«خزانة
الألم»..
فيلم عن التدخل في العراق!
عبدالستار ناجي
بعد الحروب الطاحنة التي خاضتها الولايات المتحدة الاميركية، في
كوريا ثم اليابان، ثم فيتنام، وهكذا الأمر في أفغانستان، ها هي
هوليوود، تذهب الى حروب أميركا في العراق، عبر فيلم شديد الشفافية،
عميق، صادم، حاد، صريح، قاس، ألا وهو فيلم «خزانة الألم» الذي
يعتبر واحدا من أهم الأفلام التي تصدت لموضوع الحرب في العراق على
وجه الخصوص، والتدخل الأميركي في حياة الشعوب، من خلال دراما
سينمائية، تعتمد في الأصل على نص مسرحي مثير للجدل.
فيلم «خزانة الألم» تم انتاجه 2008 من انتاج واخراج كاثلين بيجلو.
فيلم «خزانة الألم» وثلاثة من الجنود الأميركان، يقضون مهمتهم في
العراق، في عمليات ازالة الألغام، حيث تبدو الشخصيات وكأنها تذهب
الى قدرها، في لعبة الحرب تلك التي ترحم.
أيام صعبة، ومواجهة دائمة مع الموت، والقدر والإرهاب، والتطرف، ومن
بينها الحالة النفسية المتوترة التي تعيشها تلك الشخصيات، فيما
بينها، بعضها البعض أولا، وما يحيط بها من ظروف مميتة.
ثلاثة من النجوم الافذاذ، يتصدون لتقديم هذه التجربة، وهم جيريمي
دينر وانتونتي حاكي، ويريان جيراغتي لقيادة كاثلين بيجلو «مخرجة
ومنتجة» معتمدة على نص كتبه مارك بوال، الذي كان في الاصل صحافي مع
الفرق المتخصصة في ازالة الذخائر المتفجرة للجيش الأميركي في
العراق عام 2004.
فيلم «خزانة الألم» أو «هيرت لوكر» يعتمد على اقتباس مشترك عن نص
لكريل هيدجر صدر في العام 2002 ومعالجة لمارك بوال.
فيلم ونص روائي وكتابات صحافية، تعزف على وتر نادر، يؤكد بان
«اندفاع المعركة هو ادمان، وعندها تتحول الحرب الى «مخدر» يعتمد
القوة والقتل.
هكذا هو المحور الاساس الذي يشتغل عليه الفيلم والنص، وان اختار
الموقع للحرب هذه المرة، العراق، وقد صورت مشاهد الفيلم في المملكة
الأردنية الهاشمية وبمواصفات انتاجية عالية الجودة.
يأخذنا الفيلم منذ اللحظة الاولى، الى وصول الرقيب ويليام جيمس
«جيريمي
رينر» وهو من قدامى المحاربين، الى بغداد بقيادة فريق جديد من
الجيش الاميركي مهمته التخلص من الذخائر المتفجرة، حيث جاء ليعمل
مكان الرقيب ماثيو طومسون «غاي بيرس» الذي قتل من قبل عبوة ناسفة
في بغداد، ويتضمن الفريق الذي يترأسه ويليام، كلا من الرقيب انطوني
ماكي والاخصائي اوين الدريدج «بريان جيراغت».
ويليام جيمس يمتاز بأسلوبه الذي يعتمد الاقدام، ولربما تجاوز حدود
التهور، في التعامل مع ملايين العبوات والالغام والمتفجرات التي
زرعت في انحاء متعددة من العراق، قبيل عملية تحرير العراق، وسقوط
الطاغية صدام حسين.
في احدى المهمات، في منطقة صحراوية نائية، يبدأ التوتر يتفجر بين
ذلك الثلاثي، في وقت متزامن مع المتفجرات التي تحيط بهم، ويظل
الفيلم يشتغل على ذلك المنحى، تفجر العلاقات الانسانية، وتفجر
الواقع الذي يحيط بهم، والذي يمكن ان يكون في اي مكان من أنحاء
العالم، العراق أو غيره.
وطبعا الفيلم لا يخلو من بعض المواجهات مع عناصر مسلحة «بالزي
العربي»، نكتشف لاحقا بانهم مرتزقة «بريطانيين» يمثلهم النجم
البريطاني رالف فينيس.
كمية من المشهديات، تارة في الصحراء، ولها تفاصيلها المتفجرة، ثم
غارة على مستودع، وهذه الأخرى لها حكايتها وتفاصيلها، ودائما
الانفجارات حاضرة وعنيفة.
حتى عندما يتحدث عن العلاقة بين الاميركي والطفل العراقي، نجد في
البداية الشك والريبة بالاخر، ورغم حضور الصداقة وامكانية علاقة
دوية، الا ان الانفجارات لا تتوقف، وهي تحول ذلك الثلاثي الى
شخصيات تعتبر الموت شيئا عاديا، لهذا تلهو بالموت، وتلهو
بالمتفجرات.
حتى وهي تصاب، فانها تلقي بتبعيات تلك الاصابات على بعضها البعض،
وكأنها تحاول تفجير بعضها الآخر، في فيلم يجعلنا وكأننا امام شخصية
اكثر تفجرا من الواقع والألغام التي تحيط بها.
حتى حينما يعود جيمس الى زوجته كوني في ارض الوطن، فانه بعد حين
يشعر بالملل، لانها ادمن الحرب، وأدمن القتل، وأدمن الانفجارات
التي تدوي بداخله لتفجر الطاقة والقوة بداخله وتجعله يعيش عوالم من
اللذة والادمان التي لا يعرفها الا من عاشها، وادمنها، لهذا يقرر
العودة من جديد الى حين يطفئ ظمأ ادمانه، بالانفجارات والاقتراب من
الموت، مديرا ظهره الى كافة العلاقات الانسانية بما فيها علاقته مع
زوجته وصوت طفله الرضيع.
بأداء عالي المستوى يدهشنا جريمي رينر بدور وليام جيمس، وايضا
انتوني ماكي بدور سانبورن وبقية الكوادر التي تشكل الشخصيات
المحورية، لعمل يظل يشتغل على الذات الانسانية، أكثر من اشتغاله
على الحرب. فيلم يقول الكثير عن الحرب في العراق، ومن قبلها الحالة
النفسية «المدمنة» التي تحرك الجنود الاميركان لخوض تلك الحرب، بل
واستمراريتها.
فيلم يحلل الظروف النفسية، ويتهم اميركا صراحة بانها السبب وراء
تلك الحالة الادمانية القاتلة التي تعيشها تلك الشخصيات.
صورت جميع مشاهد الفيلم في المملكة الاردنية، على بعد عدة اميال من
الحدود العراقية، في موقع تصوير امكن من خلاله تأمين الاجواء في
الاحياء العراقية، كما صورت مشاهد اخرى في الكويت وبالذات
المواصفات العالية المستوى كان خلفها «سينما جيك» وجملة المشاهد
صورت في فترة الصيف، حيث درجات الحرارة اقتربت من 50 درجة مئوية.
الامر الاساسي في هذه التجربة، ورغم كمية المتفجرات وانواع
الالغام، الا ان الموضوع الاساسي ظل الالغام النفسية، وحالة
الادمان، وعشق مخدر الحرب، والذهاب الى آتون المواجهة مع الموت.
وحينما عرض الفيلم، حصد كثيرا من ردود الافعال والكتابات النقدية
الايجابية، التي اشادت بقدرات المخرجة كاثرين بيجلو «الزوجة
السابقة للمخرج والمنتج جيمس كاميرون» حيث وصفت بالمبدعة، والعميقة
لقدرتها على فلسفة موضوع الحرب، وتحويل مشهديات الحرب الى مشهديات
من التفجر الذاتي، والقسوة، وايضا حالة الادمان التي تعتري الجندي
في فهم الحرب والانفجارات، والمواجهة مع الموت، التي تتحول الى
ادمان يكاد يتكرر، وبشكل يومي، ليمنح المجند متعة لا يعرفها الا من
عاش تلك اللحظات المرضية القاسية.
فيلم عن الاثار السلبية للحروب، على الجنود بالذات في قطاع ازالة
الالغام، حيث اللهو بالموت والتسابق لايقاف الموت في اللحظة
الحاسمة.
عرض فيلم «خزانة الألم» للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي
الدولي 2008، وحصد عشرات الجوائز من بينها اوسكار افضل فيلم وافضل
اخراج وافضل سيناريو واحلى صوت ومونتاج.
اما المخرج والمنتجة فقد كان هذا الفيلم بمثابة الفتح الاكبر في
مسيرتها خصوصا حينما واجهت زوجها جيمس كاميرون في الصراع على
الاوسكار، حيث فاز فيلمها «خزانة الألم» على فيلم زوجها السابق
جميس كاميرون الذي قدم يومها الفيلم التحفة «افاتار» ولكن الفوز
كان للالم الانساني ولويلات الحروب وحضور العراق في السينما
الاميركية.
فيلم «خزانة الالم» هو في حقيقة الالم الاسترخاء عن نصل الالم
والموت ولهو ارعن بالمتفجرات وذهاب الى لجة الحرب وادمان في تصاعد
المواجهة والتلذذ في الاقتراب من الموت.
سينما من نوع آخر، يدهشنا بقسوته وبالتحليل الدقيق للشخصيات
والعلاقات وايضا الظروف القاسية التي يحاط بها الجندي الاميركي
والتي تحوله الى خلية من التفجر وخلية من استمراء المواجهة مع اقسى
اللحظات المدمرة للذات والاحاسيس والمشاعر.
سينما تستحضر الحرب لتقول الكثير ولتكون شاهدا على قسوة الحرب
واثارها، وايضا النقد الموضوعي الذي لا يمكن له ان يتحقق الا في
سقف مرتفع من الحريات في نقد التدخل الاميركي والحروب التي لا
تنتهي التي تفعل فعلتها في ذات الجندي الاميركي.
فيلم يؤسس لمرحلة جديدة من النظر الى افلام الحرب وهو حتى بعد ان
ينتهي يظل يحاصرك بكم من المتفجرات التي تذهب الى داخل المشاهد،
حيث يتفجر القلق حول الحرب وحول حالة الادمان في خوض الحرب لدى
الجندي الاميركي ومن هنا خطورة الفيلم. |