ألفريد هتشكوك معلم السينما
محمد بنعزيز
شاهدت في مراهقتي أفلاما ولم أعرف مخرجيها، كان ذلك في مرحلة وصل
فيها رواد القاعات السينمائية بالمغرب إلى 40 مليون سنويا. كانت
الأفلام تتابع في القاعات وكنت أشاهدها بنهم، أمتص ما أشاهده بلذة.
حين تركت الأدب واتجهت للسينما عانيت من مشاهدة أفلام بلا طاقة
إبداعية، وهذا ما هيج حنيني لأفلام لم يبق منها في ذاكرتي إلا لقطة
استثنائية أو وجه ممثل أسطوري... تذكر الوجوه ليس كافيا لتحديد
الأفلام... لتشغيل الذاكرة أعدت مشاهدة أفلام كلاسيكية بالجملة،
أتعقب لقطات شهيرة من أفلام عظيمة سبق لي مشاهدتها ورسخت في
الذاكرة... لأفحص الفارق بين الفرجة التي حصلت منذ 20 سنة والفرجة
الحالية... بين الفرجة العفوية والفرجة التحليلية.
خلال هذه الرحلة في ثمار المتخيل الكوني كانت أفلام ألفريد هتشكوك
في المقدمة، دون نسيان سيرجيو ليون وستانلي كوبريك... أعدت
مشاهدتها كلها تقريبا، لكن ليس بالتتابع، إذ لم يكن من السهل علي
مشاهدة أفلام هتشكوك بالتتابع، أفضل مشاهدة فيلم مختلف قبل العودة
لسيد التشويق... لأن الغرق في نوع سينمائي واحد يضعف القدرة على
ملاحظة سماته...
من تلك الأفلام التي بصمت ذاكرتي "المتهم خطأ"
le faut coupable 1957وفيه
نتعرف على موسيقي مجد (هنري فوندا)، ينهي عمله في الفجر ويعود
لبيته، يُدخل معه قنينتيْ حليب، يطلّ على ولديه ويجد زوجته روز
ساهرة تنتظره. ما أسعده. فقط أن نقوده قليلة بينما تشتكي زوجته من
ألم "ضرس العقل". ذهب لطلب قرض لعلاجها فصار متهما... نعرف
بأحاسيسنا أن كريستوف باليستريرو بريء... نشهد ونعجز عن إنقاذ رجل
محبوب يحطم الظلم حياته، لكن ليس لديه ما يثبت به العكس، توجد أربع
نساء تشهدن ضده. هذا اليقين النسائي دمر أعصاب زوجته قبل أن يدمره
هو، هي واثقة أنه برئ... لكن لا إثبات لها... تفكر... تستنتج بتهور
أن أسنانها هي سبب اللعنة... بينما المتفرج متجمد ينتظر فك العقدة
التي حبكها هتشكوك... وفي خضم الهاوية التي يتجه لها كريستوف سريعا
تلقي الشخصيات نظرة على مسارها لتفحص هل تستحق ما يحصل لها... أين
الخطأ؟
بعد 55 دقيقة من التوتر على أشده، لم يحسم شيء بعد، لكن الكوارث
تلوح في الأفق... يحتفظ كريستوف بالصليب في زنزانته... كان بحاجة
إلى الله... هنا يظهر فهم هتشكوك لشخصياته... لم يكن يفرض عليها
وجهة نظره... بل كان يترك الشخصية تتطور وفق قوانين السرد وطبيعة
القصة التي يرويها... فالقصة هي التي تملي النبر الذي تروى به.
وهتشكوك يرويها باقتصاد، بالكاميرا في الموقع الصحيح... بأقل كلام
وبأدق ملامح الوجوه التي تقتنصها الكاميرا...
في منتصف الفيلم يتغير اتجاه الأحداث... تصير روز في البؤرة وينطلق
الفيلم في اتجاه جديد يكشف تكاليف أخطاء العدالة... فالسيدة روز
دمرتها الأسئلة وأدخلتها مستشفي لتعالج عقلها بدل ضرسها...
في فيلم نورث باي نورثوسيت أو 1959
La Mort aux troussesينتقل
هتشكوك من محنة البرجوازية الصغيرة إلى الجاسوسية في الحرب
الباردة، ولكن أسلوب الرجل ثابت. فتماسك القصة والتشويق حاضران هنا
أيضا... نتعرف على السيد روجي (غاري غرانت) الذي يعمل في مجال
الإشهار وهو جد منظم، يتهم صدفة بأنه السيد كابلان ويُختطف. وكل ما
يلي ذلك لا مجال فيه للصدفة. لأنه في الفيلم تكفي صدفة واحدة.
لن أتحدث هنا عن السيناريو بل عن الإخراج الذي يدقق في عالم
الجاسوسية العزيز على هتشكوك. عمل الكاميرا وهي تتبع هدفها لتقنصه،
تتوالى كادرات متحركة عند سياقة روجي في المنعطفات وطبعا أثناء
المطاردة الغريبة بالطائرة... حين يجري روجي نحو سيارة الأجرة
تقنصه كاميرا هتشكوك فوق مبنى الأمم المتحدة... بحيث يظهر البطل
أصغر من نملة... وبعدها مباشرة... تتلصص الكاميرا على مبنى
الكونغرس... من زجاج يحمل اسم المكان: وكالة المخابرات الأمريكية.
هنا يجري نقاش بارد عن سلامة روجي الذي يظن الأعداء أنه الجاسوس
الوهمي كابلان... لكن المدير (البروفيسور) سعيد بما جرى صدفة...
وهو معني بخططه البوليسية أكثر من سلامة المواطنين... وهنا يرمي
هتشكوك بغمزة ساخرة تجاه إدغار هوفر الذي يدافع عن أمن أمريكا
ويقيس الأرباح ببرودة لا وزن فيها لحياة البشر – يوجد تشابه بين
الممثل الذي قام بالدور في فيلم هتشكوك والمدير هوفر. وقد خصص له
كلنت إيستوود فيلمه الأخير وقام ليوناردو ديكابريو بدور هوفر
ويعزز هتشكوك هذا الغمز للحظة تاريخية معينة بظهور اسم الرئيس
الأمريكي نيكسون في الجريدة التي نشرت خبر جريمة القتل التي اتهم
فيها روجي... للإشارة صور هتشكوك مبنى الأمم المتحدة من كاميرا في
شاحنة لأنه لم يحصل على رخصة...
كان نصف ساعة الأول من الفيلم كافيا ليقدم الشخصيات ويعرف بالحدث
ويوصله إلى درجة تعقيد كبيرة ضمنت تشويق المتفرج... لم يستغرق
التمهيد للتحول ثم حصوله فظهور نتائجه أكثر من خمس دقائق. كل مشهد
هو تحول، دفعة إلى الأمام، وهذا ما يجعل الإيقاع سريعا يتحدى الملل...
لقطات هتشكوك معدة بعناية، وبما أنها تصور الحركة فإن المخرج يعتمد
على الستوري بور بقوة... يرسم تفاصيل ما سيصوره بقلم الرصاص ليتجنب
الارتجال غير القابل للمونتاج... وهتشكوك هنا وفيّ لموقفه الرافض
للمشاهد الوثائقية في أفلامه.
في الفيلم نرى احترام تتابع وتصاعد الإخبار بالصور، نرى الحدث دون
شروح. ونشرح لأنفسنا، نخمن، نصيب مرة ونخطئ مرارا لأن هتشكوك
يفاجئنا بختم اللقطة قبل أن يتلاشى التوتر ليمر لغيرها، حتى الحوار
يبني التتابع بدل أن يكسره، إذ يستخدم المخرج الجمل التي ينطقها
الممثل كرابط للانتقال لحدث أو مكان آخر. مثلا تتساءل الأم هل
السيد كابلان يرتدي ملابس تخفيه عن الأنظار؟ فيسرع ابنها لقياس
بذلة كابلان... وهكذا نرى بوضوح ما يجمع اللقطات في المونتاج، نرى
الربط
(raccord)
بحركة الكاميرا وبالنظرات وبأيقونات صغيرة مثل الدبوس...
وهذا يعزز الوحدة البصرية للفيلم... حتى اللباس يخدم هذا، ففي
الكثير من أفلام هتشكوك يمر نصف ساعة وما زالت الشخصيات بنفس
ملابسها. في فيلم نورث باي نورثوسيت بقي غاري غرانت بنفس البذلة
ساعة و49 دقيقة. وهذا دليل على وحدة الحدث والزمن في الفيلم. على
تماسك القصة وإيقاعها السريع. يوظف هتشكوك نظرية الوحدات الثلاث
الأرسطية بتقديس بدل أن يزعم الثورة عليها... وهو بتصويره للحدث،
يفسر لنا سخريته الشديدة من المخرجين الذين يكتفون بتصوير أشخاص
يثرثرون... وهنا يتفوق هتشكوك بلغته السينمائية حتى على الذين
يتهمونه بالحس التجاري لأنه لم يقدم وجهة نظر مكشوفة ليقبلوا ضمّه
إلى حزب سينما المؤلف.
في تفسيره لمصادر إبداعه وتركيزه على الحدث، اعترف هتشكوك أنه لا
يقرأ الأعمال الخيالية، بل يقرأ سيرة أشخاص حقيقيين وكتب الرحلات
وأخبار الجرائم فقط في الجرائد. يضيف "الأدب الذي يأخذ جاذبيته من
الأسلوب لا يعجبني، لأن ذهني يعمل بشكل بصري إلى حد ضيق جدا".
حين أشاهد أفلام هتشكوك أشعر كأني أقرأ كليلة ودمنة بعد تقليص
مساحة الأمثال والوعظ فيها. هتشكوك أيضا لا ينسى الدلالة. فبين
الأحداث المتسارعة يزرع حكما موجزة، مثلا في نورثوسيت تشتكي البطلة
من ان الرجال الوسيمين لا يؤمنون بالزواج، وهي لا تتحدث عن الحب
حين تكون جائعة... ففي كل اللقطات محتوى سيكولوجي أو معرفي... أو
ما يسمى العبرة في السرد القديم. فعبرة السطر الأخير هي الغاية.
ينطبق هذا أفلام هتشكوك الذي يبدو أنه يبدأ أفلامه من نهايتها. عن
نورثوسيت يروي كاتب السيناريو أن رغبة هتشكوك في تصوير مطاردة على
نصب الرؤساء الأمريكيين هي التي دفعته لإنجاز الفيلم.
حين قدم هتشكوك هذا الفيلم للصحافة عرف الإخراج بأنه تصوير أجساد
جميلة، وهذا ينطبق على كل أفلامه، هنا نرى قدرة الجاسوسة على
الغواية، على الدفع بخصمها للهاوية، ثم وهي تقع في حبه وتبكي...
وبذلك يغير المتفرج موقفه منها... يفهمها ويسامحها. في العصافير
يتكرر الرجل الوسيم الذي يتحدى الجميلات بينما تسيطر عليه أمه...
كانت الغواية جزء أساسيا من ترسانة المخرج.
في 1963 انتقل هتشكوك من تصوير صراع البشر فيما بينهم إلى صراعهم
مع الطبيعة، كان ذلك فيلم "العصافير" وفيه منح البطولة لمانكان
تمثل لأول مرة... فيلم بشخصيات قليلة، رجل وامرأة يدخلان في تحدي
التفوق في الذكاء... تشتري عصافير مدجنة، يدخل الرجل فيسألها
فتتظاهر بما ليس عملها... لكن الرجل يعرفها... شابة مدللة تعاني
ملل الأغنياء، بسبب صدفة تبعها عناد تجد نفسها في أجواء ريفية...
تريد رد ما تعتبره إهانة لذكائها من طرف رجل وسيم... في الحوارات
عمق نفسي عن الأمومة والفقدان... وفيه عدوانية نرجسية أيضا.
بدأ الفيلم بأجواء مرحة انقلبت مأساة... وفيه بلغ هتشكوك قمة
إبداعه، فالسرد بسيط، دون أن يكون مبتذلا أو مملا. لا فلاش باك
يجعل الساعة تدور للخلف ولا حلم يقطع التتابع. يزيد قصر زمن
الأحداث وتماسك تعاقبه من قوة التشويق. يحل الليل وينقطع الكهرباء
فتتكثف لحظات الرعب بالصوت والصورة والضوء... تشتعل الأسئلة في ذهن
المتفرجين كما في ذهن الشخصيات... تتصور الشابة التي تبحث عن نفسها
أن مهاجمة الغربان المتوحشة للقرية سببه لعنة تستهدفها... كما في
الحكايات الشعبية والقصص الدينية القديمة، حيث المرأة هي سبب
اللعنة والعقاب الإلهي للبشر بطوفان من الجراد والضفادع...
في "فرنزي"1972 تصير النساء ضحايا لا مصدر لعنة. وهنا عاد هتشكوك
لموطن طفولته في لندن حيث كان والده بائع خضر... بعد صدمة الجثة
الأولى الطافية في نهر التايمز نتعرف على الفاكهاني بطل الفيلم
عاشق الفواكه وعاشق نوع خاص من النساء... يعجب بمطلقة جميلة تدير
شركة لتزويج العزاب. يجعل هتشكوك شخصياته تنطلق من وضعيات مشبعة
بالتناقضات، وهذا ما يسهّل عليه اللعب على المفارقات والسخرية
لإمتاع المتفرجين.
بين حين وآخر يجني الفاكهاني تفاح النساء بطريقة سيئة، وقد خلد
هتشكوك ذلك في صورة أسطورية فيها لسان متدلي وعينين مفتوحتين
بشدة... تعبير حسي عن الموت... ومن اجل لمسة كوميديا سوداء نتعرف
على محقق جائع، يعشق اللحم بالبطاطس بينما تقدم لهم له زوجته وصفات
معقدة غير صالحة للأكل... عزاءه أن الطباخة الفاشلة تساعده بإشارات
ذكية للقبض على المجرم الذي خزن جثة في شاحنة بطاطس... ثم عاد
للبحث عن الجثة ليدخل في معركة معها... تلطمه برجلها ويكسر أصابعها...
ما الذي أودى بالمجرم؟
هوسه بدبوس تزيين ربطة عنقه. يقال إن كل واحد منا يحمل الحجر الذي
يتعثر فيه.
في فرنزي حقق هتشكوك سردا أنيقا. إيقاعا سريعا لا يسمح للمتفرج
بتخمين أو استباق أحداث الفيلم. الحدث يعرض والفكرة يستخلصها
المتفرج. يجري الحدث وتظهر نتائجه معقدة في خمس دقائق، وتكون
النتيجة مقدمة لحدث آخر، فيلم بتفاصيل صغيرة يتم تنسيقها لتغدو
صرحا مبهجا... عمل الكاميرا كان بارزا، خاصة حين تقوم بترافلينغ
طويل للخلف لتنزل السلم دون قطع...
في هذا الفيلم، استخدم هتشكوك الكثير من اللقطات التي يعمد لها
المخرجون الشبان لاستعراض عضلاتهم في اللعب بالكاميرا. هتشكوك لم
يكن بحاجة لهذا الاستعراض واستخدمه خاصة في لقطة شهيرة بعد مرور
ستين دقيقة من الفيلم. لهذا قال فرنسوا تروفو عن "فرنزي" أنه فيلم
بأسلوب مخرج شاب.
كان ذلك علامة على الطزاجة الإبداعية للمخرج الذي لم يستطع أحد
منافسته في شباك التذاكر. ولا في إثارة الجدل، ولقد خصص له تروفو
حوارا مطولا نشر في كتاب. كما خصص له المخرجان الفرنسيان الآخران
ضمن الموجة الجديدة: كلود شابرول وإريك روهمر كتابا يحتفيان فيه
بعبقريته (1). وهذا صادر عن متخصصين في مجلة دفاتر السينما التي
تعتبر معبد تقديس الإخراج la mise en scène
في العالم ككل.
في هذا الكتاب يروي Chabrol
و
Rohmer
أن هتشكوك في بداياته أخرج فيلمين فاشلين فرأى أن مستقبله مهدد
كمخرج، فورا أوقف تجاربه وتصالح مع المطالب التجارية للمنتجين
وانخرط في إخراج أفلام بوليسية. وهكذا بدل أن يرفع الجمهور إليه،
توجه إلى الجمهور، وأخذ يزرع فيه الشك في كل لقطة.
مخرج كان مجرد ذكر إسمه دعاية في حد ذاته، وذلك بفضل تميز أسلوبه.
وهو ما وقف عليه الكاتبان المخرجان. وقد استخلصا أن هتشكوك أبدع في
خلق الأجواء التي تؤثر على الجمهور، مستخدما خياله في البرويتاج.
وظف ميلودراما شعبية برمزية مؤثرة تلتقط جحيم الحياة اليومية. وهو
يتجنب ما يُسهل تموقُف المتفرج من بداية الفيلم مع أو ضد. أي لا
يصور شخصيتين واحدة على حق والأخرى على خطأ، بل في أفلامه صراع بين
نزهاء،وهذا يضاعف التشويق، وإذا حصل خطأ ما فهو خطأ النوع البشري
لا خطأ فرد معين.
تتميز أفلام هتشكوك بالتبعية المتبادلة بين الشكل والمضمون. يصور
اللحظات الضعيفة في السيناريو بسرعة، يتجاوزها ليركز على اللحظات
القوية. وهو بذلك يقوم بنقد ذاتي استباقي أثناء التصوير.
يتصور هتشكوك الفيلم كخطوط لها اتجاه معين، يركز كثيرا على الحبكة
ويتجنب التحولات الفجائية غير المبررة. في أفلامه لكل لقطة هدف،
وهو يرفض الكليشيهات، أو ما يسميه الكاتبان
pauvres trucs .
يعتمد الدقة في صنع اللقطات، لديه بساطة ودقة في الكادراج
cadrages.
ماهر في استخدام كادر كبير متحرك
grand plan mobile.
ختاما، أرى أن كتاب روهمر وشابرول اعتراف من رواد سينما المؤلف
بعظمة هتشكوك. والحق ما شهد به الخصوم.
بمثل هذه الأفلام والكتب أسترجع عافيتي الإبداعية التي تتعرض
للانتهاك كلما شاهدت فيلما بئيسا. أستنجد بهتشكوك وكوبريك وسيرجيو
ليون، لكي لا يلتبس علي ما هو سينما بما ليس سينما.
(1)Hitchcock
Claude Chabrol Eric Rohmer 1957 |