بعيداً عن ممارسات المنع والإيجاز في بعض بلدان العالم العربي، فإن
فيلم «الخروج: آلهة وملوك» للمخرج الذائع الصيت ريدلي سكوت جاء
مخيباً للآمال. إدارة التصوير والشخصيات والمجاميع الحربية المتقنة
والبديعة في أمكنة التصوير (إسبانيا ومصر وإنكلترا) قد لا يكون
بوسعها التغطية على سقوط الفيلم في مطب التراخي الدرامي بغض النظر
عن مقولته التي لن ترضي كثراً، حتى أولئك الذين ينحازون في
قراءاتهم إلى بعض «المستندات» النظرية الحديثة حول رواية الخروج
نفسه، إذ يميلون إلى سرد ما قاله يوماً المفكر الفرنسي الراحل
روجيه غارودي من أن حوليات الفراعنة لم تسجل خروجاً لهذا العدد
الهائل من بني إسرائيل واجتيازهم حدود دولة مركزية قوية كان حراسها
قادرين على تسجيل حتى سرقة شوال من القمح وعبور الحدود به من قبل
لص أو قاطع طريق.
لكن الحكاية ليست هنا بالتأكيد. إذ لا يبدو أن سيناريو الفيلم كان
يعد بالكثير حول شخصية النبي موسى، وإن كانت فكرة جعله «إنساناً
أرضياً» قادراً على الحب والتسامح والتفكير بالحرية، وحتى شكوكه
بكونه نبياً أو سلوكه كمقاتل في الحروب، وهي مقومات تجذب سكوت نفسه
في دفاعه عن فيلمه، أو أفلامه التي سبقت مثل «المصارع» و «مملكة
السماء»، وحتى فيلم «روبن هود». إن استثنينا الرواية التوراتية
الدينية المحرفة التي يقوم عليها الفيلم، فإن ريدلي سكوت يكون قد
أغرق نفسه في رمال التيه التي أرادها لفيلمه من قبل أن يصل النبي
موسى مع شعبه إلى بر الأمان، وهم في طريقهم نحو «المنفى الجديد» في
أرض الآباء والأجداد: أرض كنعان. أو أرض القبائل المحاربة والأشد
هولاً من المصريين القدماء كما يحدّث النبي موسى (لعب دوره الممثل
البريطاني كريستيان بيل) رفيقه في معركة تحرير عبيد بني إسرائيل
يوشع. ليس استيلاد الأفكار من رحم التوراة جديداً إطلاقاً على
الصناعات السينمائية الضخمة. («بن هور» و»الوصايا العشر» لسيسيل ب.
دي ميلي -1924- كانا الأبهظ كلفة في تاريخ الإنتاج السينمائي في
ذلك الوقت. هذه وظيفة من وظائف هوليود. ولا يحيد ريدلي سكوت في
فيلمه عن أداء هذا الدور. ربما التصاقه بذلك «التسريب» المؤذي
للدراما أطاح بفيلمه، وأسقطه في فخ النفخ الدرامي إن لم يكن مبنياً
على ترصيص أعمدة صلبة بين الشخصيات واجتراح صراعات تسمو بها بدل أن
تراوح في مكانها، وتنغلق على عوالمها الداخلية. لم يكن رمسيس
الثاني (جويل ادجيرتون) بهذه العنجهية والخواء والصلافة كما أراد
له ريدلي سكوت أن يظهر في الفيلم ليزيحه من طريق بطله، وينبه
المشاهدين إليه، على رغم أنهما عاشا كشقيقين، حتى أن الفرعون الأب
كان ميالاً لموسى أكثر، وهذا ما يفسر حنق الأم عليه. وإن افترضنا
أن الفرعون رمسيس كان كذلك، فليس من الحكمة أن يقع مخرج كبير مثل
ريدلي سكوت في «مستنقع» الاعتماد على ثنائية الخير والشر فقط، في
وقت تعدّت الفنون المرئية، والسينما أهمها على الإطلاق، هذا
«التعصيب المقلق» للأعين القارئة بين الصور.
يبدأ الفيلم بظهور عنوان على الشاشة ينبه إلى أن تاريخ الأحداث هو
1300 قبل الميلاد، وأن الفرعون الأب سيتي الأول يحضر لمعركة قادش،
حيث بدل أن يطرق الحثيون أبواب دولته القوية، يجهز جيشاً جراراً
بقيادة موسى وابنه رمسيس لمهاجمتهم في ثكناتهم. الكاهنة التي تقرأ
مستقبل المعركة أمام الفرعون الأب تقول إن الرؤيا غير واضحة
بالنسبة إليها، ولكن سيتم «حماية قائد فيها» وسط تهكم خافت من
موسى. بالمناسبة ربما فات ريدلي سكوت هنا أن يقدم درساً سينمائياً
بليغاً، طالما أنه «أرضي» بخياراته، ففيما استعان بالعرافة -
الكاهنة ليطل الفرعون سيتي الأول على «تنبؤاتها» بخصوص المعركة مع
الحثيين، كان الفراعنة في تقليد حربي مبتكر يستعرضون التشكيلات
الحربية التي يصطف فيها الجنود بعرباتهم القتالية الفاخرة، وكان
يتوجب على الجنود في حركات استعراضية مدروسة أن يقوم كل واحد منهم
برفع يده قليلاً، وفي سرعة معينة يحصل الفرعون على وهم الحركة
بمروره من أمامهم، وكأنهم يؤدون التحية له في هيئة جندي واحد، وإن
حصل على «الوهم المطلوب» بالسرعة القياسية، فإنه يذهب إلى معركته
منتصراً. في لعبة الكادراج السينمائي كل شيء جائز، وليس أمام ريدلي
سكوت الذي يتقن مهنته جيداً، ويعرف أدق تفاصيلها، إلا الانحياز
للعبته. قد تخونه أحياناً المعطيات التي بين يديه، في تشكيل الوهم
من سيناريو معلق على طلبية واضحة حين إنجازه.
مهما يكن، تنتهي المعركة بإنقاذ موسى لرمسيس الابن في المعركة. أي
أن نبوءة العرافة تتحقق، ويعودان من معركة كانت غامضة إلى حد ما
لتبدأ معها رحلة التشكيك بالفرعون الذي سيخلف أباه بعد موته بقليل،
وفيما يرسل رمسيس الثاني موسى إلى ميثوم للتفاوض مع حجب الذي يشرف
على عمل عبيد بني إسرائيل يصطدم برواية نون (بن كينغسلي) له عن
حكايته حول نسبه لأبوين عبرانيين. يرفض الحكاية بغضب، ويمقتها،
ولكن ثمة «عيوناً» تبعث بالحكاية لرمسيس الثاني الذي يخضع مريم
لاختبار حول أخوّتها لموسى أمام أمهما بثيا (هيام عباس)، ويضطر
موسى للاعتراف بذلك حتى ينقذ مريم من سيف رمسيس القاطع الذي ينفيه
إلى جبل الطور في سيناء، حيث سيسمع اسمه العبري موشيه من أمه بثيا
لأول مرة لحظة وداعه لها. يلتقي موسى في منفاه بزيبورة (الممثلة
الإسبانية ماريا فالفريدي) ويتزوجها وينجب منها ابنه جرشوم، ولكن
الحدث المفصلي الأهم في حياته هو انهيار الفالق الجبلي في يوم عاصف
مطير يصيبه في رأسه، ويبدأ طفل ثقيل الظل بالظهور له في يقظته
بوصفه الذات الإلهية التي تدعوه لنجدة شعبه وتخليصه من عبودية
الفرعون الظالم. تبدأ رحلة موسى النفسية من هنا، مشروطة بانقسامات
حادة في شخصيته، حين يودع زوجته وابنه، ويسعى للقاء رمسيس ومفاوضته
حول تحسين شروط عمل العبيد في بناء الدولة والأهرامات والمعابد
المصرية، ويرفض الفرعون راداً ذلك إلى أسباب اقتصادية بحتة. لكن
العقاب الإلهي الذي ينفذه ريدلي سكوت بمشهد التماسيح في النيل وهي
تنقض على سفن الفرعون، والجراد والذباب الطنان ومياه بلون الدم
الأحمر تغرق المحاصيل الزراعية والدمامل والقيح الذي يعلو الوجوه
المصفرة لا يقنع رمسيس بمبدأ التفاوض، بل إنه يزداد تعنتاً، ويبدأ
بإعدام عائلة من بني إسرائيل كل يوم، وهذا يدفع موسى لتدريبهم على
حمل السلاح، وقبل أن يقوم الذات الإلهية بقتل أطفال الفراعنة في
ليلة ظلماء ومصيرية وسط تردد واضح من موسى ورفضه للفكرة من أساسها،
يدعو بني إسرائيل عبر موسى إلى ذبح الخرفان ودهن واجهات بيوتهم بها،
وبهذا يُنقذ أطفالهم من مصير مماثل.
رمسيس الثاني الهائم، المفجوع بولده الميت يطلب من موسى أن يقود
شعبه باتجاه أرض الكنعانيين والخروج من مصر. ويلي ذلك بقية القصة
وإن ساورها تحريف حول هوية الرحلة نفسها، والسيف الذي يلقي به في
البحر، بدل العصا الذي يشقه به، وسقوط الشهب في الماء، وبدء
انحساره حتى يعبرون، مكونات بصرية مدهشة لخلطة درامية تائهة، لا
يكتمل قوسها بالألواح الحجرية التي ينقش عليها موسى الوصايا العشر.
حتى النقد العنصري الذي وُجّه لريدلي سكوت لاستخدامه وجوهاً غير
بيضاء في فيلمه جابهها بعنصرية أشد مكراً حين عزا ذلك إلى السياسة
المالية التي تنتهجها شركات الإنتاج، ولولا ذلك لبلغت كلفة إنتاج
الفيلم أرقاماً خيالية من دون أن يبذل جهداً في الدفاع عن ذوي
السحنة السمراء في فيلمه، باعتبارهم قاطني هذه الأراضي التي تدور
عليها أحداث فيلمه، وبغض النظر عن انسحابه من الدفاع عن خياراته
الفنية، فإن ممثليه السوري غسان مسعود (بدور مستشار رمسيس الثاني)،
والفلسطينية هيام عباس (بدور بثيا)، والإيرانية غلشيفتا فرحاني
(بدور نفرتاري زوجة رمسيس الثاني) قاموا بأداء أدوار باهتة وغير
مقنعة البتة، ولا يمكن تبريرها، إلا بسوء إدارة ريدلي سكوت لهم،
وكأن فهمه لفن الممثل هنا يخونه، كما تخونه حبكة تسليعية واضحة
لقصة فيلم منع في مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة، لكنه
أجيز في لبنان مع تنويه في مقدمة الفيلم، بأنه من نسج خيال المؤلف،
ما يعني أنه مسؤول عنه. بالتأكيد خطوة شجاعة يقوم بها الرقيب
اللبناني يمكن التأسيس عليها لاحقاً في معركة الحريات. لكن فيلم
«الخروج: آلهة وملوك» قد لا يستحق معركة مصيرية من هذا النوع
للتشبث بعرضه، حتى لو كان ريدلي سكوت هو من يقف وراءه. فهذه معارك
مكلفة تُدار من أجل علامات فنية فارقة، تنتمي لسينما ملحمية
وإنسانية كبيرة، وليس لمجرد تكديس بضائع متهافتة يقوم عليها صنّاع
مهرة.
عندما يُفسد السجن قلب الفتى الأميركي
محمد موسى
لم يُثر الفيلم الأميركي الروائي «فتيان أبو غريب»، باكورة المخرج
الشاب لوك موران والذي قام بالتأليف والبطولة أيضاً، انتباهاً
يُذكر عندما عرض في شهر آذار (مارس) الماضي، لا لدى الجمهور ولا في
المهرجانات السينمائية. انحصرت عروض الفيلم في بضع صالات سينمائية
في الولايات المتحدة الأميركية، ولم يصل إلى جمهور خارجها، كما لم
يلفت الفيلم اهتمام المهرجانات السينمائية، حتى تلك المتخصصة
بالقضايا الإنسانية والسياسية التي خاصمت الفيلم، رغم أنه يعد
الأول روائياً الذي يقدم عوالم من سجن «أبو غريب» العراقي، عندما
أدارته قوات عسكرية أميركية أثناء حرب العراق الأخيرة.
وحتى بعد عرض الفيلم الروائي «كامب أكس راي» في شهر تشرين الأول
(أكتوبر) الماضي، وهو أيضاً الأول لمخرجه الأميركي بيتر ساتلر
ويقدم سجناً إشكاليّاً آخر (هو غوانتانامو)، لم تتم استعادة ذكر
فيلم «فتيان أبو غريب» وقراءته مجدداً، ووضع الفيلمان معاً في سياق
فنيّ تاريخي واحد، بخاصة أنهما ينطلقان من أحداث مُعاصرة جدليّة
مازالت حاضرة في الوجدان الجمعي، ويتشابهان في معالجتهما الدرامية،
وإن اختلفا كثيراً برؤيتهما ومُحصلاتهما النهائية.
«بطلان» أميركيان
تتشابه معالجة الفيلمين ليوميات بطليهما الأميركيين الشابين في
سجني أبو غريب وغوانتانامو، إذ تقدَّم في ترتيب زمني تصاعدي، من
اللقاء الأول مع العالم العنيف «الميؤوس منه» الذي وصلا إليه،
والتغيير الذي يصيب روحيهما، ثم الاتجاهين المتعاكسين الذين
يسلكانهما بعد التجربة تلك. يشكل البطلان المدخل الذي سيمر به
المشاهد إلى عوالم السجنين المثيرين للجدل، في أسلوب سينمائي شائع
في السينما الروائية، تقليدي في جوهره، يستهدف في العادة الجمهور
الواسع، عبر مرويات يتصدرها أبطال مألوفون لديه ويتكلمون لغته،
ليتابع قصصهم، يمنحهم ثقته، وربما يتقبل في النهاية الخواتيم التي
تصل إليها حكاياتهم (ضمن الاتجاه ذاته اختار الفيلمان أن تكون
شخصيتا سجينيه من الذين عاشوا في أوروبا ويتكلمون الإنكليزية).
يصل «جاك فارمر» (عسكري «فتيان أبو غريب») و»كول» (جندية «كامب أكس
راي») إلى السجنين بعد أن تركا قريتيهما الأميركيتين الصغيرتين
لخدمة جيش بلدهما. وإذا كان السجنان سيرمزان للعالم القاسي الخارجي
المعاصر الذي ينتظر الجميع عندما يودعون طفولتهم، والمكان الذي
يفقد فيه الجنود «عذريتهم» الأخلاقية، إلا أن هناك في الفيلمين ما
يقترح أن «العنف» هو في جذور الحياة الأميركية وصنو حياة المرء
هناك، وخاصة في فيلم «فتيان أبو غريب»، الذي سيمهد ويأخذ بعض
الوقت، قبل أن يقع الاختيار على بطله ليقوم بمهمة حراسة سجناء في
سجن أبو غريب، القريب من العاصمة العراقية بغداد، بعد أن كان
جندياً عادياً في القاعدة الأميركية التي اتخذت من السجن العراقي
الشهير مقراً لها. فيما تصل «كول» مباشرة إلى «غوانتانامو»، السجن
الذي تحول إلى بوتقة لمشكلات العالم الراهن، ومُعضلة لا يعرف أحد
كيف يمكن التعامل معها.
تحرك علاقات إنسانية تنشأ بين كل من جندي الفيلمين وسجناء رتابةَ
أيام حياة السجن للسجناء والسجانين على حد سواء. ستمنح تلك
العلاقات الفيلمين الأميركيين الفرصة للتعرض للجانب الإنساني
المُغيب والضائع وسط غبار الحروب والمعارك، عبر منح «وجوه» إلى
الأرقام والأسماء المُجردة. يتعرف «جاك فارمر» على عراقي كان يعيش
في أوروبا، قبل أن تقذف به الأحداث إلى سجن أبو غريب. تكاد صداقة
ما أن تنشأ بين الشابين الأميركي والعراقي الذي كان الوحيد من
السجناء في الفيلم الذي يملك شخصية سويّة واضحة المعالم. أما
العلاقة بين «كول» وسجينها الإيراني المحتجز في غوانتانامو (علي)
فهي أكثر تفصيلاً وعمقاً، وستكون فاصلة لجهة تحديد البوصلة
الأخلاقية لموقف «كول» مما يجري حولها. كما أن شخصية السجين ذاك
(يلعب دوره بطل فيلم «الانفصال» الإيراني الموهوب پيمان مُعادی)
ستأخذ ملامح خاصة، تتجاوز التقديم الأولي لها، لتتحول الشخصية،
وخلال مسار الفيلم، إلى أساسية وفعالة، وتستحوذ المأساة التي تعيش
فيها على مساحة درامية مساوية للوقت المخصص للجندية الشابة، الأمر
الذي تبدى جلياًّ في الربع الأخير من الفيلم.
«شيطنة» المساجين
وإذا كانت بعض تفاصيل فيلم «فتيان أبو غريب» لها أساس تاريخي
مُوثق، إلا أن المخرج لم يكن معنياً بتقديم صورة مُعمقة عن السجن
ضمن سياق بحثي جديّ، أو مُهتماً بتقديم مجتمع المساجين أو حياتهم
قبل الحبس. هذه التفاصيل، إن وجدت، فستكون مناسبة جديدة لشيطنة
هؤلاء المساجين، حتى العلاقة الوحيدة التي نشأت بين «جاك فارمر»
ومسجون عراقي، وصلت إلى خاتمة صادمة، تُشير إلى أن لا أمل على
الإطلاق من العالم الذي أتى منه هؤلاء السجناء. الفيلم أيضاً هو في
مجمله صدى لأفلام حربية سابقة، كما أنه يعاني من ضعف الإمكانيات
الإنتاجية ومحدودية خبرة المخرج، فالفيلم الذي صور في ولاية تكساس
الأميركية، وتجنب المشاهد الواسعة أو القتالية (بسبب تكلفة هذه)،
واتجه إلى المشاهد المُقربة، لكن هذه بدت عالقة أحياناً بين
السينما النفسيّة الفنيّة المُعمقة، وأخرى تجارية عاطفية ذكورية
تتجه إلى جمهور كبير، غير معنيّ كثيراً بهوية العدو الذي يقاتل
جنود بلده، بقدر تلهفه إلى مشاهدة عنف أو شراسة هذا العدو تمهيداً
للتمتع بهزيمته، دون أن يفي الفيلم أياً من الفئتين حقها.
على عكس الفيلم السابق الذي بدأ بطموحات كبيرة وتعثر كثيراً فيما
يَود قوله وانتهى إلى فراغ، يرتكز فيلم «كامب أكس راي» على علاقة
إنسانية لن يحيد عنها، بين جندية أميركية وسجين شرق أوسطي. ستكون
هذه العلاقة المركز الأخلاقي الذي يدور حوله الفيلم، والمدخل
لتناول موضوعه إشكاليّة مثل سجن «غوانتانامو». سيمر بعض الوقت قبل
أن تنضج ملامح تلك العلاقة، والتي سيكون من المبسط كثيراً إدراجها
ضمن العلاقات العاطفية التقليدية. هي تكاد أن تكون تعارفاً أوليّاً
بين عالمين حولتهما أحداث العقود الأخيرة إلى عدوين لا أمل في
التقارب بينهما، هما الآن على جانبين مختلفين لقضبان زنزانة، لكن
الهوة التي كانت شاسعة في البداية بين الشخصيتين يتم ردمها ببطء.
يبرز الفيلم موهبة تبشر بالكثير للمخرج بيتر ساتلر، بجرأته
والصرامة والعمق التي نسج بها تفاصيل فيلمه. هو كان ينقل بطليه
بسلاسة من واقع السجن المُعقد القاسي، إلى عالم آخر ساكن يكاد يكون
منقطعاً عن محيطه، في فعل تمرد يشرك المتفرج أيضاً. وبعد أن بدا
الفيلم في بدايته وكأنه يرافق اكتشافات بطلته (أداء رائع للممثلة
الشابة كريستين ستيوارت) للعالم من حولها، تحوّل في ربعه الأخير
إلى السجين في الفيلم، ليتصدر هذا الصورة والاهتمام. حتى الكاميرا
غيرت موقعها وكأنها تعكس هذا التبدل، فبعد أن كانت عينا «كول» لما
حولها، انتقلتا تدريجياً إلى داخل زنزانة «علي»، وأصبحتا تصور
العالم الخارجي عبر الكوة الصغيرة لهذه الأخيرة، في لعبة مرايا
تتقصد إثارة الأسئلة والمُحاسبة ونبش المُسَلَّمات، كتذكير جديد
بما تخلفه الحروب العمياء من ضحايا.
«سلّم إلى دمشق» وخطابه السينمائي الملتبس
أوستند (بلجيكا) - هوشنك أوسي
بين فيلم «سلّم إلى دمشق» للمخرج السوري محمد ملص، والذي عرض
أخيراً ضمن مهرجان الكاميرا العربية في مدينة روتردام الهولنديّة،
وفيلم «أحلام المدينة» الذي أخرجه ملص نفسه عام 1984، نحو 30 سنة.
وكلا الشريطين السينمائيين، يروي حكاية مدينة واحدة، أو حكاية وطن،
هو سورية، والتحولات التي طرأت عليه، خلال فترتين متباعدتين، من
دون أن ننسى أن «أحلام المدينة» يرصد حقبة الخمسينات، وما شهدتها
من انقلابات عسكريّة وتأثيرها في حيوات الناس والمجتمع، مادحاً
ومشيداً بالناصريّة، والوحدة بين سورية ومصر، على أنها الحلم
الكبير من «أحلام المدينة»، الذي تحقق! بخاصّة في المشهد الأخير
الذي يقول فيه أبو النور (أمين زيدان) للطفل ديب، وهما ينظران إلى
السماء المقمرة: «الله بذاته مع الوحدة»! مع الأخذ في الاعتبار أن
ملص حقق «أحلام المدينة»، بعد مضي 23 سنة على فشل «حلم» الوحدة!
بينما يتناول «سلّم إلى دمشق» تأثير الثورة السوريّة في الشام،
ومعاناة الناس، عبر رصد حياة مجموعة من مستأجري أحد البيوت
الدمشقيّة القديمة، وتفاعلهم مع الأحداث وأصوات الانفجارات وأزيز
الرصاص، وهدير الطائرات.
الانتحار حزناً
تدور أحداث الفيلم (97 دقيقة) بين مدينتي طرطوس ودمشق السوريتين،
عبر رصد حياة شخصيّة الفتاة السوريّة الساحليّة، غالية، المسكونة
بروح فتاة أخرى (زينة) فقدت حياتها انتحاراً - غرقاً، حزناً على
اعتقال والدها، يوم ولادة غالية. حيث حاول ملص الاستفادة من عقيدة
التقمّص الموجودة في التراث والفقه العلويين، بطريقة سينمائيّة،
عبر استحضار غالية ذكريات زينة، بحيث تصبح معاناة والد الأخيرة
(السجين السياسي) معاناة غالية أيضاً، إضافة إلى أن طيف زينة لا
يغادر غالية، محدثاً قلقاً وإرباكاً وحزناً مستديماً في حياتها.
تقرر غالية السفر إلى العاصمة دمشق، لدراسة التمثيل، علّها بتغيير
المكان، والأجواء والمناخات، تتخلّص مما هي فيه من ازدواج
الشخصيّة. وهناك، تلتقي فؤاد، وهو مخرج شاب وطموح، ومهووس
بالسينما، تثير انتباهه ازدواجيّة شخصيّة غالية، فتنشأ بينهما
علاقة صداقة، ويساعدها في إيجاد سكن، ضمن منزل دمشقيّ، تملكه سيّدة
مسنّة، يستأجر غرفه أشخاص من مناطق سوريّة عدّة، منهم فؤاد نفسه.
داخل المنزل، تنشأ حكاية حبّ بين غالية وفؤاد الملقّب بـ «سينما»،
ويقرر الأخير أن يحقق فيلماً عن شخصيّة «زينة» - غالية. في الوقت
عينه، تتصاعد الاضطرابات في سورية، منتهكةً تدريجاً عزلة الشخصيات.
وتتداخل قصص الموجودين في المنزل الذين ينتقدون حال الحرب التي
تعيشها سورية، ويريدون الحرية والتغيير، مع توجيههم النقد
للاستبداد الحاكم أيضاً. وصحيح أن تحميل الفيلم نظام الأسد، من دون
الإشارة إليه بالاسم، مسؤوليّة ما يجري في سورية، وطرحه أسئلة
مفتوحة، من ضمنها، حول دور الفن والسينما وجدواهما، في مراحل
الحروب والأزمات، فيه جرأة كبيرة، قياساً بالوضع الذي تعيشه سورية،
والتوحّش الذي تعبّر عنه آلة نظام الأسد القمعيّة، إلا أن، الصحيح
أيضاً أن الفيلم يشكو من نقاط ضعف وثغرات عدة، نوجز منها:
1 - فيلم «سلّم إلى دمشق» الذي تمّ إنتاجه عام 2013، ليس مطالباً
بأن يكون منتمياً إلى حقبة «الواقعيّة الاشتراكيّة» في السينما، كـ
«أحلام المدينة»، لكنه سقط في طغيان المعالجات الفنيّة الرمزيّة
على لغة الفيلم، عبر محاولة دمج تقنيّات المسرح ولغة الشعر في
التركيبة الدراميّة للفيلم، في شكل مفتعل!
2 - السيناريو المرتبك، ورخاوة الحوارات بين أبطال العمل، إلى جانب
رخاوة أداء الممثلين وبرودته. وقد يمكن تبرير فتور أداء الممثلين،
بأن الممثلين المحترفين المعروفين المقيمين في سورية، غالبيتهم مع
نظام الأسد، والبقيّة الباقية تتجنّب المشاركة في العمل، خشية
إثارة غضب النظام، باعتبار أن الفيلم يصنّف على أنه مع الثورة وضد
النظام! لذا، استعان ملص بممثلين هواة، ما انعكس سلباً على حيوية
الأداء وحركيّته والسياق العام للفيلم.
3 - استخدام المشاهد التعبيريّة، كمشهد انعكاس الصورة على الماء،
وتعريض الصورة للارتجاج والتبدد، مع إضافة مؤثرات صوتيّة، بكثرة
إلى درجة الملل، إذ سبق أن استخدم ملص هذه التقنيّة أثناء صوغ
المشهد التعبيري في فيلمه «باب المقام» الذي أخرجه عام 2005. كما
أن مشهد محاولة غالية - زينة، فتح باب موصد عنوةً، باليد والجسد
والرأس (الدقيقة 75)، سبق أن استخدمه ملص قبل 30 سنة في «أحلام
المدينة» عبر شخصيّة الطفل ديب (الدقيقة 115).
4 - باستثناء فؤاد وغالية ووالدها، كل أبطال العمل أدّوا أدوارهم
ضمن منزلين، في دمشق وطرطوس. زد على ذلك، لم نجد أحداً من أبطال
العمل، مشاركاً في تظاهرة أو اعتصام، يشير إلى تأييده الثورة
السوريّة، بخاصة، الناشط السياسي حسين. علماً أن في المشهد الأول
من الفيلم، أثناء وضع فؤاد باقة من الآس على ضريح السينمائي الراحل
عمر أميرلاي، همس للقبر قائلاً: «كسرنا حاجز الخوف»!
5 - تكرار استخدام ممارسة الجنس بين المستأجرين، ضمن المنزل
المشترك، في ثلاث حالات: الكاتب زرزور مع لارا، (مصممة الإعلانات)،
فؤاد مع غالية، وحسين مع نوارا. علماً أن صاحبة المنزل متديّنة، زد
على ذلك أن المناخ المحافظ الذي تتميّز به دمشق القديمة، لا يجعل
الأمر على مثل السهولة التي تطالعنا في الفيلم! والسؤال: ما هي هذه
الصدفة التي تجمع أشخاصاً ضمن منزل، غالبيتهم تنشط في الحقل
الثقافي (مخرج سينمائي، نحّاتة، كاتب، مصممة إعلانات، ناشط سياسي)،
وأصحاب أفكار وميول مشتركة؟!
6 - جاء العمل أحادي الجانب، بحيث تجنّب تناول رأي أو موقف أو
ممارسات الموالين لنظام الأسد، ومنطقهم وحججهم في الدفاع عن
النظام؟! ذلك أن إظهار تعامل الموالاة مع المعارضة، هو من صلب
اهتمام السينما الموضوعيّة. وعليه، كان من المفترض أن يوجد شخص،
على الأقلّ، ضمن المستأجرين في المنزل، له مواقف موالية لنظام
الأسد، وانعكاس ذلك على طريقة تعامله مع شركائه في المنزل!
فالانحياز للثورة، ومناهضة النظام المستبد، لا يعني التغافل عن دور
وحجج وأداء الموالين له، وهم ليسوا قلّة، على صعيد النخب والعوام،
بخاصّة في حقل الدراما والسينما السوريين! وربما ازدواجيّة
الشخصيّة الموجودة لدى غالية، هي إيحاء أو إشارة نقديّة خافتة
موجّهة إلى الكثير من النخب السوريّة، ممن يريدون التغيير، وليسوا
مع الثورة على نظام الأسد، بكل ما لكلمة ثورة من معنى وآلام
وعذابات ودماء ودمار. الذين يعيشون حالة فصام، تعبّر عن نفسها وفق
مع وضد الثورة في آن. ومع وضدّ النظام في آن. هذه النوعيّة
المرتبكة من البشر، يحلو لها العوم في المناطق الرماديّة، ولا
تعتبر من مصلحتها اتخاذ موقف واضح وصريح، لا لبس فيه، مما يجري في
سورية!
تصوير وطن معذّب
أيّاً يكن من أمر، فقد سعى فيلم «سلّم إلى دمشق» إلى تصوير جانب من
حياة وطن معذّب، يتلظّى بنيران الحرب الأهليّة. وقد نجح إلى حدّ ما
في مسعاه. ولكن، كأنّ ملص أراد القول، عبر فيلمه هذا: لم تصل شظايا
الحرب الأهليّة بعد إلى داخل ذلك البيت الدمشقي الذي يسكنه شباب
وشابات من مكوّنات الشعب السوري! إذ لا زالت العلاقات الاجتماعيّة
بين سكّان المنزل، قويّة ومتينة، كأنّهم أسرة واحدة. ولكن الواقع
هو خلاف ذلك تماماً! والصرخة الأخيرة التي يطلقها الفيلم في
نهايته، عبر حركة مسرحيّة مفتعلة، هي: الحريّة، الحريّة من نظام
الاستبداد، ومن الحرب أيضاً، تشي بأنه فقد الأمل في النظام والثورة
في آن، ويريد وضح نهاية لهذه التراجيديا الكونيّة التي تعيشها
سورية.
ولكن الخطاب السينمائي لملص في «أحلام المدينة»، و «الليل»، و «باب
المقام»، كان أكثر جاذبيّة وغير مرتبك أو مشوّس وملتبس، قياساً بـ
«سلّم إلى دمشق». وعليه، إذا كان الجهد الذي بذله ملص في «سلّم إلى
دمشق»، وضمن الظروف والشروط التي تعيشها سورية، يستحق التحيّة
والشكر، فإن في الإمكان اعتبار هذا الشريط، «خطوة للوراء» قياساً
بأعماله السابقة، على عكس ما يقول الكثير من القراءات النقديّة
التي أغرقت «سلّم إلى دمشق» بالمديح والإطراء، من دون أن ننسى أن
محنة الشعب السوري والحرب الأهليّة التي يعيشها السوريون، هي أيضاً
منحت دفعاً معنويّاً وإعلاميّاً لهذا الفيلم، وعززت رواجه.
شريف عرفة: لا أقرأ النقد إلا إذا كان واقعياً
القاهرة - يحيى جابر
أكد المخرج السينمائي المصري شريف عرفة أنه على عكس ما يشاع على
تواصل مع الفنان عادل إمام، وليس هناك خلاف بينهما. وأضاف عرفة في
حديث لـ«الحياة»: «لن أنسى نشأتي مع والدي الذي كان مخرجاً
معروفاً، وتأثرت به كثيراً وتعلمت منه المهنة، وله نصائح لن
أنساها، ومنها ألا أندمج بقوة مع محيطي الفني، وهو ما مضيت عليه
حتى يومنا هذا».
وتمنى عرفة أن تفتح أبواب السينما في الخليج لمشاهدة الأفلام
المصرية، وعمل التسويق اللازم لها، وكذلك تمنى أن يكثر المخرجون
المحترفون ليختفي «الهواة»، إضافة إلى رغبته في عودة السينما
المصرية إلى سابق عهدها الجميل.
·
من هو شريف عرفة كما تحب أن تعرف عنه؟
- أنا مخرج تربيت في كنف والدي، وبدأت مساعد مخرج ثم أصبحت مخرجاً.
وتدرجت في عملي إلى أن حصلت على الجوائز والنجاحات الفنية.
·
هل كان لوالدك دور كبير في مسيرتك الفنية؟
- بالتأكيد كان له دور كبير جداً، وما زلت أحمل ذكرياته في خيالي
دائماً.
اجتماعيّ ولكن...
·
ما هي أبرز كلماته التي علقت في ذهنك ولن تنساها؟
- كثيرة لكن الأبرز هو عدم الاندماج في المحيط الفني القريب مني،
ولذلك فأنا اجتماعي لكن بشكل محدود.
·
ماذا عن الفنان عادل إمام، وهل انتهت العلاقة بينكما؟
- بالعكس ما زلنا على اتصال إلى الآن، وهو أول من بارك لي بنجاح
فيلم «الجزيرة 2»، الذي حقق أرقاماً قياسية في نسبة المداخيل
تجاوزت 32 مليون جنيه كأفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية حتى
الآن.
·
هل من الممكن أن نشاهد أفلاماً مصرية ذات تقنية عالية ومقاربة
للأفلام الأميركية في قصصها وإخراجها وطريقة تناول الأحداث؟
- حالياً صعب والسبب ضعف الإمكانات في السينما المصرية والعربية،
السينما لدينا تحتاج إلى تقنية عالية المستوى من جميع النواحي
التقنية والتصويرية والمؤثرات.
·
كيف ترى دور العرض السينمائي في مصر والعالم العربي؟
- في السابق كان هناك نشاط عاد وتراجع، أما الآن فإن هذا النشاط
بدأ يعود تدريجياً. ونذكر جميعاً أن في الماضي كان هناك دور عرض
كثيرة وصلت إلى الأماكن الريفية والمحافظات. وكانت بلدان الخليج
العربي سوقاً شديدة الأهمية لأفلامنا، وما نتمناه حالياً عودة قوية
لدور العرض وتعاون دور السينما الخليجية لتسويق أفلامنا وعرضها في
شكل فعال، لأن ذلك سيصب في إنتاج حيوي وفعال وسيجلب المكاسب
والأرباح ويطور العمل.
·
هل أنت كما يقول عنك البعض صانع للنجوم؟
- أنا لا أعتقد أنني أصنع نجوماً. ولكن من المؤكد أنني أساهم في
اكتشاف مواهب، وفنانين يمتلكون الموهبة وأحاول أن أقدمهم بالشكل
الذي يليق بهم.
·
هل تستطيع فرض «كومبارس» ليكونوا أبطالاً لفيلم بوجود نجوم بارزين؟
- لا أفرض بل أتلمس وأستشعر موهبة أي إنسان إن كان حقاً يتمتع
بالموهبة، فأتعامل معه عندذاك على أنه صاحب موهبة تستحق أن تنال
موقعاً مرموقاً. وأعتقد أن هذا جزء من دوري كمخرج يهمني إيصال
رسالتي التي اقتنع بها. ولا شك أنني في الأفلام التي حققتها،
استطعت توظيف عدد من الشباب في أدوار تليق بهم حتى أصبحوا نجوماً.
·
كيف تتعامل مع ما يُكتب في الإعلام؟
- أنا في الحقيقة لا أقرأ ما يكتب عني في الإعلام منذ عام 1987، أي
منذ اكتشفت أن أحد الإعلاميين البارزين انتقد واحداً من أفلامي
وحين التقيته سألته بكل هدوء عما وجده في الفيلم مدعاة للانتقاد،
فقال لي بكل بساطة إنه لم يشاهد العمل. منذ ذلك الحين توقفت عن
متابعة ما يكتب عني في الإعلام، ولكنني في المقابل أقرأ ما يكتب
عني إن شعرت أنه نقد واقعي أو من نوع الملاحظات البنّاءة.
·
هل تخاف من مخرجين منافسين؟
- بالعكس يسعدني وجود مخرجين محترفين جيدين فبوجود مثل هؤلاء، يزيد
التنافس الإيجابي ويندثر «الهواة» المزيفون الذين يضرون السينما.
·
إن وجدت رواية غريبة وجميلة ومشوقة آتية من أي بلد عربي هل تعتقد
أن بالإمكان ترجمتها كفيلم من إخراجك؟
- نعم ولكن شرط أن اقتنع بالرواية والرسالة التي أود إيصالها ومدى
توافر ظروف النجاح للفيلم.
·
هل لديك شروط في تعاونك مع المستثمرين؟
- لا يوجد لدي أي مانع بشرط أن تكون لدي القناعة مع تفاصيل الاتفاق
ومضامين ذلك التعاون.
·
ما رأيك بالفنانين الخليجين وبخاصة في مجال السينما؟
- أرى أن كثراً منهم يمتلكون الموهبة. وهذا ما يجعلني أتمنى ازدياد
إنتاجهم السينمائي، ولقد سمعت أخيراً عن وجود مخرجة سعودية ذاع
صيتها (يقصد المخرجة السعودية هيفاء المنصور التي اشتهر فيلمها
الروائي الطويل الأول «وجدة» في أنحاء العالم).
«سبات شتوي» للتركي جيلان:
ثلاث ساعات للتنقيب عمّـا تحت الصورة الكاذبة
شريف حتاتة
يستغرق عرض فيلم «سبات شتوي»، ثلاث ساعات وثلث الساعة تمرّ أساساً
في حوارات بين ثلاثة أشخاص وربما أكثر، ولكنه عندما عرض في صالة
قاهرية تتسع لما لا يزيد على خمسمئة شخص لم يغادر خلال العرض سوى
عدد من المشاهدين يعدّ على أصابع اليد الواحدة. هذا ما حدث عند عرض
فيلم «بيات شتوي» في بانوراما الأفلام الأوروبية الذي نظمته
المخرجة ماريان خوري في القاهرة قبل فترة. مخرج هذا هو التركي نوري
بيلجي جيلان. حققه عام 2014 ليحصل بعد أشهر على جائزة السعفة
الذهبية وجائزة الفيبرسي في مهرجان «كان» الدولي. السيناريو حصيلة
جهد مشترك بين المخرج وزوجته إبرو، والحوارات التفصيلية الكاشفة
والعميقة فيه تشهد على أنهما بذلا جهداً مضنياً، وتأملاً طويلاً في
صياغة وتحليل دخائل الشخصيات الرئيسية للفيلم ودوافعها الإنسانية.
هذا لا يعني أن ما يميز السينما بكونها فناً مبنياً على الصورة كان
غائباً عن الفيلم، بل على العكس فقد تميز بفن تصويري غير عادي
للمحيط الذي دارت فيه أحداثه، وللشخصيات التي حكى عنها. اختار
المخرج مساحة ممتدة حتى رؤى العين، مدينة صغيرة في منطقة تفصل بين
جبالها سهول مغطاة بالثلج تقع في الأعماق البعيدة للأناضول. بيوت
المدينة تكاد تكون محفورة في الصخر، بل هي أحياناً كهوف توحي بأنها
بقايا حضارة قديمة، محاطة بمساحات شاسعة قام المصور جوهان ترياكي
بتصويرها في كادرات واسعة، وبانورامية متقنة التفاصيل، محسوبة بدقة
من حيث الزوايا والحجم، ونوع الإضاءة المستخدمة فيها بحيث يجد
المشاهد نفسه غارقاً منذ البداية في محيط موحش وغريب، لكنّ فيه
جمالاً يخطف الأنفاس.
حجر مفاجئ
في هذه المدينة فندق صغير مملوك لإيدين (قام بدوره الممثل هالوك
بلجينر). وإيدين هذا رجل تجاوز مقتبل العمر، خشن الملامح، بارز
الأنف تحيط بوجهه لحية كثّة مجعدة، شاب فيها الشعر. كان ممثلاً في
المسرح لسنين طويلة، ثم اعتزل مهنته، واستقر في هذا المكان. إنه
ثري يملك بيوتاً يتقاضى من المقيمين فيها إيجاراً شهرياً، صاحب
ثقافة واسعة، يفكر في تأليف كتاب عن تاريخ المسرح التركي، ويساهم
في الجريدة المحلية بمقال أسبوعي يشعره بمقدار من العلو في مكانته
الأدبية سكان المدينة.
في بداية الفيلم نراه راكباً سيارة جيب يقودها مساعده الإداري، ثم
نفاجأ بحجر كبير يلقيه صبي على زجاج السيارة فينكسر بصوت
كالانفجار. يمسك المساعد بالصبي ويتوجهان به إلى منزل أبيه إسماعيل
للشكوى منه. يتناقش المساعد مع إسماعيل فيتضح أن هذا لم يسدد إيجار
منزله منذ ثلاثة أشهر وأنه نتيجة لذلك بعث إليه بجابٍ للديون ما
اعتبره، هو وشقيقه حمدي إمام المسجد، إهانة كبيرة. في هذه الأثناء
يقف إيدين بعيداً، لا يتدخل في ما يدور كأن الأمر لا يعنيه، ما
يكشف لنا أنه يتعامل مع السكان بشيء من التعالي ومن بعد، فمثل هذه
الأمور لا تهمه في شيء. ينتهي الشد والجذب المصحوب بمحاولات للعراك
من جانب إسماعيل فينسحب إيدين هو ومساعده، وينصرفان في السيارة
الجيب.
تقيم في الفندق مع إيدين زوجته نهال وهي شابة جميلة تساعده في
إدارته (قامت بدورها الممثلة ميليسا سوزن) وشقيقته المطلقة حديثاً
نكلا (تقوم بدورها ديمت أكباج). يحيا الشخصيات الثلاث في هذا
المكان الموحش المعزول ولكل منها مشاكل تعانيها. الزوجة الشابة
تشعر بأنها مدفونة في منفى، بعيداً من الناس، لم تحقق ذاتها، وأن
فرص التغيير مغلقة أمامها، فتقوم بتشكيل لجنة من بعض السكان مهمتها
إصلاح المدارس التي تدهور فيها البناء، وساءت أحوالها. في هذا
السبيل تقوم اللجنة بجمع تبرعات تشرف نهال عليها، وتمسك بحساباتها.
الشقيقة نكلا تشعر بأنها تسرعت في الطلاق من زوجها السكير بينما
كان يمكن أن تبقى معه، وتساعده على أن يقلع عن إدمانه فينصلح حاله
وتعيش حياتها. أما إيدين فيبدو عليه، في الظاهر على الأقل، أنه
تكيّف مع الوضع الذي أصبح فيه، راضياً عن حياته. مع ذلك يحلق جو من
الفشل على هذا الوضع، لكنه لا يبدو على إيدين أن هذا هو شعوره.
نتيجة لعزلتهم عن العالم الخارجي يجدون أنفسهم في مواجهة بعضهم
بعضاً، لا يفعلون شيئاً ذا بال ما عدا إيدين الذي يبدو مقتنعاً بما
يقوم به. عنده إحساس بالتفوق الثقافي يظهر في تعليقاته الساخرة، في
ميله إلى التفلسف المشوب بالغرور، والتعالي على الآخرين، تعليقات
يُبدي فيها قلة اكتراث بما يعانون منه، وانطباعاً بأن لديه من
المعرفة، والخبرة ما لا تملكه زوجته الشابة، أو شقيقته الممرورة.
لكن سهامه الموجهة إليهما تواجهه بسهام مضادة، ويدور في مكتبه حوار
طويل بينه وبين شقيقته نكلا يصل إلى التصارح المتبادل الجارح
العنيف، فكل منهما ينقب في الأخطاء، ونقاط الضعف التي يراها في
الآخر.
ويتفجر الموقف عندما يتدخل إيدين في ما تقوم به زوجته نهال من نشاط
اجتماعي. يشير أثناء مناقشته معها إلى أنها قليلة الخبرة في
المحاسبة المالية، ما يشكل خطراً عليها وعلى سمعتها بين الناس،
وإلى أنها قليلة الإدراك بطبيعة الشخصيات التي تتعامل معها في
اللجنة، ومنهم أحد المدرسين في المدينة الذي سمعه يتناقش معها في
إحدى المناسبات عن المشاريع التي تشرف عليها بأسلوب فيه تقليل من
قيمة ما تفعله. تتهمه نهال بأنه يريد أن يحطم العمل الذي تقوم به.
تثور وتتهمه بالأنانية، بالتعالي على الآخرين، بأنه لم يكن يشعر في
أي وقت بالمشكلة التي تعاني هي منها. وتعبّر عن إحساسها بالدونية،
بأن حياتها في هذا المكان جرداء لا تحقق لها ذاتها. فيتأملها إيدين
الصامت من طرف عينه بنظرة من يفكر في أن يمكر بها، فتلقي بأوراق
الحسابات على الأرض وتبعثرها. عندئذ يتطوع بمراجعة الحسابات
والتأكد من سلامتها ثم ينصرف، لكن في اليوم التالي يعود بملف
الأوراق ويقول أنه لن يتدخل بعد ذلك في شؤونها، ثم يعطيها مظروفاً
فيه مبلغ كبير من المال، قائلاً إنه يتبرع به للجنة، ويطلب منها
ألا يأتي ذكر لاسمه، ثم يقول أنه قرّر ترك الفندق لمدة ثلاثة أشهر،
والذهاب إلى إسطنبول، وأنه سيفكر بعدها في ما يمكن أن يفعله،
وينصرف. في الصباح يقوده مساعده إلى محطة القطار، لكن مع قرب موعد
وصوله هذا بدقائق يتراجع عن قراره بالسفر، ويتجه إلى بيت أحد
أصدقائه ليقضي الليلة عنده، ومع المدرس في جلسة من الحوار المحتدم،
طبعه شرب كؤوس متتالية من الخمر.
في هذه الأثناء تتوجه نهال إلى بيت إسماعيل وتعرض عليه المبلغ الذي
تركه زوجها. لكن إسماعيل يمسك بالمظروف ويفرك الأوراق النقدية
الكثيرة الموضوعة فيه، ثم يلقي بها في النار الموقدة للتدفئة. يعود
إيدين بعد تلك الليلة إلى الفندق ويتوجه فوراً إلى غرفة نهال، ومن
دون مقدمات يصرّح لها بأنه يحبها، ولا يستطيع أن يعيش من دونها،
إنه سيكون عبدها المطيع يفعل ما تريده وينتهي الفيلم بلقطة له
جالساً في مكتبه، وقد بدأ في مشروع كتابه عن تاريخ المسرح.
قوة الأداء التمثيلي
عنصر مهم في نجاح الفيلم يكمن في إتقان الممثلين أدوارهم، فلولا
قدرتهم على التعبير بحركاتهم، وملامحهم، ونظراتهم عن الحالات
النفسية المتغيرة للشخصيات، لما اكتسب ما قالوه في هذا الحوار
المتعدد الجانب، والممتد طويلاً صدقية. كذلك لولا التصوير المتقن
للأجسام في حركتها، وللوجوه في تفاصيلها، لولا الزوايا، والكادرات
التي أخذت بها الصور والحساسية في استخدام الضوء لما أصبح هذا
العمل فناً سينمائياً مرئياً. وما ينطبق على تصوير الشخصيات الثلاث
الرئيسية والفندق والبيوت ينطبق أيضاً على تصوير الطبيعة الموحشة
لهذا الجزء المدفون بعيداً من أرض الأناضول.
قدم الفيلم فحصاً مكروسكوبياً دقيقاً لحياة ثلاث شخصيات ونفوسها،
فكشف الكثير مما كان يستتر تحت السطح في أعماقها، الكثير من
الضغائن، من إظهارها صورة خارجية عن أنفسها لا تتفق في غالبية
الأحيان مع جوهر كل منها، وكشف كيف يمكن أن يجيد الإنسان التبرير
والإخفاء، ويرسم لنفسه صورة ليست هي حقيقته. إن طول هذا الفيلم
وطول الحوارات التي دارت فيه كان يمكن أن يرهق المشاهد ويتشتت
انتباهه لما يحدث، وأساساً لما يقال، لكن بدا كأن الحاضرين في
الصالة استغرقوا وأحسوا بأنهم وُضعوا هم أيضاً تحت فحص المكروسكوب،
وعلى طاولة التشريح النفسي والإنساني ليجدوا أنفسهم جزءاً مما
يدور. فبدا الفيلم كأنه ضوء ساطع يلقي على المستور من النفس، ودعوة
لمواجهتها على رغم أن فيه أحياناً صعوبة في فهم تعقيد الشخصيات،
والوصول إلى حقيقتها، وعلى الأخص حقيقة الشخصية الرئيسية إيدين وما
تتضمنه روحه من خير وشر.
«آي دل»: راهن أسطورة ما قبل أخرى
باريس - محمد شعبان
كان المخرج السوري زياد كلثوم في زيارة للقرى والمناطق السورية
شمال البلاد، بحسب ما قال، عندما استوقفه مشهد «جمع من النساء
يتحلقن حول امرأة تروي حكاياها غناءً». كان هذا في مدينة عين
العرب، أو كوباني، المدينة التي سيعود كلثوم لزيارتها مرّة ثانية،
لكن بغرض تصوير شريطه التسجيلي «آي دل»، أو «أيها القلب» بالعربية.
على مدى سبع وأربعين دقيقة تقريباً، يوجه المخرج الشاب عدسة
الكاميرا نحو مجموعة من النسوة الريفيات. يروين حيناً، ويغنين
أخرى، التفاصيل الحياتية المتخمة بالقلق والانتظار والفقد. إلا أنّ
الأقواس ستقفل عند هذا الحد، وعلى أهميته، فإنّ البعد السياسي
مستثنى تماماً. رغم ذلك، فقد منع الشريط من العرض ضمن مهرجان «أيام
سينما الواقع» في دمشق، بُعيد انطلاق الثورة السورية عام 2011.
علاوة على هذا وذاك، فإنّ المكان، بريفيته الساحرة -كما يقدمه
الفيلم- يواجه اليوم خطر التلاشي. ليس السبب قِدم تصوير المشاهد،
إذْ التقطت عام 2010، بل لأنّه يتصدّر مؤخراً معظم الشاشات
الإخبارية العربية والدولية، وذلك لما يشهده من هجمات وحشية تقوم
بها الميليشيات التابعة لما يُعرف باسم «الدولة الإسلامية» أو
«داعش».
«إثم» الهوية
إذا ما كان المثل الكردي القائل، «الوعاء الذي تكسره ربة المنزل لا
يُسمع صوته...»، يسِم التعتيم والتضييق اللذين مارسهما النظام
السوري منذ تولى السلطة، وبشتى الوسائل، إزاء القضية الكردية. فلعل
مقولة البير كامو، «الثقافة هي صرخة البشر في مواجهة مصائرهم»، قد
توجز، بالمقابل، حال أصحاب الهوية للخلاص بهذا «الإثم».
وفي «آي دل»، اختار كلثوم الجدّات لتمثيل أصحاب الهوية، أي المادة
الشفوية «الخام». ففي فعل الروي، باللغة الكردية، بدءاً من الحكايا
وعمق تفاصيلها، وليس انتهاء بارتجال الأغاني، تتكشف عن
الثقافة-الصرخة أسطورة تتشكل في راهن التصوير.
لكن ذلك لن يحول دون إصابة المُشاهد بشيء من الحيرة؛ فمن الذي يسأل
الآخر، المخرج أم شخوصه؟ ومن قد يجيب عن أسئلة الجدات؟ وليس في
الأمر انتقاص من الرؤية الإخراجية، على بساطتها، كتجربة سينمائية
أولى للمخرج.
«الزوج»، «الأخ»، و «الوطن»، هي العناوين التي يتخيرها الشريط في
بنائه السردي، وتقسمه إلى ثلاثة أجزاء. منذ البداية، لن تخطئ عين
المشاهد تلك الأخاديد التي خلفها القهر، لا التقدم في السن فقط، في
وجوه النسوة. وحال انتهاء كل منهن من سرد قصتها، ستستعيد الأذهان
ذلك الجزء من النص الذي استهل الفيلم». وربما قدرتهم على مواجهة
واقعهم، وقهر المستحيل، هي ما جعل منهم أسطورة...».
فتروي إحداهن، مثلاً، ما تكبدته من عناء في تربية أطفالها الأربعة
إثر اعتقال زوجها قبل ما يزيد عن خمسة عشر سنة. وأمام قسوة الظروف،
ولؤم التقاليد المجتمعية، تحاول العمل لتأمين ما أمكن للعيش.
وكبارقة أمل، تصلها بعض المساعدات، بين حين وآخر، من شقيق الزوج
المقيم في إسبانيا. إلا أنّ الأخير لا يلبث أنْ يعود إلى القرية
جثماناً بعد انتحاره.
امرأة أخرى ترحل أمها وهي لم تتجاوز الثامنة بعد، تاركة إياها
وإخوتها التسعة لمصائر مجهولة. لاحقاً، سيتخذ شقيقها الأكبر قراره
بالالتحاق بجبهات القتال، وكذا سيفعل أخ آخر، ليموت كلاهما هناك.
وستفجع بموت الثالث أثناء أدائه للخدمة العسكرية في الجيش السوري.
في القسم الأخير، تتناوب المشاهد عرض عدة منازل مهجورة تماماً.
نعرف من محدثينا أنّه قد مضى أكثر من عقدين على رحيل أصحابها إثر
شجار بين عائلتين. ويقفل الفيلم بالأغنية التي يحمل الشريط اسمها،
بالتوازي مع مشاهد القفار، فتظهر قتامة الغياب هي الحاضرة أبداً.
البدايات
اختار كلثوم التصوير في فضاءات خارجية، واعتمد لقطات ثابتة، وطويلة
نسبياً، فلم يحرر الكاميرا من حاملها إلا ما ندر، ما حتّم على
الفيلم إيقاعاً مستغرقاً في الرتابة.
وفي توازٍ بصري مفرط بين الحاضن المكاني وأهله، كما في مشهد المرأة
التي تتوسط بيتين، وفي مشهد لأخرى تسير في حقل أحضر لا متناهٍ،
أظهر كلثوم، بالمحصلة، إلحاحاً على المنحى الجمالي –على حساب
الجوهر- في محاولة للوصول إلى صورة مثالية. فبلغها حيناً، وضل
أحايين أخرى.
ولم ينجُ الشريط من جانب تمثيلي خفي. فالرجل مثلاً، وهو الغائب
الأكبر في حكايا النسوة، سيحضر بخطة إخراجية مفتعلة، عبر عدة لقطات
لشخص (طيف) يجول الأمكنة، فبدا عنصراً طارئاً على الفيلم. وهو ما
يفتح الباب أمام الالتباس التقليدي في كون الشريط تسجيلياً أو
روائياً.
كما تجدر الإشارة إلى أن التمثيل جاء ناقصاً في الفيلم، بخاصة لجهة
التركيز على البكائية –وإنْ غنائية- دون الألوان الأخرى، على
وفرتها وتنوعها في الحالة الكردية. لكن بالمقابل، تُحسب لزياد أنّه
أول مخرج سوري، غير كردي، يصوّر فيلماً يتناول القضية الكردية. |