"طريق
مالاغاسي": سيرة على هامش الفقر
طاهر علوان
تنبض المدينة بعيدا في مكان ما وتطلق أضواءها وصخبها وحياتها
الخاصة ومصانعها وملامح التحضُّر فيها ، هناك في أماكن قد لا تكون
مرئية للجميع إلى درجة يغدو معها كل كلام عن حياة مترفة ومرفهة هو
ضرب من الخيال مقارنة بحياة الهامش المنسي، هامش الفقراء الذين
يكررون سيرة أيامهم بعيدا عن صخب المدن
.
نزعة البقاء هذه هي التي تختصرها ثلة من الفقراء الذين تراهم غير
مكترثين بفقرهم ولا بمعادلات القوة والمال والسلطة أينما كانت،
فسيرتهم اليومية تغنيهم عن كل شيء ولهذا لا تدخل في مفرداتهم أي
مفردات خارج منطقة حياتهم وخارج دورتهم اليومية وهم يتنقلون فيها
في أماكن تكررت جغرافيتها دون أن يملّوا هم ذلك التكرار ولا
يرفضونه ولا ينئون بأنفسهم عنه
.
هذه الخلاصة تختصر سيرة جماعة الملاغاسي في جمهورية مدغشقر حيث هو
موضوع هذا الفيلم من إخراج "مانتينيا لوفا " والذي عُرض في العديد
من المهرجانات الدولية مؤخرا . سيرة أفراد قلائل يتكرّر ظهورهم في
الفيلم ولكن بأدوار متعددة وكأننا إزاء تبادل لتلك الأدوار لتأكيد
ديمومة الحياة والصبر على الفقر
.
المرأة المكافحة التي نشاهدها وهي تحصد القمح ثم تقوم بإفراغ حباته
وفق الطرق البدائية بضربه على صخرة، هي نفسها التي تعيل أطفالا وهي
نفسها التي تجيد الخطابة وستجمع أبناء القرية وتلقي فيهم خطبة وهي
نفسها التي تشارك الفرقة الموسيقية للقرية تدريباتها اليومية
لإحياء حفل
.
وما بين ذلك تتوزّع مهن وأشخاص يتعاطون بيع البضائع الرخيصة
والمستعملة وأحيانا المستهلكة ولكنك تجد باعتها وهم محتفون
ببضاعتهم يروجون لها ويعلنون عن فوائدها وجودتها وهو ما يلفت
النظر في تلك القرية النائية التي تصنع قوتها بنفسها.
في المقابل هنالك على الجانب الآخر حياة أخرى لا يعرفونها ولا تشغل
بالهم ، بيوت المرفهّين والأغنياء في عمق المشهد في مقابل الهياكل
المتداعية والعشش الصغيرة التي يصنعها أولئك الفقراء من الملاغاسي.
لعلها قصة الفقر التي يتنقل هذا الفيلم الوثائقي بين محطاتها، فقر
لا يشكوه الناس بالرغم من كونه ماثلا للعيان لكن في نفس الوقت هو
تحدٍّ للذين يبحثون عن حل ما للحياة والمصاعب التي تملأها.. وهم
مرة أخرى لا ولن يشكوا هذا الفقر بل تجد أن لديهم قدرة على
الابتسام والتفاعل مع الآخرين ومع البيئة المُعاشة دونما أدنى رد
فعل سلبي أو متذمر، فالكل هنا فيما يشبه العائلة الواحدة أو مجموعة
من الأصدقاء الذين يتبادلون الزيارات ويحتفون ببعضهم ويقبلون بعضهم
البعض بشكل ملفت للنظر.
هنا ستنتج بيئة الفقر مهنا شتى من بينها أولئك الذين يزرعون مساحات
الأرض بأي شيء من أجل قوت يومهم وأولئك الذين يصلحون أي شيء معطل
وذاك الذي يجمع قرون الحيوانات ليستخرج منها مواد جيلاتينية
بتأثير الحرارة وليقوم فيما بعد ببيعها بكمية كبيرة والكل سيتحدث
عن أصول مهنته وكيف يعمل
.
أما تلك المرأة الفلاحة/المغنية والخطيبة النشيطة فإنها وهي ترعى
أطفالها الصغار، تراقب زوجها الحداد وهو يقطع الحديد ويعالجه بطرق
بدائية من خلال إشعال النيران والجمر لكي يلوى الحديد ويتخذ الشكل
الذي يريده
.
واقعيا فإن هؤلاء المالاغاسي كلهم تقريبا يقومون بليّ الحديد
وتطويعه من خلال تطويع الحياة لإرادتهم وطول صبرهم على فقرهم وما
هم فيه.
يصنع الفيلم نسيجا موضوعيا تاركا الشخصيات تعبر عن نفسها بعفوية
واضحة ومن دون تكلف ولهذا سرعان ما تتآلف معها وتشاطرها ماهي فيه
خاصة وأن الكاميرا هنا ليست غير شاهدا أمينا على تلك الحياة
المنسية
.
الأطفال الذين اضطرتهم الأمطار إلى الخوض في المساحات المائية
المتجمعة وأولئك الموسيقيون المحليون الذين يحملون آلاتهم البسيطة
إلى الداخل أيضا تحت جنح الليل ..آلات موسيقية تشهد طريقة تطويرها
وتطويعها كعيدان الخيزران والعلب المعدنية المهملة وغيرها، كلها
تستخدم من أجل إنتاج الأصوات والإيقاعات التي تريدها تلك الفرقة
الموسيقية التي تنشد الأغاني المحلية للمالاغاسي والتي تجد لها
جمهورا عريضا في أوساط أولئك الفقراء الذين يتفاعلون معها بودّ
وأريحية ملفتة للنظر.
طريق الملاغاسي هو طريق الوثائقي الذي يعيش مع الشخصيات في يومها
وليلها لا يبرحها ولا يفارق سيرتها بل يتولى عكسها إلى الجمهور
العريض لغرض التعريف بها إذ أنها كائنات بشرية وإن كانت تعيش على
الهامش إلا أنها تُعلِّم دروسا في الإرادة واستمرار مسيرة الحياة
والسعي يوميا.والوثائقي هنا شاهد على الحياة متفاعل معها إلى حد
كبير وفي نفس الوقت يصبح بشكل ما أداة للشخصيات لتأكيد ذاتها وهي
تتحدث عن حياتها وعملها اليومي وما تصبو إليه ولهذا تصبح الكاميرا
هنا أكثر قربا وتفاعلا مع تلك الحياة الصامتة والمنسية
.
تثير تفاصيل هذا الفيلم مسألة وظيفة الوثائقي المتجددة في اقترابه
من الحياة أو ابتعاده عنها لاسيما الحياة المنسية للشرائح
والمجموعات التي تعيش على الهامش، على هامش الحياة وتحت سطوة
الفقر، وهو ما أجاد به هذا الفيلم سواء من ناحية المعالجة أو
الموضوع المطروح رغم أنه من المآخذ أنه لم يتوسع في رصد ظاهرة
الملاغاسي باللقاء مع من هم يعيشون خارج هذه البيئة المغلقة ولا
تعرض لموقع المالاغاسي من البلاد وأحوالها وهي متطلبات لو تكاملت
لأعطت للفيلم غزارة تعبيرية أكثر
.
"موتى
خلف القضبان" في بلدٍ متحضر
عدنان حسين أحمد
يُعدّ الفيلم الوثائقي "موتى خلف القضبان" للمخرج البريطاني سام
إيميري من الأفلام الصادمة في الوقت الحاضر لأن المُشاهد لا يتوقع
أن السجين البريطاني يمكن أن يقوم بعملية إيذاء للنفس أو يقْدِم
على الانتحار داخل سجنه الفردي أو الجماعي لأن هناك نزلاءً آخرين
يعتدون عليه ويقرّعونه ليل نهار.
استلهم سام إيميري فكرة هذا الفيلم من تقرير رسمي صادر عن وزارة
العدل البريطانية عام 2012 يكشف بالأدلة القاطعة أن هناك 80 سجيناً
بريطانياً تتراوح أعمارهم بين 24 سنة فما دون قد أقدموا على
الانتحار داخل السجون البريطانية خلال العشر سنوات الأخيرة لأسباب
عديدة أبرزها تعرُّضهم للإساءة والاعتداء من قبل نزلاء آخرين
يتميزون بسلوكهم الوحشي الفظ الذي يشكل خطراً دائماً على بقية
السجناء العاديين أو الضعفاء بدنياً أو المصابين بأمراض عقلية أو
نفسية.
تقوم بنية الفيلم على ثلاثة أشخاص أقدموا على الانتحار داخل السجون
البريطانية ووضعوا حدّاً لحياتهم القصيرة التي لم تجتز العشرين
عاماً آخذين في الاعتبار أن عدد السجناء البريطانيين الذين انتحروا
من مختلف الأعمار خلال العشر سنوات الأخيرة قد بلغ 163 شخصاً بحسب
تقارير وزارة العدل أيضاً، وهو رقم مخيف في بلدٍ متحضر يحترم حقوق
الإنسان ويسعى لتكريسها كل يوم على أرض الواقع فكيف تحدث مثل هذه
الانتهاكات المروِّعة لحقوق الإنسان البريطاني الذي ولج مرحلة
الرفاه الاقتصادي منذ سنوات طويلة؟
التوحّد وقصور الانتباه
يستهلّ المخرج سام إيميري فيلمه بشخصية السجين جيك هاردي حيث نعرف
من خلال أمه وشقيقته وصديقه أن عمره 17 سنة، وأنه مُصاب بحالة
نفسية اسمها "قصور الانتباه وفرط الحركة"، ومع أن نسبة هذا المرض
النفسي قد تصل إلى 5% في كل الشعوب التي تعيش على كوكبنا الأرضي
إلاّ أن المصابين يحتاجون إلى رعاية خاصة تختلف عن رعاية السجناء
العاديين. كما كان جيك يعاني من صعوبات في التعليم ومشاكل ذهنية
أخرى سوف تؤرق الناس المحيطين به في الأسرة والمدرسة الخاصة على
وجه التحديد. وأكثر من ذلك فإن لديه تاريخا من الإيذاء النفسي
الأمر الذي يحمّل القائمين على سجن الأحداث واليافعين مسؤولية نقله
إلى "وحدة خاصة" بالمرضى المتوحدّين الذين قد يقدمون على إيذاء
النفس في أقل تقدير إذا ما تعرضوا إلى المضايقة أو الإزعاج أو
الاعتداء.
تشاجر جيك ذات مرة مع صديقته فهدّدها بالسكين وحينما حاولت
انتزاعها منه خشية أن يؤذي نفسه جرحها مما دفع الشرطة لاعتقاله
ليصبح هو نفسه هدفاً سهلاً للإساءة والإيذاء من قبل السجناء
الخطرين في سجن الأحداث في هندلي. وعلى الرغم من أن جيك قوي البنية
وطويل القامة إلاّ أن لديه عقل طفل كما تقول أمه ليز هاردي فلا
غرابة أن يهددهُ السجناء بالطعن بعد أن أخبروه بأن رائحته كريهة،
ونعتوا أمه وعائلته بكلمات بذيئة دفعته لأن يخبر حرّاس السجن لكنهم
لم يحركوا ساكناً ولم يتخذوا أي إجراءات بحق المعتدين. فالقصور
يكمن في القائمين على السجن من حراس ومسؤولين إداريين. لقد خصصت
إدارة السجن موظفاً خاصاً لمتابعة حالة جيك لكن هذا الموظف لم يقرأ
التقارير الموجودة عن تاريخ النزيل الطبي ولم يعرف بأنه مصاب بقصور
الانتباه وفرط الحركة، ولم يُدرك أن هذا النزيل يمكن أن يؤذي نفسه
في أي لحظة يفقد فيها توازنه ولا يستطيع السيطرة على نفسه. بل إنه
كان يعتقد بأن جيك قادر على حماية نفسه لأنه يمتلك جسداً ضخماً من
دون أن يعرف ضعفه الذهني وسلوكه المرضي الذي قد يشكل خطراً عليه
قبل الآخرين.
تفاقمت الحالة النفسية لجيك حينما لم يُتح له الاتصال بوالدته. كما
أنه لم يستطع الانسجام مع بيئة السجن الجديدة لأنهم كانوا يعتدون
عليه ويؤرقونه بشكل متواصل الأمر الذي يدفعه للانخراط في البكاء في
بعض المكالمات الهاتفية مع أمه. كشفت كاميرات المراقبة التي تغطي
زنزانات السجن برمتها اعتداءات السجناء وإساءاتهم لجيك لكن الحراس
لم يحركوا ساكناً فكان رد فعله هو أن يرفس الباب بقدمه مرات عديدة
لكنه يتلقى بالنتيجة المزيد من الإساءات.
تصف الأم ليز هاردي ولدها جيك "بأنه تابع وليس قائداً" وذلك بسبب
حالته النفسية. وقالت "بأنه لا يعرف الصحّ من الخطأ" وأنه "يتصرف
بعمر صبي من سن الثانية عشرة، وإذا لم يتناول حبوبه فإن سلوكه يصبح
طائشاً ويؤذي نفسه في خاتمة المطاف".
تحتفظ ليز هاردي بجوارب ابنها بعد أن انتحر داخل السجن حيث شنق
نفسه على سرير النوم المزدوج. وذكرت بأنها تحمل معها هذين الجوربين
أينما ذهبت فما تزال رائحة قدميه فيهما. لم تستطع الأم أن تنام
ليلة واحدة، فهي تحلم به على الدوام وتقول بأنه مات تحت رعاية
الدولة خلال 46 يوماً، بينما لم يمت وهو كنفها خلال سبع عشرة سنة.
وصفت السيدة ديبورا كولز مديرة مؤسسة إنكويست الخيرية "بأن موت
الأطفال واليافعين في السجون البريطانية يجب أن يكون فضيحة وطنية
تخجل منها الدولة". فالدولة لم توفر وسائل الحماية للنزلاء
الضعفاء، كما أنها لم تمنع عنهم الإساءة والاعتداء.
هاجس السرقة
ينحدر آدم راشتون من مدينة بوويز وسط ويلز وبدا سعيداً حينما تبنته
عائلة من برنسفورد وهو في سن السابعة. لا تختلف السيدة أنيت راشتون
عن ليز هاردي في رهافة مشاعرها تجاه ابنها بالتبنّي آدم لكن اللافت
للنظر في شخصية هذا الطفل هو تعلّمه السرقة منذ الصغر وبما أن
أخويه التوأم صغيران ويحتاجان إلى التغذية فقد كان يذهب إلى بيوت
الجيران ويأخذ قناني الحليب الموضوعة عند عتبات المنازل لكي يبقي
أخويه على قيد الحياة. لم تكن السرقة هي الخصلة الوحيدة التي تأصلت
فيه حيث تذْكر أمه بأنه كان نشيطاً جداً، ومُولعاً بإيذاء الآخرين،
فإذا دخل المرحاض أغرقه بالماء أو حطّم شيئاً من الأشياء الموجودة
فيه، فقد كان يميل إلى تدمير الأشياء، وتمزيق كل ما يصادفه في
طريقه. ولم تنفع معه كل الرحلات الترفيهية التي تحققها له أمه،
فحينما يعود من شاطئ البحر أو من سفرة مدرسية يتدهور سلوكه من
جديد، ويعود لعاداته القديمة المتأصلة.
وهو يعتقد في قرارة نفسه "بأنه إنسان غير محبوب". وهو لا يختلف
كثيراً عن جيك حيث أُصيب هو الآخر بحالة "قصور الانتباه وفرط
الحركة" والمريض في هذه الحالة يحتاج إلى اهتمام كبير من قبل
المحيطين به وإلاّ فإنه سوف يعتقد بأنه منبوذ وغير مرغوب فيه.
وبسبب هذا السلوك العدائي طُرد من المدرسة فعاد إلى البيت من جديد.
وحينما شعر بالضيق والاختناق قرر أن يغادر المنزل وهو في سن
السادسة عشرة ويسكن في نُزُل قرب مدينة نيوتاون. لقد فشل آدم في كل
شيئ تقريباً، كما ترى أمه، لكنه نجح في السرقة التي تمكنت منه
وأصبحت تجري في عروقه مثل الدماء، بل إن فعل السرقة هو الشيئ
الوحيد الذي كان يُشعره بالفرح ويميّزه عند أقرانه الصغار الذين
يستغربون جرأته في هذا المضمار. سُجن آدم عشر مرات لارتكابه أخطاءً
صغيرة لكنه قرر في خاتمة المطاف أن ينتحر بنفس الطريقة التي انتحر
بها جيك هاردي وفي نفس الزنزانة!
لم توافق السيدة أنيت على الذهاب لمشاهدة المكان الذي انتحر فيه
ابنها وقد وصفت مشاعرها المرهفة حيث قالت: "حينما أدخل السجن أرى
30 أو 40 وجهاً مثل وجه آدم، وبنفس التعابير المرسومة على وجوههم".
ثم تختم كلامها بالقول: "نعم يستحقون العقاب لكن كان على الدولة أن
تفعل شيئاً من أجلهم".
محاولات انتحار متكررة
ما يميز رايان كلارك هو ضعفه وضآلته لكن مشكلته الرئيسة تكمن في
داء السرقة الذي تمكن منه فلقد سرق العديد من الهواتف المحمولة، بل
همّ بسرقة حُلي مرشدته الشخصية حينما التقاها ذات مرة. تعرض رايان
بشكل مستمر للاعتداء من قبل أقرانه السجناء ولأنه لا يستطيع أن
يفعل شيئاً أو يرد على المعتدين كان يضرب رأسه بالحائط، وحينما
يسقط من الألم والإعياء يتركه الحرّاس مغشياً عليه دون أن يكلفوا
أنفسهم عناء أخذه إلى الطبيب. ثمة أمور صغيرة في حياة هذا السجين
الضعيف المتعلق بأمه الذي لم يسمحوا له بأن يتصل بها في "يوم الأم"
الأمر الذي دفعه لأن يعتكف في السجن لمدة سبعة أيام لكنه سرعان ما
يحطم هذه العزلة ليندمج مع أقرانه الذين يعادون الكرّة في إيذائه
والإساءة إليه.
لابد من الإشارة إلى أن صديقاً لرايان قد حاول الانتحار سبع مرات
لكنه لم ينتحر وكأن هذه المحاولات السبع هي جرس الإنذار الذي كان
يقرعه في كل مرة منبهاً الحراس والموظفين إلى حالته النفسية
المتدهورة التي كانت تضطرهم لأخذه إلى المستشفى بينما كان رايان
يلوذ بالعزلة والصمت اللذين أفضيا به إلى الانتحار في سجن وذربي
عام 2011 وهو في السابعة عشرة من عمره.
القصور الإداري
يعتقد كل الذين شاركوا في التحقيق بقضية موت السجناء البريطانيين
خلف القضبان بأن الدولة كانت مقصرة بشكل أو بآخر تجاه النزلاء
وخاصة المرضى منهم حيث لم يتم وضعهم في وحدات خاصة بهم تبعد عنهم
شبح الإساءة والعدوان الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى درجة التعذيب
القاسي بحيث يدفع صاحبه إلى الانتحار ووضع حد لحياته المؤلمة. وبما
أن الزنازين جميعها مراقبة فلماذا لم يقم الحراس أو الموظفون
المسؤولون عن المراقبة باتخاذ إجراءات سريعة تحاسب المعتدين وتضع
حداً لتجاوزاتهم، وتحمي الضعفاء منهم. رب سائل عن سبب وجود الأسرّة
المزدوجة طالما أن الشخصيات المريضة نفسياً تستعملها كمشانق؟ ألا
تستطيع دولة بحجم المملكة المتحدة أن تضع أسرّة منفردة في هذه
السجون بدلاً من الأسرة المزدوجة التي تسببت بموت 164 سجيناً خلال
عشر سنوات؟ ألم يكن بإمكان الحكومة البريطانية أن تودع المرضى
المصابين بالتوحد وقصور الانتباه وفرط الحركة وغيرها من الأمراض
النفسية في سجون خاصة كي تتفادى الأضرار التي يمكن أن تلحق بهم في
السجون الاعتيادية التي تضم مجرمين يشكلون خطراً جدياً على حياة
السجين المريض أو من ذووي الاحتياجات الخاصة؟
لابد من الإشارة إلى أهمية المونتاج في هذا الفيلم المركّز الذي
يُظهر براعة المونتيرة أماندا باكستير التي شذّبت الفيلم من
زوائده. فكما هو معروف أن قنوات البي بي سي الإنكليزية برمتها لا
تعرض أفلاماً مترهلة تفتقر إلى الخطابات البصرية الجمالية
والمضامين الإنسانية ولهذا أرادت لهذا الفيلم أن يكون مكثفاً ليسرد
فواجع الناس البسطاء في بلد متقدم يفاخر بحماية الحريات الفردية
والعامة.
جدير بالذكر أن المخرج والمنتج البريطاني سام إيميري قد أنجز نحو
عشرين فيلماً وثائقياً نذكر منها: "الإثراء في زمن الركود: الرجل
الذي يشتري كل شيئ"، "يوميات عقل محطّم"، "أريد أن أغيّر جسدي"،
"أطفال خلف القضبان" وغيرها من الأفلام الوثائقية المميزة التي لا
تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة. |