الفيلم اليوناني"نصيب" عن جغرافيا"الأنثى"
رامي عبد الرازق
في ساعة واحدة او اقل (58 ق) استطاعت المخرجة اليونانية القبرصية
الأصل نينا ماريا باساليدو ان تطرح رؤية مكثفة عن الواقع النفسي
والاجتماعي للمرأة في العصر الحديث استغلالا لانعاكس ذاتها
الانثوية عبر المسلسلات التركية التي غزت تليفزيونات العالم خلال
العقد الأخير.
عقب عرضه الأول في اشهر مهرجانات الفيلم الوثائقي
(IDFA)
قدمت المخرجة فيلمها من خلال برنامج قصص تروى
ضمت فعاليات الدورة السادسة عشر لمهرجان سالونيك الدولي لأفلام
التسجيلية(14-23 مارس) واحدث الفيلم صدى واسع نظرا لطبيعة العلاقة
الجدلية ما بين اليونان وتركيا التي كانت حتى قرن واحد فقط تستعمر
اليونان قبل انهيار الخلافة العثمانية وتحرر اليونان.
حيث يتعرض الفيلم في احد فصوله إلى حركات الرفض التي شهدتها
اليونان ضد شبكات التفلزة التي اشترت حقوق عرض المسلسلات التركية
وقامت بإذاعتها على اعتبار أن ثمة اجيال يونانية تربت على كره
الأتراك رغم مرور اكثر من مئة عام على الأستقلال.
على المستوى العربي تأتي اهمية هذه التجربة البسيطة شكلا والمتعمقة
مضمونا في كونها تكشف لنا ان حالة الهوس المجتمعي على مستوى
المشاهدة والتلقي التي شهدناها خلال السنوات الأخيرة لم تقتصر فقط
على الدول العربية ولكنها تجاوزتها إلى اوروبا نفسها رغم الفارق
الثقافي والفكري الكبير بين المتلقي الاوربي والمتلقي العربي.
لكن المخرجة لم تتوقف كثيرا أمام حالة الهوس السطحية تلك، ولكنها
تجاوزتها إلى محاولة تقديم قراءة اوسع لوضع المرأة في العالمين
الشرقي والغربي على المستوى النفسي والعاطفي والاجتماعي رغم
الفروقات الثقافية وذلك عندما تنبهت إلى كون المسلسلات التركية
يمكن أن تمنحها مدخلا لذلك دون افتعال أو لعولمة او حداثة.
الأنثى وجغرافيا المكان
رغم أنها اتخذت شكل الريبورتاج التليفزيوني المنمق والتقليدي إلا
أن المخرجة كسرت هذه التقليدية من خلال انسحابها بشكل كامل من
الكادر ومن شريط الصوت وكأنها تركت الكاميرا أمام الشخصيات
النسائية الائي جلسن ليروين تجربتهن مع المسلسلات التركية ونقول
تجربة وليست شهادة وثمة فارق كبير.
الشهادة هي اقرب لرأي أو وجهة نظر في المادة المعروضة عليه أما
التجربة فهي تفاعل حي بين الشخص وبين المادة ادت إلى حدث ما في
حياته او قرار اتخذ على على وشك أن يتخذ.
ربما ندرك هنا لماذا اتخذت المخرجة من شكل الريبورتاج العادي اطارا
بصريا لها فالشكل عادة ما يتحول في الاعمال الجيدة والناضجة فكريا
إلى المضمون ذاته بشكل ملزم وغير قابل للفصل، حيث افردت الكادر صوت
وصورة إلى المادة المعروضة ونقصد بها المسلسلات التركية وكواليس
تصويرها وصناعها من ناحية ومن ناحية أخرى اختارت نماذج نسائية في
دول مختلفة ثقافيا واجتماعيا لتحكي تجربتها مع تلك المادة بشكل
يحاول ان يرسم في النهاية ملامح لجغرافيا الانثى في العصر الحديث.
لا يوجد صوت فوقي-تعليق-يعلو على صوت النساء الائي يحكين تجربتهن،
أما الانتقالات المكانية بين المدن والدول فتكتب ببساطة على الشاشة
كمعلومة لكنها على المستوى الوجداني تبدو وكأنها تتماهى في عنصر
الجغرافيا الانثوية بنعومة شديدة، تنتقل المخرجة بين القاهرة وابو
ظبي واسطنبول وصوفيا وأثينا، بعض اسماء المدن تحمل اسماء انثوية
بالفعل وبعضها الاخر يحمل صفات انثوية في اسمه، اما على مستوى
الصورة فالكاميرا بمجرد الانتقال من مدينة إلى اخرى تتابع مباشرة
النساء والفتيات في تلك المدن وكأنها تقدم لنا الأنثى المدينة أو
المدينة عبر الانثى، المكان هنا ليس المدينة على مستوى الموقع
الجغرافي البحت ولكنه الأنثى في المقام الأول، اي مشاعرها وافكارها
وقرارتها وانفعالتها التي تنعكس من خلال تجربتها مع مشاهدة
المسلسلات التركية التي استطاعت محاكاة حالات وجدانية حقيقية من
واقع الحياة برغم من كل ما تتهم به من ميلودرامية ومط وتطويل وتشعب.
نشير هنا إلى ما يبدو من سياق الفيلم أن المخرجة أعتمدت على
اللقاءات التي اجرتها مع انماط النساء المختلفة في الدول الخمس ثم
استحضرت بصريا وتوثيقيا المواد الدرامية التي تحدثوا عنها والتي
تصادف بشكل وثائقي ان كتابها من النساء ايضا.
ما نقصده بالصدفة الوثائقية هنا هو أن يفرز الموضوع عناصر تخص
الفكرة الأساسية او المحور الرئيسي له دون ترتيب أو بحث او تنسيق
مسبق، حيث تصادف وثائقيا أن اغلب الاعمال التي تحدثت عنها النساء
في المدن الخمس هي من تأليف نساء ايضا وكأن الانثى تكتب عن نفسها
او تكتب نفسها عبر هذه الدرامات متعددة الاوجه.
لا تعتبر المخرجة ان انتشار الدراما التركية بين جمهور غالبيته من
النساء بسبب أن كتابها نساء ولا تتوقف امام هذا الامر كثيرا بل
تستغل تلك الصدفة الوثائقية في استكمال الصورة التي بدأتها عن
جغرافيا المرأة خاصة ان الحديث يأتي على لسان نساء-كاتبات-اكثر
ثقافة وعمقا على المستوى الفكري والنفسي.
وما اشرنا إليه بخصوص كون اللقاءات هي تجارب وليست شهادات يتمثل في
عثورها على نماذج صعبة من نساء اتخذن قرارات هامة في حياتهن نتيجة
التفاعل الحي مع شخصيات وأحداث المسلسلات التركية مثل الزوجة
الاماراتية التي قررت رفع دعوى طلاق ضد زوجها الذي طالما دأب على
ضربها ومعاملتها بشكل سيئ وذلك اسوة بشخصية فاطمة في المسلسل
الشهير والتي ترفع قضية ضد من اغتصبوها غير عابئة بمسألة الفضيحة
أو تشويه السمعة ثم تربحها في النهاية ليتحول هذا الربح إلى دافع
نابض في نفسية هذه الزوجة بشكل يجعلها تصر على الطلاق وتفوز به في
النهاية.
هذه التجربة تتماثل بشكل كبير في السياق وتختلف في الشكل مع تجربة
الناشطة السياسية المصرية التي كانت احدى الائي تعرضن لكشوف
العذرية ابان فترة حكم المجلس العسكري في مصر في عام 2011 واستطاعت
رغم مناوئة أهلها ورفضهم الأعلان عن الأمر ان ترفع قضية ضد المشير
طنطاوي وعدد من قادة الجيش وتحويل الامر لقضية رأي عام صدر على
اثرها حكم بعدم شرعية او جواز كشوف العذرية تماما مثلما تحولت قضية
فاطمة إلى قضية رأي عام في المسلسل حتى أن صناع العمل طلبوا من بعض
الجمعيات النسوية أن يشاركن في مشهد ذهب فاطمة إلى المحاكمة فإذ
بهذا الطلب يتحول إلى مظاهرة نسائية ضخمة تعتبر فاطمة-الشخصية
الدرامية- نموذجا للأنثى التي تحارب من اجل حقها.
تجدر هنا الأشارة إلى انه رغم تركيز المخرجة على فكرة جغرافيا
الأنثى إلا أن الرؤية الوثائقية افرزت ايضا مستوى أخرى للفيلم وهو
كيفية تحول الشخصية الدرامية إلى شخصية حقيقية خاصة عندما تبدو
ملامحها الفنية اكثر واقعية وتحققا من ملامح الكثير من البشر ذوي
اللحم والدم.
من الممكن تقديم قراءة اخرى لهذا الفيلم تتعلق بمدى تحقق الشخصيات
الدرامية في الواقع الماعش انطلاقا من الواقع الدرامي الموازي
والمتخيل-ولا نقول المؤلف.
تنجح المخرجة في صهر تجربة الزوجة الاماراتية مع تجربة الفتاة
المصرية مع تجربة زوجة أخرى تركية دفعتها مشاهدة مسلسل"حياة"عن
الفتاة الصغيرة التي تتزوج رجل يكبرها في السن دون رضاها وتعيش معه
عذابات لا نهائية إلى طلب الطلاق من زوجها لأنها لم تعد تحتمل تلك
الحياة، أنها لم تتخذ القرار بناء على تأثرها بقرار البطلة مثل
الزوجة الأمارتية ولكن لان المسلسل وبطلته الصغيرة وما عانته اعاد
إلى ساحات الذاكرة والشعور كل ما كابدته خلال سنوات زواجها الطويلة
فتراكم لديها شعور بأنها لا تريد ان تكمل حياتها على هذا النحو بل
شعرت بمنتهى التآسي على سنوات العمر التي ضاعت مع شريك هو في
الحقيقة عدو وخصم.
نور
قد يبدو تناول المخرجة لتجربة مشاهدة مسلسل"نور"كما يطلق عليه في
العالم العربي أو"جوميز" بالتركية اقل تركيزا على فكرة عرض التجارب
النسائية وأقرب للشهادات ولكننا إذا نظرنا إلى موقعه في التراكم
الفيلمي سوف نجد أنها استهلت به الفيلم كأفتتاحية توثيقية على
اعتبار أن هذا المسلسل كان رأس السهم التي انطلقت من اسطنبول إلى
ما يقرب من 56 مليون مشاهد في العالم حسب بعض الاحصاءات والذي
يعتبر عراب المسلسلات التركية التي جاءت بعده.
ولا يمكن اعتبار حديث المشاهدات المصريات عن مسلسل نور مجرد شهادة
عن هذا العمل الذي حقق نسبة مشاهدة خارقة فقط ولكن المخرجة من خلال
صورة مكثفة ومعبرة ذات دلالات ترتبط عضويا بحديث المشاهدات
المصريات تقدم لنا لقطة جيدة حيث تجلس السيدات يتابعن نور بتمعن
واندماج بينما فوق شاشة التليفزيون الحديثة تظهر صورة زوج احداهن
ويبدو التناقض البصري بين وسامة"مهند" بطل نور ورمانسيته وبين شكل
الزوج ذو النظارة والشنب التقليدي ثم تؤكد المخرجة على هذا التناقض
من خلال حديث السيدات عن كونهن ارتبطن انفعاليا ووجدانيا بمسلسل
نور لأنه قدم لهم وجبة المشاعر ومساحة الأحاسيس المفتقدة في واقعهن
المعاش والتي جسدتها المخرج بصورة الزوج التي التقطاتها بذكاء
وثائقي فوق الشاشة التي تعرض المسلسل.
إذن يمكن اعتبار أن المخرجة لم تتجاوز طبيعة العينات النسوية التي
اختارتها ولم تتساهل في التعاطي مع نماذج تقليدية تحكي فقط عن
المسلسلات التي تعجبها ولماذا.
ونلاحظ ان المخرجة تعيد استخدام هذا الأسلوب عند تصويرها في ابو
ظبي مع الزوجة المطلقة حيث نراها بعد أن حصلت على طلاقها تتحدث عن
الحرية التي حازتها اخيرا والكرامة التي اكتسبتها بينما في الخلفية
اعلان كبير لفتاة جميلة امام مجموعة من السيارات وكأن الأنثى في
المجتمع شئ يتم الاعلان عنه وبيعه وشراءه تماما مثل السيارة.
أما الأنجاز النفسي والوجداني الأكثر نجاحا في هذه التجربة انها
استطاعت ان تدمج كل التجارب النسائية المروية أمام الكاميرا على
خلفية المسلسلات التركية بشكل ينحت الاختلافات ويجردها برقة وبساطة
حتى يبدو في النهاية وكأننا امام امراة واحدة تعيش في كل الدنيا،
لا اسم لها ولها كل الأسماء(على حد التعبير الشعري للبياتي).
فكما يبدو تأثر المشاهدات المصريات بمسلسل نور وافتقادهن للحب
والمشاعر في مجتمع شرقي متحفظ بدا نفس الأفتقاد وتفاصيله الشعورية
واضحا في مجتمع اكثر انفتاحا وتحررا مثل المجتمع البلغاري، فالحرية
في النهاية هي حرية الروح قبل ان تكون حرية الجسد وحال المشاعر في
صفتها العامة لا فوارق جنسية او دولية فيه وهو ما بلورة بشكل واضح
اللقاء الذي تم مع احد السيدات البلغاريات التي تحكي تجربتها
النفسية مع مسلسل"الف ليلة وليلة"وكيف أنه منحها املا كبيرا في
انها سوف تعثر على الرجل المناسب وحب العمر ذات يوم بعد أن كانت قد
يأست من كثرة الفشل والعلاقات الغير سوية، التجربة هنا نفسية
باطنية على عكس التجارب الاجتماعية الأخرى ولكنها تغطى ايضا مساحة
مهمة من جغرافية النفس الأنثوية التي تتحدث عنها المخرجة.
كذلك لا يمكن اغفال عنصر هام في رؤية المخرجة وهي شمولية الأعمار
والأجيال والمستويات المادية التي انتقلت بينها للتأكيد على وحدة
الأنثى وتجريدها البراق ففي مصر تنتمي السيدات الائي تحدثن عن
تجربتهن مع مسلسل نور إلى مستوى اجتماعي ومادي يختلف عن الناشطة
السياسية التي تتابع مسلسل فاطمة وتبدو اقل منهن وكذلك في اليونان
يبدو الاختلاف واضح في التعاطي مع نساء من اعمار اكبر سنا من أغلب
السيدات في اللقاءات الأخرى وكأنها تنتقل معهن إلى جيل إخر من
النساء يكمل الصورة الذهنية والشعورية لجغرافيا الأنثى وهكذا.
لنرى أننا في النهاية أمام مستويات مادية وجيلية مختلفة تجتهد
لتقديم بانوراما واسعة ومتعددة الزوايا.
يبقى فقط أن نشير إلى أن عنوان الفيلم يرتبط عضويا وروحيا بموضوعه
مستوحيا أسماء المسلسلات التركية الميلودرامية والمؤثرة في نفس
الوقت، فترجمة الكلمة التركية"قسمت"هي النصيب أو الحظ أو الفرصة او
القدر وكلها صفات ترتبط بجغرافيا الانثى على كل المستويات
الاجتماعية والنفسية والشعورية صحيح ان الترجمة الأقرب هي"النصيب"
ولكن تعدد المرادفات يعكس خصوبة المستويات التأويلية للفيلم ومدى
مساهمتها في رسم الخارطة الوجدانية للمرأة في عصرنا الحالي عبر
انعاكساتها التي قدمتها ولا تزال الدراما التركية باقتدار وحميمية. |