأخيرة قبل أن يفارقوا الحياة.
يعتقد فخرالدين جازماً بأن هناك العديد من الدول الغربية قد ساعدت
النظام العراقي في حربه ضد الأكراد لأن العراق، من وجهة نظره، لم
يستطع أن يُصنِّع إبرة خياطة فكيف يستطيع أن يصنع أسلحة كيمياوية،
ومع ذلك فإن دماء الضحايا الكرد ما تزال معلقة برقاب البعثيين
أولاً وبالشركات الأوروبية التي زوّدتهم بهذه الأسلحة المحرّمة
دولياً.
وتأكيداً على أهمية الهاجس التوثيقي لدى المُعلِّم والفنان
فخرالدين نقول إنه سجّل قائمة بأربعين طفلاً مفقوداً وحينما تمّ
العثور على علي وعاد إلى حلبجة شطب اسمه من القائمة بعد أن وقعّت
وزيرة شؤون الشهداء والمؤنفلين على قائمته التي دوّنها بنفسه،
وأكدت أن علياً لا يزال على قيد الحياة وقد عاد إلى أهله وذويه
ووطنه.
الغربة اللغوية
لا يمكن تصنيف شخصية البطل علي "زمناكو محمد أحمد" تحت عنوان واحد،
فلقد فقد اسمه الحقيقي لمدة واحد وعشرين عاماً ثم استعاده بعد هذه
المدة الطويلة ولو أن أمه كانت تناديه بعلي حتى بعد عودته. كما فقد
أخوته الخمسة، وفقد لغته الكردية التي سوف يستعيدها شيئاً فشيئاً،
فهو يفهم ما يقولونه لكنه لا يستطيع أن يرد عليهم بطلاقة. وأصبح
موزعاً بين لغتين وهما الفارسية والكردية، كما أنه موزّع بين وطنين
وهما إيران وكردستان العراق. وقد حُرم من التعليم الجامعي لأن لم
يمتلك الأوراق الرسمية التي تثبت مواطنته الإيرانية لذلك استأنف
دراسته الجامعية في محافظة السليمانية على أمل الاندماج في المجتمع
الكردي من جديد.
ثمة أفكار قيّمة كثيرة تسربت من علي في أثناء أحاديثة عن النظام
القمعي السابق حيث قال بما معناه: "أنه لا يستطيع أن يقتل ذبابة
فكيف استطاع صدام حسين وعلي حسن المجيد المكنّى بـ "علي كيمياوي"
أن يقتلا خمسة آلاف مواطن كردي بريء غالبيتهم من النساء والأطفال؟"
ثم أضاف: "أنا من جهتي غفرت لصدام حسين وعلي كيمياوي، ولو أنّ أمر
إعدامهما بيدي لما أعدمتهما على الرغم من أنني فقدت أربعة أشقاء
وأخت واحدة!". وأكثر من ذلك لا يرى علي فرقاً بين أن يكون الإنسان
سُنياً أو شيعياً، فقد مُنِح دون إرادته اسماً شيعياً أو يحيل
غالباً إلى هذا المذهب، لكنه لا يجد ضيراً في أن يكون الإنسان
مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، سُنياً أو شيعياً، المهم أن يكون
إنساناً وكفى، مثله تماماً الذي صفح عن قاتلي عائلته وشعبه مخولاً
أمر القتلة إلى الله جلّ في علاه.
لقد عانى علي من غربة لغوية، وغربة مكانية لأنه أُبعد عن وطنه
قسراً في ظل الظروف المفجعة التي أشرنا إليها آنفاً، لكنه لم يعش
الغربة الاجتماعية وقد تلمّس حميمية أهالي حلبجة الذين كانوا
يعاملونه معاملة الابن وفلذة الكبد، وقد شعر بهذه المحبة مع كل رجل
يلتقيه، وكل امرأة يقابلها على قارعة الطريق. وهذا ما خفف عنه
غلواء المحنة التي كان يعانيها طوال مدة غيابه عن الأهل والمدينة
والوطن.
الذروة الدرامية
نادراً ما تتوفر الأفلام الوثائقية على ذروة درامية قوية بهذا
الشكل الذي رأيناه وشعرنا به في فيلم "حلبجة: الأطفال المفقودون"
ربما لأنه فيلم دكيّودرامي أيضاً يتوفر على جملة من عناصر الشدّ
والتشويق والإثارة التي تتوزع على طرفين في آنٍ واحد يتمثل الأول
بعلي من جهة، وبالعوائل الخمس من جهة أخرى، من دون أن نهمل الطرف
الثالث الذي يتمثل بالناس الذين حضروا تلك اللحظة المصيرية
والجمهور الذي يشاهد الفيلم في كل مكان ويصطدم بهذا المشهد الدرامي
الذي يهتز له الضمير، وتتحرك له المشاعر الإنسانية في كل بقعة من
هذا العالم.
فلاغرابة أن تغرق العيون بالدموع الساخنة قبل إعلان نتيجة فحص
الحمض النووي، ثم اللحظة المدوية التي قال فيها الطبيب إن نسبة %98
من نتيجة التقرير الطبي تشير إلى أن علي "زمناكو" ينتمي إلى أن أمه
البيولوجية فاطمة محمد أحمد التي هبّت لتحتضن ولدها المفقود الذي
عاد إليها بعد واحد وعشرين عاماً مقبلةً إياه على وجنتيه وعينيه
وجبينه في مشهد درامي مؤثر أبكى كل من حضر القصة الحقيقية أو شاهد
الفيلم.
وربما كان المُعلِّم والفنان فخرالدين من بين أكثر الشخصيات
المتأثرة التي بلغ انفعالها درجة البكاء بصوت مسموع والصراخ بصوت
عالٍ قائلاً بأنه يشمّ في علي رائحة ابنه المفقود ره نج الذي نتمنى
عودته وعودة بقية الأطفال المفقودين الذين يتراوح عددهم بين 300
إلى 400 طفل آخذين بنظر الاعتبار أن مدينة حلبجة قد فقدت نحو خمسة
شهيد وجريح من أصل "57" ألف نسمة ومازال الكثيرون من مصابيهم
يحملون تشوّهات جسدية جرّاء الغازات الكيمياوية السامة مثل الزومان
والزارين والتابون والخردل، كما أن العديد من النساء قد عانينَ من
الإجهاض والأجنّة المشوّهة والأمراض الجلدية.
لابد من الإشارة إلى أن متحف شهداء حلبجة الذي يضم أسماء الضحايا
الذين سقطوا في هذه الكارثة الإنسانية التي تعرضت لها مدينة حلبجة
قد أخذ نصيبه من التوثيق. فبالإضافة إلى رفع اللوحة السوداء التي
تحمل اسم زمناكو محمد أحمد من باطن هذا النصب التذكاري الذي يوثق
لكارثة حلبجة ويدين وحشية النظام الدموي السابق إلا أن المتحف قد
أخذ حقه كنُصب أيضاً إذ ظهر غير مرة ضمن اللقطات العامة أو
التأسيسية التي شملت المدينة برمتها.
أما اللقطات المتوسطة والقريبة فقد كشفت عن عمق المأساة التي تعاني
منها غالبية شخصيات هذا الفيلم وقد لا أغالي إذا قلت إنَّ شخصيات
المدينة برمتها قد قدّمت تضحيات كبيرة، فلو وزعت خمسة آلاف ضحية
وأكثر من 400 مفقود على عدد عوائل مدينة حلبجة لما سلمت عائلة من
الفقد والمحنة والخسران.
انتقد بعض الصحفيين الذين كتبوا عن الفيلم تغطيات صحفية سريعة
المخرج أكرم حيدو على إطالته في بعض الحوارات التي سببّت الملل إلى
الجمهور، كما يدّعون، وحقيقة الأمر أن الفيلم قد مرّ عليّ شخصياً
مثل البرق الخُلّب في سرعته ولم يتسرّب إليّ الملل مطلقاً، بل كنت
أتمنى عليه أن يسلط الضوء على الشخصيات التي مرّت مروراً خاطفاً
وهي تستحق مساحة زمنية أطول من تلك التي قرّرها المخرج ووجدها
كافية لإيصال رسائلهم.
لابد من الإشارة إلى أن مُصوِّر الفيلم وكاتب السيناريو والمخرج
أكرم حيدو قد نال العديد من الجوائز عن هذا الفيلم من بينها
الجائزة الأولى وجائزة أفضل مخرج في مهرجاني الخليج ودبي وسواها من
الجوائز الأخرى التي يستحقها الفيلم جملة وتفصيلا.
ولابد من التنويه في هذا الصدد إلى المونتيرة البارعة فرانسيسكا
فون برلبش وساندرا هوبنر التي ساعدتها في المونتاج الجميل لهذا
الفيلم المؤثر.
وفي السياق ذاته لابد من الإشادة بجهود جوان حاجو وميخائيل أصلان
في الموسيقى، وصوت رافين عساف، المخرج العراقي المعروف الذي كرّس
عدداً من أفلامه لقضية حلبجة ولعموم المُؤَنفلين في العراق.
وفيما يتعلق بأكرم حيدو فهو مخرج من أصول كردية من مواليد سوريا
1973. هاجر إلى ألمانيا عام 1995 حيث درس تصميم الإعلام الرقمي
والإخراج السينمائي في أكاديمية رور للفنون. يعيش ببرلين حالياً
ويعمل مُصوراً ومُخرجاً ومُنتجاً سينمائياً مستقلاً. وقد أخرج
عدداً من الأفلام نذكر منها "حيث يكون وطني هناك" 2001 و "ديجا فو"
2004. |