في غير زمن الإنترنت، ربما لا تهمّ تلك التفاصيل الصغيرة عن
الفوارق في سيرة الراقصة الراحلة سامية جمال. لكنه زمن الشبكات
الرقميّة. إذاً، لنقرأ.
على صفحة بالعربية في موسوعة «ويكيبيديا»، يظهر تاريخ ميلادها بأنه
27 آيار/ مايو 1924، لكن الموسوعة نفسها تنقل الميلاد إلى 5 آذار/
مارس 1924 في الصفحة الإنكليزية. وتختار الأخيرة غلافاً من مجلة
«الكواكب» في العام 1958، عليه صورة أقرب الى التعبير عن سرّ في
جسد الرقص لدى سامية جمال: الكتف المكشوف والمدفوع إلى الأمام
بدلال وخفّة تتواصل الى الشفتين المنفرجتين بابتسامة فرِحَة.
الأرجح أن تلك الحركة من الكتف ميّزت رقصها عن كثيرات، إضافة إلى
أشياء اخرى كثيرة. ولو أردنا وصفاً موجزاً لطريقة رقصها، لجاء
القول أقرب إلى أنه تموّج يهزّ الجسد الأنثوي بداية من القدم، ثم
ينتقل التموّج في ربع دائرة تتنقل لتدور قليلاً بالورك والخصر، ثم
البطن والصدر، لكنها لا تكتمل إلا بالتلاعب باليدين كثيراً
وكثيراً، قبل ثني الكوع ونقل التموّج إلى الكتف (غالباً الأيسر)،
وبعدها تصل دوائر الرقص إلى الوجه ليكثفها، خصوصاً الشفتين اللتين
تستجيبان زمّاً وانفراجاً، وغالباً مع ضحكة آسرة.
يمكّن هذا التموّج في أقواس تعبيريّة، الجسد من التحرّر في آفاق
الرقص الشرقي، ليعبّر عن فنٍّ راقص أساسه تمكّن المرأة من أنوثتها،
خصوصاً ما يعبّر عن مواطن خصوصية الجسد النسوي في الخصر والصدر. من
ينسى يدي ساميّة جمال؟ لم تكن وحيدة في هذا التموّج الساحر
للكفّين، وهو يتشارك مع الرقص الهندي الآتي من المعابد (وهو شرقي
أيضاً)، في إعلاء شأن الكف واليد في التعبير: وهي رمز العمل
والعطاء والإخلاص والملامسة الحنونة والمداعبة الحميمة وغيرها.
ماضوية الرقص ومنع إبن عربي
عندما انحدر الرقص العربي بداية من سبعينيات القرن العشرين،
بتفاوتات شتى، مالت اللواتي سُمين «راقصات» إلى أداء جنسي يروج
للجسد - السلعة. عدن إلى ما ظنّت راقصات كجمال وتحيّة كاريوكا
ونعيمة عاكف، أنه بات جزءاً من الماضي. ربما بدأ مسار العودة الى
ماضوية الثقافة عربيّاً من الرقص أولاً. ألم تكن تلك الفترة أيضاً
بداية التقهقر المُعبّر عنه في تصويت البرلمان المصري (وهو وليد
تحالف أول بين الساداتية والإخوانية الراجعة من سجون الناصرية)، ضد
طباعة كتاب «الفتوحات المكيّة» للشيخ إبن عربي؟
نسيت راقصات الجنس اليد والكتف. نسين القدم أيضاً، ليركزن على
الفخذ المكشوف والمتصل بانكشافات متعهّرة تحوم حول التوهيم الجنسي،
ولعلها تتجاوزه نزولاً على سلّم استثارة الحيوانية في الشهوة.
كذلك نسيت مدّعيات الرقص القدم، وهي التي كانت بداية سامية جمال.
إذ ذاع عليها لقب «الراقصة الحافية»، في مستهل شهرتها. والحكاية
معروفة. فعندما أعطيت فرصتها الأولى على مسرح كازينو الراقصة
المعروفة بديعة مصابني، استهلّت وصلتها بتشنّج ليس بمستغرب من إبنة
الـ15 ربيعاً.
لاحقاً، قالت أحسّت أن شيئاً كان يكّبلها. فكّر عقلها أن الحذاء هو
قيدها. وفي رغبة جارفة للإمساك بالفرصة التي ربما لا تتكرّر، لم
تتأخر جمال في التخلّص من حذائها على المسرح. وبعدها، تحرّر الرقص
وتموّجاته. وسرعان ما ذاعت شهرتها في القاهرة.
تلتقط الصفحة الانكليزية في موسوعة «ويكيبيديا»، تلك اللحظة لتشير
إلى أنه لم يكن مستطاعاً بقاء السياسة بعيداً عنها. وحينها، في عهد
الملك فاروق، انداحت مساحات كبيرة من التقاطع بين نخب السياسة
والسلطة، بطُرُق أثارت كثيراً من الأسى، مصرياً وعربياً.
سرت إشاعات هامسة، ما يعني أنها مؤثّرة بشدّة، عن علاقاته مع
الممثلة كاميليا، ولاحقته شبهات حول مصرع المطربة أسمهان. مع سامية
جمال، بدا الأمر مختلفاً. وفي 1949، من القرن الماضي، منحها الملك
فاروق لقب «راقصة مصر».
وتستمر صفحة «ويكيبيديا» الانكليزية في الإمساك بهذا الخيط.
إذ ترى أن اللقب الملكي لفت نظر أميركا لهذه الراقصة. المفارقة
الهائلة أن الصفحة العربية من الموسوعة لا تورد شيئاً من هذه
الأمور، كأنها أسيرة الخوف العربي المزمن من السلطة، أو ربما أسيرة
ذكورية لا ترى في الرقص ما «يرقى» لشأن السياسة والملك.
وحي ماري مونتيز!
في مصر، ظهرت في السينما للمرّة الأولى في 1942، في فيلم «ممنوع
الحب» مع محمد عبدالوهاب. ثم وصلت الى النجومية بفضل فيلم «حبيب
العمر» الذي موّله فريد الأطرش من ماله الخاص في 1947. وحاز الفيلم
شهرة هائلة في مصر ولبنان وسوريا وفلسطين. وكونت مع الأطرش ثنائياً
فنياً استعراضياً استمر حتى العام 1952، حين مثّلت معه للمرة
الاخيرة في فيلم «ما تقولش لحَدّ».
وتبدو الصفحة العربية في «ويكيبيديا» تائهة أمام الحقبة الأميركية
للراقصة سامية جمال. إذ انتقلت إلى أميركا. عملت في ملهى. تعرّفت
إلى نصّاب أميركي أوهمها أنه مليونير، قبل أن تكتشف أنه لا يملك
سوى 50 ألف دولار. وصمدت. ونجحت في الوصول إلى العالميّة. أدّت
دوراً أساسيّاً بوصفها مرجانة، في فيلم فرنسي «علي بابا والأربعين
حرامي» (1954) أمام الممثل الفرنسي الشهير فرنانديل. ثمة وقفة
واجبة. إذ جمعها فيلم «علي بابا» مع رشدي أباظة للمرّة الأولى، ثم
تزوّجته بعد 4 سنوات. ويلفت أيضاً أن أداء فرنانديل ربما كان مصدر
إلهام للممثل إسماعيل ياسين الذي أدى أفلاماً كثيرة أمام جمال.
في المقابل، حملها فيلم «علي بابا» نفسه إلى نوع من «المقابلة» مع
الممثلة الشهيرة ماري مونتيز، التي أدّت دور الراقصة مرجانة في
فيلم «علي بابا» في العام 1942! وإضافة الى بعض الشبه جسديّاً بين
مونتيز وجمال، ثمة تأثّر كبير بالممثلة الفرنسية في الصور الفنيّة
التي عُرِفَت بها الراقصة المصرية. ولعل الصورة المنشورة على غلاف
«الكواكب» المشار إليه آنفاً، هي من المؤشّرات على هذا التأثّر
أيضاً. وفي العام 1954، أدّت دوراً قصيراً كراقصة شرقية في الفيلم
الأميركي «وادي الملوك».
وفي مصر، كرّرت سامية جمال دور راقصة البلاط ضمن أجواء «ألف
ليليّة» في غير فيلم كـ«أمير الانتقام» و«شهرزاد» و«زنّوبة» وغيرها.
رقص لأخبار ومواويل
في أميركا، عانت من رجل نصّاب، لم تتعثر بمعاناتها منه. تتكرّر هذه
الترسيمة غير مرّة في حياة جمال. أغرمِت بفريد الأطرش إلى حدّ أنها
كادت تفقد الوعي عندما تحدّثت إليه أول مرّة. ثم أغرِمَت برشدي
أباظة صاحب الوسامة الذكورية الأسطورية التي «خطفتها» من الموسيقار
فريد الأطرش. لكنها لم تسقط أرضاً، لا من عدم وصول علاقتها مع
الأطرش إلى زواج، ولا من أهواء أباظة المتقلّبة. تزوّجت أباظة بعد
أن تقاسمت معه بطولة فيلم بقيت صامدة. رقصت حتى لامست الخمسين
عمراً. ثم توقفت. وعادت بناءً على نصيحة من الممثل سمير صبري.
وعند بداية الثمانينيات، توقف جسد الراقصة الحافية ومرجانة هوليوود
عن الرقص. ولم يتأخر جسد الإنسانة سامية جمال عن اللحاق بهذا
التوقّف. إذ قهرها مرض السرطان في العام 1994، تماماً في سن
السبعين.
مثّلت الخمسينيات والستينيات عصراً ذهبيّاً للرقص الشرقي ونسائه،
خصوصاً الثلاثي تحيّة كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف. في تلك
الحقبة التي بدا فيها الفن حداثيّاً ومنفتحاً على التجريب المبدع
بصورة مفتوحة، ظهرت صورة لكاريوكا وجمال في «الكواكب». قالتا إنهما
تستطيعان الرقص حتى على نشرة أخبار. لعله تصريح يعبّر عن زمن مبدع،
وكذلك عن معنى عميق في الرقص. من يذكر رقص سامية جمال أمام جمود
جسد فريد الأطرش وثبات نغمات مواويله المديدة الآهات، يدرك أن
أجساد تلك الراقصات مارست فنّاً راقيّاً يتفاعل مع معنى الفن
وتمثيلاته وتعبيراته كافة. ألسن قريبات من ذائقة معاصرة تصل إلى
حدّ التعبير عن رسائل الدكتوراه في العلوم بالرقص، كما هو الحال في
أميركا الآن؟ وللحديث بقيّة.
(كاتب
فلسطيني) |