مثقف يبحث عن منهجيّة سينمائية جديدة
القاهرة - أمل الجمل
يمكن وصف السينمائي التونسي الشاب حمزة عوني بالمثقف العضوي كما
عرّفه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي. وعلى رغم أنه لا يزال في
أول الطريق، حقّق فيلمه الوثائقي الطويل الأول «جمل البرّوطة»
نجاحات عدة، ما مكنه من أن يواصل الآن العمل على مشروع آخر له كان
قد بدأ العمل عليه منذ عام 2005 في عنوان «المدسطنسي» معتبراً إياه
محاولة لفهم حقبة من تاريخ تونس غير الرسمي من دون إقصاء أو تحامل.
«الحياة» سألته عن تجربته الأولى في محاولة لسبر أغوارها فكان
الحوار الآتي:
·
اخترت لفيلمك عنواناً باللغة العربية هو «جمل البرّوطة»، لكنك كتبت
أسفله بالإنكليزية «الجورت»
Elgort
وكأنها مرادف، أو رمز؟
- «البرّوطة» مكان مغلق دائري الشّكل له باب صغير، وداخله بئر.
يُدخلون إليه الجمل صغيراً ويربطونه بلوح متّصل بالبئر، مهمته
الدوران مغمض العينين لإخراج الماء. وهكذا يقضي الجمل سنوات حياته
في الدوران حتى يهرم، ويعجز كليّاً عن العمل. أما الباب الذي أُدخل
منه صغيراً فلم يعد كافياً لخروجه، لأنّ حجمه تضخّم، فهل يتم هدم «البرّوطة»؟!
لا، سيتم ذبح الجمل لإخراجه قطعاً صغيرة، واستبداله بآخر. يكاد
يجمع أهالي بلدة المحمدية أنّ ممارسي المهن الفلاحيّة داخلها
يشبهون ذلك الجمل في معاناته. فهم يشتغلون داخل شاحنات أشكالها
متشابهة إمّا مليئة بالعلف «القرط» أو فارغة. نفاجأ أحياناً
باحتراق إحداها صيفاً، والجميع داخل المنطقة لا يتحدث إلّا عن
أسباب احتراق تلك الشّاحنة الميتة، ومصير صاحبها الذي بقي على قيد
الحياة. كل ّمن يمارس هذه المهنة على اختلاف أصنافها يسمى «قراط»،
و «القراطة» داخل المحمّدية يعدّون بالمئات، يتوارثون المهنة عن
آبائهم، ويخلفونها ميراثاً لأبنائهم، حتّى ارتبط اسم المحمّدية بـ
«القرط».
علاقة أبوية
·
ماذا عن علاقتك بوالدك ورؤيتك لعمله في «القرط»؟
- كانت علاقتي بوالدي معقدة جداً، أما رؤيتي لعمله فكانت جد سطحية
قبل تصوير الفيلم، على رغم مشاهدتي العمال والشّاحنات يومياً. كنت
أتصور أني أعلم عنها الكثير، لأنّ والدي أنفق أكثر من ثلاثين سنة
من عمره داخلها، يتوسد «بالة القرط» ويستنشق رائحتها. عندما تعرّفت
إلى كواليس وخفايا مهنته التي كانت تبدو لي ظاهريّاً بسيطة وسهلة،
فوجئت وصدمت بالتعقيدات والصعوبات التي تعترض «القراطة» عند ممارسة
عملهم، حتّى تجبرهم على الانتقال من شخصيّة إلى شخصيّة، من مزاج
إلى مزاج، من وضعيّة إلى وضعيّة، من منطلقات إلى منطلقات، بالتّالي
من تاريخ إلى تاريخ. حاولت تفهم والدي، لأني لو كنت مكانه لرفضتها،
على رغم احترامي الكبير لكل من يمارسها.
·
هل معاناة والدك في تلك المهنة لعبت دوراً في اختيار موضوع فيلمك؟
- أكيد، اختياري السّينما وهذا الموضوع جاء انطلاقاً من وعيي
النّسبي طبعاً، لمشاكل الإنسان التونسي، تطلّعاته، هواجسه، مشاكله،
تناقضاته، أحلامه، نكساته، وحتى لا أموت قهراً ذات صيف مثلما مات
والدي الذي بقي يمارس هده المهنة لسنوات طويلة من دون أي اعتراف
به. ربما أعلم جيداً ماذا أعطى والدي لوطني، لكني لا أعلم ماذا
أعطى وطني لوالدي، في هذا الفيلم حاولت المعرفة. كان شغلي الشّاغل
الذي وضعت فيه أمّهات المشاكل التي أعتبرها أساسيّة، ولأنّي أؤمن
بسينما الآن والهُنا، وأكره الإسقاطات والغمز واللّمز، وأريد تسمية
الأشياء بأسمائها.
كذلك لأني فقدت أشخاصاً كانوا مهمّين لي ولأبناء جيلي، أشخاصاً كان
لديهم حلم جماعي كبير للبلاد، ومضوا من دون أي اعتراف بهم. بعضهم
دخل السّجون، بعضهم قاوم، وهناك مَنْ مات، ولم يسمع بهم أحد في كل
البلدان العربيّة. ليسوا فقط أدباء وفنّانين، لكن أيضاً مواطنون
عاديّون في المعارضة، حاولوا إيصال أصواتهم فلم يحققوا هدفهم.
وهناك أشخاص ما زالوا موجودين إلى الآن، ولا يتحدّث عنهم أحد،
كأنّهم منفيون في وطنهم. هكذا، انطلقت فكره الفيلم حتّى نكون
يقظين، وتكون لنا الجرأة في أي مكان، وأي زمان، لتحديد المشاكل
والمسؤوليّات، فنتحدّى خوفنا، ونتصدى للنسيان.
·
كيف عملت على بناء فيلمك الذي استغرق ست سنوات عمل؟
- دخلت الفيلم بالثوابت التي لديّ، والمتحولات التي فيّ، بدمي
وعقلي، بمراجعي، بحيرتي، وبكثرة الجهد، بقراءة للواقع التونسي.
فليس الموضوع وحده هو المهمّ، ولكن طريقة طرحه أهم. منهجيّة وسلامة
الطّرح، الموضوعيّة وعدم التّحامل، إعطاء الكلمة لهذا وذاك، الوعي
لهذه المشاكل ولوجوديتها، لأنها ربما تقتل الإنسان، من دون نسيان
أنّي أمارس فنّاً راقياً. كذلك لأنّي أعتبر أن قساوة العمل
السّينمائي، أي قساوة الحياة، تفرض عليّ تغيير الآليات، حتّى أفاجئ
المتفرّج ولا أعيد ما سبقني إليه غيري. هذا يتطلّب عملاً وجهداً
طويلاً لأشهر وربّما لسنوات عدة.
سهل وممتنع
·
تقول إنك منذ البداية أردت التّقشّف، فكيف وصلت إليه في ظل هذه
الجماليات؟
- وصلت إليه شيئاً فشيئاً. إنه السّهل الممتنع، هو صعب، لكنه سهل
أيضاً. ومن هنا جاء اختياري الثّابت، بعد بحث طويل لأماكن التّصوير
التي أردتها مغلّفة بالخوف والشّك والسّواد، داخل فضاء سينمائي
فقير لفسح المجال لقوّة التّعبير، وذلك لحرصي على ألا تفقد السينما
شاعريتها. فقد أردت إلغاء كلّ ما هو عنصر جمالي، ناتج عن إرادة في
الدّيكور أبهِر بها المتفرّج، وربّما تخلق لديه انتظارات معيّنة.
هذا الرهان جعل فضاءات الفيلم تزداد قتامة، وسواداً، وجعل الكاميرا
في درجة من اليقظة، ومن الوعي ومن الانتظار، وشخصيّات الفيلم في
درجة من العطاء، حتّى يتواصلوا، لأنّ هذا الاختيار يكاد في كلّ وقت
يكشف، ويعرّي الشّخصيات والمتفرّج. المتفرّج الذي حاولت أن أخلق
لديه نوعاً من الاضطراب، لأنّ وضع المرآة الذي سيجد نفسه فيه شيء
مهم للتّواصل.
·
هل تتبعت حياة هذه الشخصيات في البدء ورصدتها، وأقمت معهم صداقة
ورسمت سيناريو – على الأقل مبدئي - لعملك؟ أم إنك كنت تترقب
الهدايا السماوية والفرص التي تتاح لك؟
- المعالجة السينمائية الأولى التي كتبتها كانت تتناول المهنة منذ
انطلاقها بالمحمدية في عشرينات القرن الماضي حتى يومنا هذا، من
خلال عائلة والدتي، حيث اخترت بعضهم كشخصيات رئيسية، وبالفعل قمت
بتصوير جدي 94 سنة، خالي 63 سنة، وابنه 22 سنة، وخال آخر 42 سنة.
القاسم المشترك بينهم هو المهنة التي توارثوها أباً عن جد. إضافة
إلى كثير من الشخصيات الثانوية الأخرى التي تُظهر تعاقب الأجيال.
لكن، في داخلي لم أكن مقتنعاً، لأن معظمهم كان غير مؤمن بفكرة
الفيلم، وقَبِل التصوير مجاملة أو طمعاً، إلى أن ظهر خيري الذي لا
يمت لي بأية قرابة، لكني أعرفه منذ طفولته. في تلك اللحظة شيء ما
غامض بداخلي أكد لي أنه الشخص المناسب الذي أبحث عنه، والذي ينتظره
الفيلم، بخاصة أنه كان متحمساً جداً للفكرة، وجاءت المبادرة الأولى
منه عندما اقترح علي بطريقة غير مباشرة وذكية جداً تصويره. بعد
جلسات عدة ومطولة اتفقنا، لكني فوجئت به في اليوم الأول للتصوير
يأتي برفقة محمد العقربي (وشواشة)، ويطلب مني تصويرهما معاً، لا
أعلم لماذا؟ ولم أتردد لحظة واحدة، فواصلت الطريق معهما، برفقة
عائلة والدتي.
·
ثمة تغييرات أخرى حدثت أثناء المونتاج؟
- عام 2009 بدأت الخطوات الأولى للمونتاج، في البداية كنت وفياً
للمعالجة التي كتبتها، على رغم تركيزي الواضح على خيري ووشواشة،
لكن بعد أشهر طويلة في المونتاج تأكدت أنهما الوحيدان الأكثر قدرة
على العطاء، والفهم. كان لديهما طاقة كبيرة، ما جعلني أعيد كتابة
الفيلم من جديد حتّى تمكّنت من السّيناريو، والفكرة الرّئيسيّة،
والعمود الفقري، والتّفرّعات المُثلى. عدت إلى التصوير مرة أخرى
وكان تركيزي التام عليهما، حتى تكلما بكلّ حريّة، ومن دون وصاية أو
رقابة من أي طرف، انطلاقاً من وعيهما لحاضرهما ولماضيهما، واهتممت
أكثر بالوضعيّة التي يعيشانها، حتّى وصلت معهما بطريقة ملحميّة
مباشرتيّة لإتمام الفيلم.
·
كيف نجحت في بناء تلك العلاقة القوية من الثقة مع الأشخاص، فجعلتهم
يتحدثون عن أدق خصوصيات حياتهم بكل تلك المكاشفة؟
- حاولت خلق رابط متين معهم، مبني على الاحترام، والثقة، والحب.
لأنّي أردت إخراج الفيلم معهم وليس عنهم. كيف يعيشون؟ وجهة نظرهم؟
كيف يحاكمون، ويواجهون أنفسهم؟ بالتّالي مصيرهم. ما هو معنى الحياة
بالنسبة لديهم؟ وحاولت من خلال شهاداتهم، ليس فقط إبراز حياتهم
الصعبة ومشاكلها، لكن إظهار الأحاسيس المرهفة لديهم، ذكائهم،
كرمهم، تربيتهم، وحبهم الكبير لكلّ ما هو جميل على هذه الأرض، وذلك
في انسجام معهم من دون الوقوع في فخّ التعاطف المزيف، أو الحكم
عليهم.
·
عندما أقدم خيري على الانتحار كنت آنذاك في حالة بطالة، وكان
الفيلم مجمداً في انتظار التمويل. كيف تلقيت خبر محاولة الانتحار؟
وهل ترددت في تصويره أم حسمت أمرك؟
- لم ولن أنسى تلك الليلة عندما رن جرس هاتفي، وجاء معه ذلك الخبر
كالصاعقة. صدمت، ودخلت في حالة هستيرية لا أستطيع وصفها، فقد كان
معي منذ ساعات ولأول مرة أبكي. لم أفكر في الفيلم، كل همي كان
إنقاذه وعدم اعتباره رقماً يمضي. رفضت تصويره داخل المستشفى، على
رغم إلحاح الأصدقاء، كذلك رفضت استعمال الصور التي التقطها أحد
الشبان له عند إضرامه النار في جسده. غريزة المخرج عادت إليَّ
عندما بدأ يتماثل للشفاء تدريجاً. |