فى إحدى المرات، التقيت الصديق مدحت السباعى، أحد ملوك البهجة،
هالنى أن أرى قدمه اليمنى منتفخة، متورمة، يغلب عليها اللون الأحمر
القانى. استبدل لها فردة الحذاء بفردة شبشب. ركبت معه سيارته،
وبعناء، لكن من دون توجع، أخذ يضغط على دواسة البنزين تارة،
والفرامل تارة أخرى. جلسنا فى مقهاه المفضل. لم يلتفت لكلامى عن
ضرورة الذهاب، فورا، لطبيب.. وكعادته بدد التجهم الذى أصابنى
بالانطلاق فى حكاياته الساخرة، بالغة الطرافة، يرويها على نحو لا
يتأتى إلا من حكاء بالغ المهارة، يلتقط منها المفارقات الكوميدية،
ذات الطابع الموغل فى مصريته، فهو، إلى جانب ثقافته التى لا
يستعرضها أبدا، يعتبر «ابن بلد» بحق، يعرف تشيكوف وهمنجواى، ويتحدث
بحيوية أهالى بولاق والحسين وباب الشعرية.. ولا يفوته، حين يسخر من
أحد أن يندد بنفسه أولا، هى الوسيلة الفعالة لقبول ما يقوله عن
الآخر.
بعد انفصاله عن ناهد فريد شوقى، تزوج وانفصل عدة مرات.. فى إحداها،
سألته عن سبب الطلاق، علما بأنها ذكية ولبقة وحنون. أثار اهتمامى
بقوله «هذه أسباب كافية للانفصال». قرأ فى وجهى مزيجا من الاستفسار
والاستنكار. بطريقته الحماسية، الموجزة، روى الواقعة التالية: لما
عدت إلى البيت، بعد ثلاثة أيام من الغياب، من دون أن أخطرها، وجدت
وجهها محتقنا، غاضبا، مهيئا للشجار. سألتها، على طريقة ذات الرداء
الأحمر.. مال فمك كبيرا يا جدتى، مال عينيك حمراوين يا جدتى.. لم
تستجب لمداعبتى، وباغتتنى بقولها: أى زوجة يغيب عنها زوجها لثلاثة
أيام، ولا تعرف أين هو وماذا حدث له، سيغدو وجهها هكذا ـ استكمل
ضاحكا ـ عندئذ أدركت أنها أذكى وألبق وأحن مما أستطيع تحمله،
وبالتالى كان لابد من الانفصال.. فهل أنا أخطأت؟
طبعا، لم يكن عندى إجابة، وهو يدرك هذا، وبمنطقه الخاص، بمفارقاته
التى تدخل فى باب كوميديا السلوك والمعتقدات، فانفجرنا بالضحك.
مدحت السباعى، اللماح، الذى لا تفوته شاردة، يتسم ببساطة وطيبة
أبناء البلد، لا يغضبك مهما جاء حجم الخلاف معه، بل ينهيه بطرفة
جميلة، أو جملة مرحة تحول أجواء التوتر إلى نوع من الوئام، فحين
ضغطنا عليه بهدف نزع اعترافه بمصادره الأدبية التى لا يشير إليها
فى بعض أفلامه، باغتنا بقوله: كل المبدعين يأخذون من بعضهم بعضا..
«الزميل» وليم شكسبير نهل من أعمال سابقة عليه.
استخدامه لكلمتى «الزميل وليم» كانت كفيلة بنقل روح الحوار من حال
لحال.
فى مشواره الفنى، انعكست روحه المرحة، المنحازة للعاديين من الناس،
فى أعماله التى بدأها بفانتازيا «وقيدت ضد مجهول» 1981، وهو فيلم
يعبر عن حركة بيع ممتلكات الوطن، وسرقتها، ممثلة فى هرم خوفو ـ
شخصيا ـ ونقله إلى المكسيك، ثم سرقة نهر النيل أيضا. المواطن
المصرى صابر «محمود ياسين» الفلاح الشريف، يزج به فى مستشفى
الأمراض العقلية، وبعد خروجه، يصر على فضح السرقات والفساد.
توالت أفلامه: «فقراء لا يدخلون الجنة» 1984، حيث بعض أصداء رواية
«الجريمة والعقاب» لدوستويفسكى.. ثم «الجريح» 1985، المأخوذ عن
رواية «الأبله» لنفس الكاتب الروسى، وفيه يقدم محمد صبحي واحدا من
أفضل أدواره على الشاشة الكبيرة.. كذلك الحال بالنسبة ليسرا،
المتألقة فى دورها كامرأة تنعكس على حياتها أوزار مجتمع، وذلك فى
«امرأة آيلة للسقوط» 1992.. وثمة عدة أفلام تتفاوت قيمتها، ويتفاوت
المستوى داخل الفيلم الواحد.. لكن أحسب أن «خلطبيطة» 1994 هو العمل
الذى يمثل السباعى تماما، ذلك أنه مأخوذ عن رواية قوية، سوداوية
وقاتمة، كتبها فرانز كافكا، بعنوان «المحاكمة»، حيث يجد المواطن
«ك» نفسه مقبوضا عليه ومتهما فى جريمة لا يعلم عنها شيئا.. عند
السباعى، مصبوغة بالكوميديا، وبأداء موفق من محمود عبدالعزيز،
المواطن المسالم، الرقيق، السلبى، الذى يعيش مع أزهار الفل والنرجس
التى يزرعها فى شرفته، وفجأة، يقبض عليه، يهرب، يعيش وجوها متعددة
لمواطنين. إنه فيلم يحتاج لإعادة اكتشاف، شأنه فى هذا شأن مدحت
السباعى، صاحب الإرادة القوية، الذى تعرض لنكبات إنتاجية، يصمد
لها، يتحايل عليها، وينهض من جديد، بإصرار على العمل، تماما كما
أصر على قيادة السيارة، برغم قدمه المتورمة.
سلم إلى دمشق
كمال رمزي
الثلاثاء 20 مايو 2014 - 5:15 ص
فى إحدى لقطات الفيلم، تمتد السلوك الشائكة، المتقاطعة، بكثافة،
لتغطى آلة التصوير، مما يخلف إحساسا أن السلوك القاسية تغطينا،
تهيمن علينا، تحاصرنا.. وفى عمق المجال، ثمة أقدام لحراس، أحذيتهم
الضخمة توحى بالبطش.. ثم، حارس بلا ملامح، أقرب للظل أو الشبح،
يسير على أرضية فناء المعتقل، شاهرا سلاحه. اللون الرمادى، بدرجاته
القاتمة، يغلف المكان. يقطع الصمت صوت آمر يقول «نزل راسك». لا نرى
الآمر ولا المأمور، كأننا نحن المقصودين بتلك الكلمتين اللتين
تعبران عن روح القمع وتنذران بالشر.
هذه واحدة من لقطات أحدث أعمال مخرجنا السورى الموهوب، عاشق
السينما، عقلا وقلبا، صاحب الأفلام القليلة، كما، الآسرة، المؤثرة،
كيفا حقق من قبل، الروائيان «أحلام المدينة 1984»، «الليل» 1973،
فضلا عن ثلاثة أفلام تسجيلية: «القنيطرة» 1974، «المنام» 1988،
«باب المقام» 2005.. كل عمل من هذه الأعمال، يعتبر حدثا ثقافيا،
فإلى جانب قيمتها الفنية، الجمالية، تُعد شهادات يقظة، لمراحل
تاريخية متوالية، يمتزج فيها العام بالخاص، وتتصادم الآمال مع
الحقائق.
محمد ملص، ابن القنيطرة المدمرة، بفعل العدو الإسرائيلى، يعيش فى
دمشق، يعشقها، يخفق قلبه الجريح مع أحلامها الموءودة.. يبدأ العمل
فى «سلم...» مع اختطاف ربيع ثورة تحولت إلى كابوس. يحاول، تذكر ما
كان، ورصد ما يعتمل، وتلمس ما تخبئة الأيام القادمة.
لذا قد تبدو حمولة الفيلم ضخمة، ثقيلة وبالغة السخاء فى آن،
وبالتالى تحتاج متابعته إلى تهيؤ نفس يتضمن وعيا من المشاهد الذى
عليه إدراك أنه إزاء عمل ليس لمجرد المتعة، ولكن للتفكير والتأمل
والمشاركة.
فى بيت دمشقى عريق، دافئ وحميم، صاحبته، الطيبة العجوز، تؤجر
حجراته لسوريين من مختلف الأماكن والطوائف والثقافات. موزاييك بشرى
يكمن سحره فى تنوعه. سكانه، بينهم من يدرس الطب، ومن يمارس فن
النحت، ومن يعزف الموسيقى، ثم الواقد، عاشق الفن السابع الذى يطلق
عليه جيرانه اسم «سينما».. ومعه الفتاة الرقيقة، هاوية التمثيل
«غالية»، التى رحلت عنها صديقتها «زينة» انتحارا، عقب اعتقال
والدها.
أوضاع الاستبداد، وهاجس الاعتقال والإحساس بالاختناق، كلها تتوافر
فى الفيلم وتتبدى على نحو إيحائى فى نوافذ البيت حيث تتقاطع قضبان
الحديد، بالإضافة للأبواب الموصدة بكل ما تحمله من معانى النواهى
والممنوعات.. أبواب لا تفتح، منذ سال الدم من رأس أحد طفلى «أحلام
المدينة» وهو يضرب الباب برأسه، حتى كف بطلة «سلم..» الدامية وهى
تطرق الباب الفولاذى.. ملص، شأن أبطاله، يحس الأشياء بقوة، يتبين
معانيها، يجيد استخدامها، فالماء المتدفق من الصنبور، داخل البيت
الدمشقى، يبعث قدرا من الطمأنينة.. لكن مع القصف فى الخارج، تهتز
الأوعية بما تحمله من ماء، تعبيرا عن اهتزاز الحياة.
تندلع الثورة، نستمع لصوت المواجهات. مؤثرات صوتية تغنى عن صور
الجرحى والموتى.. أسباب الثورة متوفرة، فكما يقول أحدهم، ما معنى
وما الهدف من اعتقال شباب فى مقتبل العمر، لسنوات ليست قليلة.. وها
هو أحد نزلاء البيت الدمشقى ، يجرى اعتقاله.
تتصاعد الأحداث فى الخارج، تنعكس بالضرورة على الداخل.. وفى نوبة
من نوبات القلق، والرغبة المحمومة فيما تخبئه الأيام القادمة، وعلى
نحو رمزى، يندفع «سينما» إلى سطح البيت، مع رفاقه، واضعا سلما
يرتقيه، يطل على دمشق وسوريا.. لا نعرف ما رآه، فقط نعرف ما
يتمناه، وهو يصرخ بأعلى صوته «حرية».. ملص، فى حواراته المتعددة،
الممتعة والذكية، تحاشى تماما التصريح بما يراه، لا هو ولا بطله..
لكن، نهاية فيلمه تطمن صوت انفجار ضخم، وتغرق الشاشة فى ظلام دامس.
إنها نهاية تعلن، بجلاء، عما لا يريد مخرجنا أن يؤلمنا به.. «سلم
إلى دمشق»، فيلم مهم، مركب، يقول الكثير إنه ليس للمشاهدة العابرة.
الهجاء الظالم
كمال رمزي
الثلاثاء 13 مايو 2014 - 2:55 ص
فى مسلسل «هبة رجل الغراب» نشهد فتاة بخلت عليها الطبيعة بالجمال
ولكن منحتها عطايا أغلى وأثمن من الفتنة الشكلية، من بينها عقل
رزين يفرق بين اللون الأبيض واللون الأسود، قلب عامر بالمحبة
والرضاء. صدق مع الذات ومع الآخرين إخلاص فى العمل جدية لا تعرف
الكلل علم حصلته بدأب شيئا فشيئا بأداء متقن من «إيمى سمير غانم»
تغدو «هبة» فى عيون المشاهدين آية فى الجمال الدافئ حتى إن المتابع
يفتقدها حين تختفى عن عدة مشاهد، ربما يعانى المسلسل من بعض
المآخذ، لكن حسبه أنه يقدم نموذجا يحتذى للبنت المصرية وأسرتها
الصغيرة المكونة من أب طيب يخاف عليها من النسيم وأم يخفق قلبها مع
زوجها وابنتها.
الأم هنا تذكرنا بطابور الأمهات المفعمات بالطيبة على الشاشتين
الكبيرة والصغيرة منذ أمينة رزق وفردوس محمد إلى كريمة مختار
وسميرة أحمد وغيرهن كفتهن هى الراجحة إنسانيا إذا قورنت كما وكيفا
بصورة الأم فى الدراما الأجنبية سينمائيا وتليفزيونيا.
«بنتين
من مصر»، «فتاة المصنع»، «الخروج للنهار»، على سبيل المثال و«ليالى
الحلمية»، «ذات»، وعشرات الأعمال الأخرى قدمت المرأة المصرية
بمتاعبها وآمالها على نحو نابض بالصدق جدير بالاحترام طبعا مثل كل
إنتاج إبداعى ثمة أعمال ضعيفة يشوبها الوهن فى هذا الجانب أو ذاك
وتقع مسئولية تقييمها وربما توجيهها على النقاد.
هذا الكلام بمناسبة توابع القرار الخائب العشوائى بمنع استمرار عرض
«حلاوة روح»، الذى أدى إلى استياء عدد كبير من مثقفين ونقاد وجدوا
قرار المنع من يحرق له البخور باعتباره يقضى على ظاهرة التحرش على
الشاشة الفضية، ويحذر من تسول له نفسه بتشويه صورة المرأة المصرية
وترك البعض قضية المنع المتعسف ليصب جام غضبه المزيف ضد الفيلم.
دخان المباخر تلاشى ودخل «حلاوة روح» ــ مؤقتا ــ فى ثلاجة اللجان،
وفيما يبدو أن شعورا بالذنب أو الخجل، انتاب من آزر مصادرة الفيلم،
ومنهم السفيرة ميرفت التلاوى رئيس المجلس القومى للمرأة، وهى التى
حفزت رئيس الوزراء على اتخاذ قراره الغريب غير المسبوق فى
تاريخنا.. التلاوى اتبعت استراتيجية تهدف إلى توسيع جبهة الصراع
بين الإبداع والأغلال وتمويهه بطمس معالمه فى ذات الوقت، فقالت
كلاما ينسف بعضه بعضا من نوع تدشين «الحق المطلق فى حرية الإبداع
والفكر»، وعلى أن تقوم الدولة بدورها فى الرقابة على الأعمال
الدرامية بعيدا عن التناقض بين الحرية المطلقة، ووجوب تدخل الدولة
لم تقل لنا الأستاذة متى وكيف تتدخل الدولة قبل أو بعد تنفيذ
المسلسل، ومن المنوط به اتخاذ قرار المنع هيئة رقابة أم رئيس
الوزراء؟
فى الاجتماع الموسع الذى نظمه المجلس القومى للمرأة وحضره العشرات
من الكتاب والفنانين من دون أوراق تحدد مسار المناقشات اللهم إلا
العنوان الفضفاض «دور كتاب الدراما فى تغيير صورة المرأة.. كيف
يرونها».. بدت الكلمات المتداولة فى «المائدة المستديرة» أقرب
لحوار الطرشان كل يبكى على ليلاه، فمع قلة الإنتاج بعد الثورة
انطلق من لا يجد عملا، وهذا حقه فى مطالبة الدولة بإنتاج المسلسلات
بادعاء تحاشى الابتذال، ومنهم فى رأى أننا نتعرض لمؤامرات تهدف
لتدمير أخلاقنا الحميدة، لكن الأخطر ذلك الهجوم الذى يبلغ حد
الهجاء، والذى قامت به السفيرة ضد الدراما التليفزيونية والأفلام
السينمائية على نحو يشتت الانتباه بعيدا عن سابقة مصادرة الفيلم من
إهالة التراب على كل الأعمال، بعد أن اعتبرت السفيرة نفسها ناقدة
وباحثة ومتابعة لهذا القول الفصل، فتقول بلا تردد «نعانى من سوء
تناول المرأة المصرية فى الدراما، والصورة فى السينما تعرض المرأة
غامقة جدا».. فهل هذا كلام؟
آمال كبيرة.. فى «الخروج للنهار»
كمال رمزي
السبت 10 مايو 2014 - 8:15 ص
هذا الفيلم المتميز، لا ينتمى إلا لمبدعته، هالة لطفى، بأسلوبها
الخاص، الذى يسرى فى شرايين العمل كله، من أول لقطة حتى النهاية،
فهنا، من الصعب أن تتحدث عن التصوير أو الديكور أو المونتاج أو
التمثيل، كوحدات منفصلة، ذلك أنها، جميعا، تنصهر فى بوتقة الفيلم،
ليقدم حالة، عامة وخاصة، بتوقيع المخرجة، كاتبة السيناريو، المنتجة.
«الخروج
للنهار» يقبل التحدى بقدرته على الالتزام بوحدات الزمان والمكان
والأحداث والشخصيات، فضلا عن أجوائه، ذات الطابع الرمادى، لونا
وروحا وإضاءة، فيبدو كما لو أنه آهة طويلة، صادقة، نابعة من القلب،
فيها من الجلد والصمود، بقد ما فيها من ضيق وعناء.
يستغرق الفيلم دورة شمية واحدة، يبدأ فى الصباح مع فجر اليوم
التالى.. فى المشهد الافتتاحى تستيقظ الشابة سعاد، بأداء موهوبة
اسمها «دينا ماهر»، مصرية تماما، بعيدة عن المواصفات الشكلية
لنجمات يقمن من الفراش بمكياجهن كاملا. إنها، مثل بناتنا، تنهض
منكوشة الشعر، متكاسلة فى البداية، تتجه لسرير والدها المريض،
الغائب عن الوعى تقريبا. تغير له ملابسه المبتلة، بطريقة توحى أنها
تعودت على هذا العمل المتكرر.. تؤديه بلا تذمر ومن دون حماس، تتجه
إلى والدتها «حياة»، بأداء طبيعى من «سلمى النجار»، العلاقة بينهما
بالغة العمق، قليلة الحوار، فثمة تواصل بينهما لا يحتاج لكلام، يصل
لنا، بوضوح، نتفهمه برغم خلوه من الألفاظ.. وعلى طول الفيلم، تتعمد
هالة لطفى الابتعاد عن ثرثرة الحوارات التى تثقل كاهل أفلامنا
المصرية عموما، وهى ــ لطفى ــ تستعيض بالمؤثرات الصوتية بدلا من
الموسيقى المصاحبة، مما كثف الإحساس بواقعية الفيلم، فالأصوات
المتصاعدة من الشارع، والضربات على أنابيب البوتاجاز، ونزول المياه
من صنبور المطبخ، كلها، أصوات نابضة بالحضور والحياة.
تتحرك البنت، والأم، فى الشقة الصغيرة، بعفوية من عاش حياته كاملة
فى المكان. أثاث قديم، متآكل ومهترئ، لا تكاد تغادره كاميرا المصور
المتمكن نشأت رمزى، إلا عدة مرات، وللضرورة.
المكان هنا، بمقتنياته يقول الكثير: الثلاجة الخاوية، إلا من أقل
القليل، كراكيب المطبخ الضيق، الخانق، الجدران الكالحة التى لم
تلمسها فرشة طلاء من زمن.
الأم، بعظام وجهها البارزة، وظهرها المنحنى قليلا، نظرتا المنهكة،
تعبر ببلاغة عن مدى إرهاقها، فى العمل ممرضة فى مستشفى صغير،
بالإضافة لرعايتها لزوجها الذى لا يقوى على الحركة.. إنها،
وابنتها، هما بطلتا الفيلم، وهذا لا يعنى أننا بإزاء «دراما
مغلقة»، ولكن العكس هو الصحيح، فثمة عدة شخصيات ثانوية، وربما
هامشية، وأحيانا لا نراها، تتمتع بحضور قوى، كل ما فى الأمر أن
كاتبة السيناريو، استوعبت فن الاختصار والاختزال، من تشيكوف أدبيا
وفضلا عن مبدعى السينما العالمية.. فى مشهد واحد، يطرق باب الشقة
ابن اخت «حياة»، شاب مجند، طيب وغلبان، جاء حاملا كيس برتقال.
تستقبله سعاد بفتور. يجلس وحيدا، يدرك أن أحلامه فى الارتباط بابنة
خالته لن تتحقق يجز على أسنانه ويكتسى وجهه بالتعاسة.. إنه حكاية.
فى الميكروباص، تجلس إلى جانب سعاد فتاة مضطربة نفسيا، فى مثل
سنها، لا تعمل ولم تتزوج، تظن أن عفريتا أو «جنا» لبسها، وهى،
المحجبة، تنوى الذهاب إلى قس فى حلوان، كى «يفك العمل»، وسواء كانت
صادقة أو نصابة، فإنها أيضا «حكاية»، أو جانب آخر لسعاد، أو مرآة
مشوهة لها، إن شئت الدقة.
ليلا، أثناء عودة «سعاد»، لا يبقى سواها فى الميكروباص. السائق
الملتحى يثير عندها المخاوف، خاصة حين يغير مساره، زاعما أن ثمة
كمينا، وأن رخصه مسحوبة.. وما إن تندلع مشادة بينهما تنتهى فورا
بإنزالها من العربة، ويبدو السائق حانقا على الدنيا كلها. إنه
كذلك.. حكاية.
أما حبيب «سعاد» فإننا لا نراه أبدا، ولن نسمع صوته.. هى فقط تحدثه
من محمول غير محمولها، ذلك أنه لا يرد على رقمها، بعبارات قليلة،
موجزة، نتأكد أنه يتهرب منها. وبلا ألم أو ضيق، تخطره أن ما بينهما
لم يكن قصة حب، وأنها توافق على انتهاء العلاقة بينهما، ذلك أنها
تخلو من الوعود.
ميزة «الخروج للنهار» تكمن فى التفاصيل الصغيرة، المتوافرة فى
الحياة والتى لم تلتفت لها أفلامنا، فعلى سبيل المثال، انزعاج
الابنة من قرح الفراش المتزايدة فى ظهر الأب العليل، والسؤال عن
ثمن المرتبة الصحية، ولحظات الإفاقة العابرة للأب أثناء انطلاق صوت
أم كلثوم، وبينما تؤدى الابنة واجبها تجاه الأب، تسلك الأم ذات
السلوك، بقدر أكبر من الحنو.. الأم، الصامدة، الصامتة، العاملة بلا
كلل، لا ترد على ابنتها عندما تسألها عن مدافن الأسرة، فقط تنظر
تجاه الشرفة وهى تفك قطع القطن كى «تنجد» المرتبة وكأنها تعلق على
السؤال: هل نحن نعيش فى مكان آدمى ولم يبق إلا رفاهية معرفة المثوى
الأخير، مخرجتنا الكبيرة، فى أول أفلامها، تنعش آمالنا بأسلوبها
الساحر، وتمكنها من تقديم عمل ناعم، تعبر فيه عن واقع قاس، تبتعد
فيه تماما عن البكائيات، متكئة على صلابة مصريين منسيين، تقدمهن
هالة لطفى، بتوقير ومحبة.. إنه عمل يستحق التقدير الرفيع الذى
ناله، فى كل مكان عرض فيه.. ويليق بنا، أن نشاهده أكثر من مرة |