أتاح مهرجان أسطنبول لهواة السينما وكذلك للنقاد المهتمين بتطور
الفن السابع فرصة ذهبية لمشاهدة عدد كبير من الأفلام الوثائقية
الجديدة. من هذه الأفلام الفيلم الأمريكي "أغوي ثم أهمل"
Seduced and Abandoned
من أهم العوامل التي تجعل الفيلم عملا كبيرا متميزا يصل للجمهور في
العالم كله، ما يسمى بالعامل الكوني- إذا جاز التعبير- أي حسب
التعبير الإنجليزي
universal level
أي ذلك النفس البعيد الذي يجعل الفيلم- سواء كان روائيا أم
وثائقيا- ينجح في لمس مشاعر الجمهور في بلدان العالم المختلفة مهما
كان موضوع الفيلم مغرقا في "المحلية" أو يتناول موضوعا يبدو للوهلة
الأولى، ضيقا، محدودا. إن هذا العامل هو ما يجعل أفلاما كثيرة
تعمقت في مواضيع محلية، تصل للعالم كله وتصبح بهذا المعنى
"عالمية". إنه أمر شبيه بروايات ماركيز وموسيقى شوستاكوفيتش ولوحات
رينوار ومسرحيات شكسبير.
وفيلمنا هذا من تلك الأفلام، فهو ليس فيلما وثائقيا تقليديا يركز
على المعلومات وتحليل المواقف المختلفة التي تدور حول قضية محددة
ذات صلة بالواقع، بل هو بحث يتخذ شكل الرحلة، رحلة التنقيب التفتيش
داخل العقول، عن معنى الفن، عما يدفع الفنان دائما للبحث عن الصعب،
عن الرغبة في التحقق من خلال الإبداع، والمعوقات العملية المعقدة
التي تقف في سبيله، وذلك من خلال موضوع يدور حول البحث المضني من
جانب مخرج معروف هو الأمريكي جيمس توباك
James Tobac
عن منتج يقبل تمويل مشروع فيلمه الروائي الطموح الذي يرغب في
تحقيقه مع الممثل أليك بولدوين
Alec Baldwin .
يهبط الرجلان على مهرجان كان السينمائي عام 2012، للبحث عن ممول
يقبل تمويل فيلم ينسج على غرار الفيلم الشهير "التانجو الأخير في
باريس"، فيلم تدور أحداثه في العراق فيما بعد نهاية الحرب الأخيرة
التي أسقطت نظام صدام حسين، ويحمل عنوان "التانجو الأخير في تكريت"
على أن يقوم الممثل أليك بولدوين بالدور الذي قام به مارلون
براندو، وتقوم الممثلة نيف كامبل بالدور الذي قامت به ماريا
شنايدر. ورغم الجرأة المفترضة في الفيلم الجديد إلا أنه سيكون من
الأفلام الفنية التي لا تسعى وراء الربح بأي طريقة بل سيعبر عن
موقف فكري من الحرب ومن الحياة والموت ومغزى أن تكون النهاية في
العراق.
هذه الفكرة تظل مجرد فكرة في رأس المخرج وبطله، فهي لم تتحول بعد
إلى سيناريو، والبحث عن منتج يقبل تمويل فيلم كهذا يفضي إلى التوقف
أمام علاقة الفن بالمال، وتأثير المال على السينما، وعلاقة مهرجان
كان السينمائي برجال المال في هوليوود، وتأثير المهرجان على
التسويق والتمويل ودوره في عقد الصفقات الكبيرة.. كل هذه الأفكار
يتم تناولها من خلال البحث المضني للرجلين عن ممول لفيلمهما وخلال
ذلك البحث يقابلان الكثير من الشخصيات الشهيرة في عالم هوليوود
والسينما العالمية التي كانت حاضرة في المهرجان الشهير.
هناك نوع من "المعابثة" أو السخرية الواضحة في طريقة تناول
الموضوع، لكن هذه السخرية تخفي إحساسا عميقا بخيبة الأمل فيما آل
إليه الفن السينمائي، بعد أن تحول الفيلم إلى سلعة، وظلت قضية
التمويل الشغل الشاغل لأي فنان حقيقي. وتأكيدا على هذه الفكرة يبدأ
الفيلم بالمقولة التي سبق أن رددها السينمائي الكبير الراحل أورسون
ويلز الذي قال إن الفنان ينفق 95 من وقته وجهده في البحث عن المال،
و5 في المائة فقط في إنجاز فيلمه!
البحث عن المال
التلويح بفيلم صريح في مشاهده على غرار "التانجو الأخير"- الذي
يصفه توباك بأنه "مغامرة رومانسية سياسية"- لا يبدو أنها تنجح في
إقناع أي من رجال صناعة السينما الذين يلتقي بهم المخرج والممثل،
باستثمار 15 مليون دولار في المشروع. وعند كل لقاء مع منتج سينمائي
من كبار هوليوود ينتهي الأمر إلى القول بأن فيلما كهذا ليس من
الممكن أن تزيد ميزانيته عن 4 إلى 5 ملايين دولار فقط، مع التهرب
بالطبع من أي التزام محدد. والذريعة أن الممثل أليك بولدوين خرج
منذ فترة، من السينما وأصبح يعمل أساسا، في مسلسلات التليفزيون
الشعبية، كما أن إسم الممثلة التي ستقف أمامه "ليس تجاريا بقدر
كاف"، والموضوع نفسه لم يعد جاذبا للاهتمام، فعمل تنويعة جديدة على
"التانجو الأخير" لم تعد تلقى الجاذبية التي كانت تمتلكها في أوائل
السبعينيات من القرن الماضي.
لا يكف الرجلان عن البحث، عن المغامرة بطرح أسئلة صعبة على الكثير
من المشاهير، من الممثلين والمخرجين والممثلات والمنتجين. إنهما
يلتقيان برومان بولانسكي الذي يتذكر علاقته بمهرجان كان كيف بدأت،
وكيف تطورت وتأثير المهرجان على نجاحه ويستعيد تجربته الأمريكية
الأولى في "طفل روزماري" عام 1968، وبرناردو برتولوتشي الذي يتحدث
عن علاقته بالاخراج وكيف أنه كان يتصور بعد أن أصبح كسيحا لا يتحرك
سوى بمقعد متحرك، أنه خرج نهائيا من عالم الاخراج السينمائي غير
أنه عاد وصنع فيلما جديدا (كان يعرضه في مهرجان كان في تلك السنة)،
ويتحدث فرنسيس فورد كوبولا عن علاقته بفيلمه الأشهر "الأب الروحي"
الذي رفعه إلى مصاف الكبار فجأة في هوليوود بعد أن كان مغمورا،
ويتوقف الممثل الذي أصبح نجما أخيرا- ريان كوسلنج- أمام معاناة
الممثل المبتديء خلال الاختبارات التي يمر بها سعيا وراء الحصول
على دور في أحد الأفلام قبل أن يصبح مشهورا، وترحب الممثلة
الألمانية ديان كروجر بحذر شديد بفكرة الفيلم المطروحة لكنها تطالب
بتعديلها.
مهرجان كان
ومن البحث عن التمويل المستحيل من خلال فكرة شبه مستحيلة، يتجه
الفيلم إلى البحث في مهرجان كان نفسه، كيف يملك كل هذا التأثير على
النجوم، وكيف يتعامل مع هذا الزخم عاما وراء عام من خلال مقابلة
خاصة مع تيري فريمو، المدير الفني للمهرجان، كما يبحث في دور المال
في السينما، وتأثيره على الفن نفسه، والعلاقة بين الفنان ورغبته في
التعبير عما يرغب، وبين مبدأ "الربح" الذي يشغل بال المنتج.
لقاءات وحوارات مكثفة مقطعة على مسار الفيلم، واستخدام جيد للايقاع
السريع، الذي يتناسب مع إيقاع مهرجان دولي كبير بحجم مهرجان كان،
وأسلوب إخراج يستخدم تقسيم الشاشة الى أربعة أقسام أو قسمين، نشاهد
ما يجري فيها في وقت واحد، وموسيقى جذابة تغلف الفيلم كله.
يقول مارتن سكورسيزي إنه يتعين على المخرج أن يقاتل بشراسة لكي
يحصل على ما يريده. ويلخص الممثل أليك بولدوين في الفيلم الأمر
بأسره عندما يقول إن الفيلم مثل الغواية، يغويك ثم يتخلى عنك، بسبب
المال.
ومن المال إلى الجانب الأهم الذي يهتم به المخرج جيمس توباك في كل
أفلامه: الموت. إنه يجد علاقة ما بين الفيلم والموت، بين السينما
والمال والجنس والموت. هنا ينتقل الفيلم من خصوصية عالم السينما:
هوليوود، السطح اللامع للأشياء، إلى ما تحت هذا البريق والشهرة
والأضواء.. إلى محدودية الجسد الإنساني ونهايته المحتمة. إنه يتوقف
بالكاميرا أمام الكثير من الشخصيات الشهيرة ليطرح هذا السؤال: هل
سبق ان فكرت في الموت؟ وهل انت مستعد له؟
هذا السؤال غير المتوقع، المربك، ينقل الفيلم نقلة فلسفية نحو
البحث عن معنى لما نفعله، عن علاقة الفنان بالعالم، بعالمه، بمصيره
المرتقب، ما هي فكرته عن الموت، وما مدى تقبله للفكرة من عدمه!
هذا فيلم ممتع في سياق فني خلاب، مع موسيقى السيمفونية الخامسة
لشوستاكوفيتش تغلف معظم مشاهده وتمنحها قدرة على الاستمرارية
والخلود.
إننا نرى تلك الشخصيات الشهيرة التي شغلت الدنيا بأفلامها مثل
بولانسكي وبرتولوتشي وكوبولا وسكورسيزي، بعد أن أصبحوا رجالا
طاعنين في السن حاليا. لقد حققوا الكثير مما كانوا يصبون إلى
تحقيقه، ولكن ماذا كان الثمن، وهل يشعرون بالاكتفاء، وماذا أعدوا
وبما استعدوا للنهاية.. نهاية الفيلم ونهاية الحياة!
هذه التساؤلات المعذبة هي التي تخرج بفيلم يدور حول البحث عن المال
لضمان استمرارية العمل والحياة، إلى معنى أن تتوقف وتسأل نفسك:
وماذا بعد أن تنتهي كل هذه الحمى، وكل هذا السعي للتحقق. ولذلك أرى
فيلم "أغوي ثم أهمل" بمستواه الفني المتماسك وخروجه عن المسار
التقليدي للفيلم الوثائقي، وعدم اكتفائه بموضوعة واحدة مباشرة،
عملا بديعا يبقى في الذاكرة. |