لا يوجد في تاريخ السينما منذ نشأتها مخرج انفعالي ومُعَبِّر مثل
الرائد الكبير فيدريكو فيلليني، ذلك العملاق الإيطالي العظيم، الذي
مرت أمس الثلاثاء، الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده.
إن مخرجاً عظيماً بقدر فيلليني ليس بحاجة إلى تقديم، أو أية إشادة
من أي نوع بعمله أو بموهبته، لكن ذلك لا يمنع من أن نمر سريعاً على
سيرته ومسيرته الفنية منذ أن كان في بلدته الساحلية "ريميني"، التي
أطلقت على مطارها مؤخراً اسم مطار فيدريكو فيلليني، وحتى وفاته في
مستشفى "بوليكلينيكو" في روما، مروراً بفترة شبابه وتعرفه بزوجته
الممثلة القديرة "جوليتا ماسينا".
ولِد فيلليني، في 20 يناير 1920، بمدينة ريميني، التي كانت بالنسبة
له بمثابة كون خاص به وبأصدقاء طفولته وبالشخصيات الثرية التي جسدت
أفلامه الكثير منها. كانت عائلته من طبقة بورجوازية متوسطة ولم
يعان فيلليني أو عائلته في صغره وحتى إنهائه لتعليمه الثانوي من
البؤس أو الحاجة إلى المال. سافر فيدريكو إلى روما بعد انتهاء
دراسته الثانوية ليبدأ عمله، الذي استهله أولا بالصحافة، ثم رسم
الكاريكاتير، وكتابة الأعمدة، والموضوعات الصحفية، إلى آخره، وما
لبث أن أخذ يكتب النصوص والاسكتشات الإذاعية الفكاهية، والنصوص
المعدة من أجل امتحانات الممثلين المتقدمين لاختبارات الإذاعة.
عن تلك الفترة، يحدثنا فيلليني في كتابه، "كيف أصنع فيلماً"،
فيقول: "كصبي اعتدت قضاء الساعات محاولاً نسخ تلك الرسوم. كان
لديَّ دائماً ميل للخربشة أو الشخبطة على أي سطح أبيض – إنها
العادة التي أحافظ عليها عندما أعد لفيلم، ولأنني لم يعد لديَّ
ذكريات سينمائية للكلاسيكيات العظيمة، يظهر الفيلم لي أولا عبر
الرسوم التخطيطية، الإسكتشات، التي أرسمها.
هذه الاسكتشات تمكنني من أن أفهم منظورياً، وأتوصل إلى فضاءات مكان
التصوير، والأزياء، وتحديد أي وجه للشخصية سوف أحتاجه – بالفعل،
عندما أبدأ تحضير فيلم جديد تكون الخطوة الأولى هي الرسم. إنها
أيضاً طريقة للقول لنفسي إنني أعمل، وأن الأمر كله على ما يرام وفي
إطاره المرغوب. أثناء سنواتي الأولى في روما عملت أيضاً كرسام
كاريكاتوري، من أجل لقمة العيش أو لكيلا أستدين: كنت أحياناً أدخل
إلى المطاعم وأسأل بجرأة إن كان أي شخص يريد أن أرسم له رسماً
كاريكاتورياً".
في تلك الأثناء تعرّف فيلليني على الممثلة الجميلة والفذة في
أدائها وزوجته في المستقبل "جوليتا ماسينا"، التي كانت تقوم
بالتمثيل في الإذاعة في تلك الفترة ومالبثا أن تعارفا، ثم، تزوجا
في عام 1943، وقد ألهمت ماسينا فيلليني، وهو ما اعترف به أكثر من
مرة، الكثير من أفلامه وكان تأثيرها عليه لا ينكر، وقد أشاد
فيلليني بها وبموهبتها كممثلة، والمعروف أن ماسينا قد فارقت الحياة
حزناً على وفاة المايسترو بعده بخمسة أشهر.
كان فيلليني في هذه الفترة قد بدأ كتابة السيناريو وكان هذا سبباً
في تعرفه على المخرج الإيطالي القدير، الذي وُصِفَ برائد الواقعية
الإيطالية الجديدة، "روبيرتو روسيلليني"، وبدأ أول عمل معه في فيلم
بعنوان "روما مدينة مفتوحة" عام (1945)، ثم بعد ذلك فيلم "مناظر
طبيعية" (1946).
وقد أخرج فيلليني أول أعماله عام (1950)، وبعد كتابته لسيناريوهين
أو أكثر (1951– 1952)، كلاهما من إخراج "بيترو جيرمي"، قدّم ثاني
أعماله، وأولها كمخرج مستقل وكان بعنوان "الشيخ الأبيض" (1952).
وفي عام (1953)، كان موعده مع الشهرة وذيوع وانتشار اسمه بعدما
أخرج تحفته الأولى "العجول السمينة"، لينطلق فيلليني بعد ذلك
محلقاً في سما الفن والإبداع بإيطاليا وأوروبا والعالم أجمع، ويحصد
إلى جانب الجوائز والمديح والإطراء العديد من الألقاء مثل الأستاذ،
والحالم، والمايسترو، وهو أكثر الألقاب التصاقاً به، وأيضاً النقد
العنيف والاستهجان واللعنات من جانب النقاد والجمهور.
يعترف الكثير من النقاد العالميين ليس فقط بصعوبة التحدث عن أفلام
فيلليني أو على الأقل تقديم فكرة عامة عمّا تدور عنه أحداث كل فيلم
منها، بل أيضاً صعوبة تلقيها. وهي صعوبة ليست ناجمة من طبيعة
الأفلام ذاتها أو توجهها لنخبة معينة من الجمهور، وإنما مردها
للمايسترو نفسه، الذي أراد ونجح من خلالها في تقديم نوعية جديدة من
الأفلام ليست للحبكة أو الحكاية وتتابع السرد والمشاهد دوراً
كبيراً فيه، بقدر ما للرؤية البصرية من دور أكبر.
هذا بالإضافة إلى تلاشي الخط الفاصل بين الحقيقة "الواقع" والخيال
"الوهم" في أفلامه، إنها، إن شئنا الدقة، محاولة لحكي أحلامه. وهل
هناك صعوبة أكثر من هذا؟ فالمرء يعجز عن هذا فيما يخص أحلامه ذاتها
ولو لمرة، فما بالنا بهذا العملاق الذي لم يكف عن الحلم لما يزيد
عن أربعين عاماً من العمل الإخراجي. وما يزيد الأمر صعوبة قوله:
"أفلامي ليست للفهم. إنها من أجل الرؤية".
هذا من جهة، من جهة أخرى إذا سألناه عن أفلامه، ما الذي كان يعنيه
هذا الفيلم أو ذاك نجده يقول: "لمدة أربعين سنة كنت أحاول تفسير
شيء ما لا أستطيع تفسيره. أسمع فقط أسئلة ليس بإمكاني الإجابة
عنها". أي أن عملية البحث في أفلام فيلليني عن إجابات معينة حتى
لما طرحه هو وليس لأسئلتنا نحن، أمر بلا شك تحفه المخاطر، وأيضا
بمثابة استخفاف بأفلامه، والوقوع في أسر التلقي السيئ، أو على
الأصح سوء الرؤية البصرية.
فقد أتت أفلام فيلليني بمستوى شديد الجدة والخصوصية فيما يتعلق
بالسينما الذاتية بصفة خاصة والسينما الإيطالية بصفة عامة، خصوصاً
تلك النقلة بين سينما ما قبل الحرب وما بعدها، بل إنه واحد من أكثر
المخرجين في عصره تعلقاً بسيرته الذاتية، وكثيراً ما تضمنت أفلامه
مشاهد عديدة مستوحاة منها، وتلك هي التهمة التي كثيراً ما اتهمه
النقاد بها وأخذوها عليه وعلى أفلامه، "الذاتية الشديدة التي تصل
حد الإغراق". وهذا هو ما نفاه المايسترو مراراً وعارضه كمنهاج
لتناول أفلامه. لكنه عاد في إحدى المقابلات الصحفية واعترف صارخاً
ذات مرة في وجه أحد الصحفيين: "أنا مرتبط دائماً بسيرتي الذاتية،
حتى لو كنت أحكي قصة عن حياة الأسماك".
والمثير في الأمر أن شخصية بحجم فيدريكو فيلليني في تاريخ السينما
العالمية والإيطالية ومكانته آنذاك، وعدد أفلامه التي بلغت أربعة
وعشرين فيلماً تقريباً، نجد أن عملها في صناعة السينما لم يكن سهلا
بالمرة، ومر بالكثير من الصعوبات والعقبات على نحو متفاقم على
امتداد تاريخه، سواء من حيث الحصول على المساندة المالية من قبل
المنتجين أو من جهة الموزعين. ومن ناحية أخرى، تقلص النقد المتناول
لأفلامه وادعاء البعض أن كثيراً من أعماله تافهة ولا أهمية لها،
وأنها تؤكد ما عُرف عنه وهو أنه مخرج سيري، أي منغمس في سيرته
الذاتية. وذلك برغم كل تلك الجوائز العالمية التي نالها ولم يسبقه
لها أحد من قبل، فعلي سبيل المثال، ترشح اثنتي عشرة مرة لجوائز
الأوسكار، فاز منها بأربعة جوائز أوسكار لأحسن فيلم أجنبي، وأوسكار
خامس تكريمي لإسهامه الفذ في تاريخ صناعة السينما في عام 1993، هذا
غير جوائز الجولدن جلوب والبافتا، وجوائز عدة في كان وبرلين
وفينسيا وغيرها من المهرجانات العالمية.
لكن جزءاً من هذا مرده بالطبع لمهاجمة فيلليني لكل ما هو تافه
وسحطي وفاسد، وكثيراً ما شنّ المايسترو حملة شعواء ضد التليفزيون
ومحطات الشبكات، كما رفع العديد من القضايا ضدها، بسبب كثرة قطع
الإعلانات لأفلامه. وخاصة الشبكة التي يملكها إمبراطور الإعلام
الإيطالي "لويجي بيرلسكوني"، الذي اشترى معظم أفلام فيللني
واحتكرها إلى الأبد، ولم يستطع المايسترو أن يفعل شيئاً إزاء هذا
السطو على إبداعه وخسر القضايا التي رفعها، ولم يستطع بالطبع أن
يوقف هذا التدخل السافر والسخيف للإعلانات.
يقول المايسترو عن هذا في إحدى المقابلات: "إن ممارسة القطع
الإعلاني في سياق عرض جاد هي جريمة فكرية، لأن معناها تنمية عملية
تقطيع مسار التفكير وتعويد الناس على عدم الاصغاء إلى أي شيء أو
مشاهدة أي شيء. وهي وسيلة، تبدو ناجحة جداً، للحيلولة بين المتفرج
والتفكير الجدي والعميق والمفيد فيما يشاهده. وليس فقط مجرد منعه
من متابعة الحكاية التي يشاهدها أمامه".
من ناحية أخرى، لا يستطيع أحد أن ينكر أن أفلام المايسترو، في
أغلبها، على وجه الدقة، تهيمن عليها بجلاء عملية تصوير الحلم
الخيالي بطريقة واضحة، بلا حدود فاصلة محددة بين الحقيقة والخيال.
هذه البصمة التصويرية والإخراجية المنفذة وفقاً لمنطق الأحلام، أي
منطق التدفق السريع، المضطرب، اللامعقول، الذي يحكم تدفق الأحلام
ولا منطقيتها، هي قوام سينما فيلليني. وقد كانت بالقطع في زمنها
شديدة الصعوبة على النقاد والمتخصصين وبالطبع الجمهور العادي.
لكن وبالرغم من كل ذلك، فليس ثمة شك في أن أفلام هذا المايسترو
الساحر قد صنعت علامة مميزة، واستشرفت ذرى غير مسبوقة في تاريخ
الفيلم وصناعة السينما. وسواء كانت هذه الأفلام قد أثني عليها أو
تم تجاهلها، فإن كل واحد منها يعتبر محاولة لإعادة اكتشاف جوهر
الفن السابع، هذا الفن الغامض والساحر دائماً.
وفي النهاية ليست تلك سوى محاولة للاقتراب من عالم هذا المخرج
الفذ، الذي رحل عن دنيانا في الحادي والثلاثين من أكتوبر عام 1993،
وهو في الثالثة والسبعين من عمره، بسبب أزمة قلبية. وقد صدرت عنه
بالعديد من لغات العالم، ولا تزال تصدر، مئات الكتب التي تتناول
سيرته ومسيرته الفنية وأفلامه، وسيناريوهات أفلامه ورسوماته
واسكتشاته، وقد ترجم منها الكثير إلى لغتنا العربية.
من الطريق إلى القافلة تسير
هذه هي أهم أفلام فيدريكو فيلليني
24
ـ محمد هاشم عبد السلام
أخرج فيلليني أول أعماله عام (1950)، وبعد كتابته لسيناريوهين أو
أكثر (1951– 1952)، كلاهما من إخراج "بيترو جيرمي"، قدّم ثاني
أعماله، وأولها كمخرج مستقل بعنوان "الشيخ الأبيض" (1952).
عام (1953)، أخرج تحفته الأولى "العجول السمينة"، عن العجول كما
تشير الكلمة الإيطالية أو كما نقول نحن "العاطلين بالوراثة"،
الشباب الذين يقضون إيامهم ما بين الكازينو والمزاحات الصبيانية
رغم أنهم لم يعودوا بعد مراهقين، لكنه الخمول والكسل وحياة البطالة
التي يحيونها هي التي تجعلهم يبدون كذلك. وحتى محاولتهم للتحرك من
أجل الخروج من الوضع الذي هم فيه كانت سرعان ما تنتكس ويعود كل شيء
مثلما كان عليه، ما عدا أحدهم ويدعى "مورالدو" أصغرهم سنًا وكانت
كل رغبته تتمثل في الهجرة للعاصمة، وقد تمكَّن بالفعل من الفرار من
هذا الإيقاع المميت. هذا الفيلم فاز عنه فيلليني بالأسد الفضي
لمهرجان فينيسيا، وحظي بتوزيع وإقبال عالمي كبير.
الفيلم الذي صنع اسم فيلليني وأكد موهبته ووضعه بين العظماء هو،
"الطريق" (1954)، الذي حاز أيضاً على جائزة الأسد الفضي، وأوسكار
أحسن فيلم أجنبي وقرابة خمسين جائزة أخرى من أنحاء العالم. نجاح
هذا الفيلم جلب له ولزوجته النجمة "جوليتا ماسينا" شهرة كبيرة
مستحقة. وهو عن الغجري "زمبانو" والشابة المسالمة الضعيفة
"جيلسومينا" (أنتوني كوين وجوليتا ماسينا).
ذلك الشخص القوي البنية الذي يقدم استعراضاته البدائية في القرى
والميادين الصغيرة، والذي يبتاع من إحدى الأسر المعدمة جيلسومينا
دافعًا فيها قدرًا ضئيلا من المال، وسرعان ما تصبح مساعدة وعشيقة
له في نفس الوقت، لكنها بالنسبة له ليست سوى أحد أشيائه، فهو لا
يعبأ بها على الإطلاق ويعاملها بقسوة تصل حد العنف، أما هي فلفرط
طيبتها وسذاجتها لم تحاول الاعتراض أو الشكوى أو حتى الفرار، فقط
كانت تنفذ ما تؤمر به.
لكن الأحداث تتصاعد بظهور المهرج المتشرد اللطيف (ريتشارد
بازيهارت) والذي تهيم جيلسومينا به حبًا لرقته وعطفه عليها. كان
هذا المهرج كثير السخرية من زمبانو لفرط استعماله القوة، وفي إحدى
المشادات بينهما يقتله زمبانو، وسرعان ما تفقد جيلسومينا عقلها إثر
الحادث، الأمر الذي يدفع بزمبانو لهجرها، بعد عدة سنوات يكتشف
بالصدفة أنها قد ماتت، عندئذ يدرك ما هو عليه من وحدة وتزداد وطأة
الأمر عليه بتذكره لها، الأمر الذي يفضي به في النهاية إلى البكاء
الهيستيري الحارق عند أحد الشواطئ وحيدًا مهجوراً.
"ليالي
كابيريا" (1957) هو عن مأساة كابيريا (ماسينا) العاهرة الشقية
الساذجة التي تكاد تفقد حياتها على يد أحد أصدقائها طمعًا في
مالها، والباحثة بلا جدوى عن الحب والأمان والتي ما تلبث أن تنتهي
من مشكلة أو مصيبة أومحاولة لقتلها حتى تعود مرة أخرى بسذاجتها
المعهودة لنفس الفخ ثانية، لدرجة أنها تبيع منزلها الذي ليس لها
غيره من أجل أحد عشاقها الذي أغراها بالحب وبالزواج، رغم إدراكها
أنه كاذب، لكنه التعلق بالأمل والتوق للحب والأمان، وقد أفلتت من
الموت على يديه بأعجوبة. لكن هل أدركت بالفعل أن سذاجتها هي سبب
شقائها؟ وما أهمية هذا بالنسبة لها مادامت ستواصل الطريق نفسه
ثانية! هذا الفيلم استحق عنه فيلليني ثاني أوسكار له.
عام (1960) أخرج فيلليني "الحياة الحلوة"، أحد أشهر أفلامه، والذي
تألق فيه النجم ماستورياني، في دور الصحفي "مارشيلو" الذي يأمل أن
يصبح يوماً ما كاتباً ذا شأن بدلاً من كونه مجرد محرر للفضائح
المجتمعية بإحدى الصحف الصفراء. هذا الفيلم الذي يطوف بنا خلال
صفوة الطبقة الاجتماعية الصاعدة في إيطاليا بعد الحرب، أو مجتمع
النخبة، الذي يفضحه فيلليني عن طريق مجموع من الحكايات والشخصيات
المنفصلة. لكن ذلك يتم بطريقة إخراجية غاية في التميز حيث بدأ
فيلليني المُجدد في تلمس طريقه للخروج من الأطر الضيقة للواقعية
الإيطالية، والسينما المعتمدة على الحبكة والخط الدرامي والزمني
المتصاعد دومًا بشكل ضروري، كأنه لا غنى عنه.
هذا الفيلم قوبِلَ بكثير من النقد في إيطاليا، ليس لطريقة تناوله
الإخراجي. وعند عرضه الأول بميلانو، صاحت الجماهير مستهجنة الفيلم
ومزدرية إياه. وتلقى الفيلم الكثير من الإهانات وكذلك المخرج، فهو
يصور الانتحار وحياة الانحلال والجنس بمجتمع روما الذي هو رمز
للمجتمع الإيطالي بصفة عامة، وبرغم كل الهجوم الذي تعرض له الفيلم،
فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان "كان"، وترسخت مكانته كواحد من أعظم
الانجازت في تاريخ السينما.
الفترة من 1960 وحتى 1963 لم تشهد سوى إنتاج بسيط للمايسترو، وهو
ما سبب له الكثير من الإزعاج والإرهاق الشديد لفرط بحثه المضني عن
فكرة فيلم. وكان بالفعل قد وقع العقد وتقاضى مقدمًا واتفق مع
الممثلين والعاملين وبدأ تشييد الديكور، وفي اليوم الذي جلس فيه
لكتابة خطاب للمنتج لفسخ العقد، وبعد أن انتهى بالفعل من الخطاب،
إذ بالفكرة تأتيه، الأمر الذي قاده في النهاية لإخراج تحفة أخرى،
يعتبرها كثير من النقاد من أعظم أفلامه، "ثمانية ونصف" (1963). وهو
عن المخرج المعروف "جويدو" (ماستورياني). كان جويدو يستجم بإحدى
مصحات الحمَّامات المعدنية، محاولا قدح زناد فكره للخروج بفكرة
فيلم سيقوم بإخراجه، ولا يدري كيف سيتسنى له هذا ولا وجود للفيلم.
وبدلا من التركيز للعثور على الفكرة تبدأ المشاكل تتعقبه، تحضر
زوجته، ثم عشيقته، ثم الممثلة التي من المفترض أن تقوم بدور في
الفيلم، وتبدأ الهواجس في محاصرته بشكل مرعب ولا يدري إن كانت
الأمور والأشياء والأشخاص حقيقة أم خيال، المنتج، العاملين، والدته
المتوفية التي تحكي له عن قبر أبيه المتوفي وتريه إياه، المدرسة
الداخلية وهو صغير، كل هذا يجعله يفكر في التخلي عن الفيلم
نهائيًا، لكن سرعان ما تظهر كل شخصيات حياته في حلبة التصوير،
ويبدأ هو بإعطاء إشارة بدء الفيلم. هذا الفيلم فاز عنه فيلليني
للمرة الثالثة بالأوسكار، بالإضافة للجائزة الكبرى في مهرجان موسكو
وعدة جوائز أخرى.
"ساتيريكون"
(1969)، وصف النقاد هذا الفيلم بأنه أكثر أفلام المايسترو إغراقاً
في السريالية والهذيان. فيلليني نفسه وصف الفيلم ذات مرة قائلا:
"إنه خيال علمي من الماضي". وبالطبع الفيلم بالكامل يتحرك بالمنطق
الذي يحكم الأحلام، متشظيًا، مبهمًا في أجزاء كثيرة منه. ولسنا هنا
بالطبع إزاء قصة بالمعنى المتعارف عليه، حتى ولو قارناه بأفلامه
السابقة أو التالية، بل مجموعة قصص متعددة ومواقف كثيرة ومشاهد
متنوعة لا يربط بينها جميعًا سوى ظرف تاريخي معين، إنها اللحظة
التي انهارت إثرها الحضارة الرومانية.
وكل ما نستطيع تبينه بعد مشاهدتنا لهذا الفيلم، أن فيلليني حاول
المقارنة بين الماضي المتمثل في انهيار الحضارة الرومانية بسبب
الانحلال والفساد والعنف ورفض مواجهة المشاكل وغياب القيم وانهيار
الإنسان بسبب إطلاق العنان لغرائزيته، وبين المجتمع الإيطالي بصفة
خاصة الذي كان قد بدأ مرحلة جديدة من الانتعاش الاقتصادي وما صاحب
هذا الانتعاش من مظاهر اجتماعية وإنسانية سلبية. إنه فيلم بصري
تهكمي لاذع تغلب عليه السمة الفانتازية، والرؤية السوداوية البشعة
للنفس الإنسانية عندما تنحط وتُعلي من شأن الغرائز في مقابل تراجع
الدور القيادي للعقل.
إنه رحلة تقدمية تمثل ذروة سنوات الستينات، وتعليق أساسي جوهري على
الحاضر عبر استنطاق الماضي وفحصه من خلال الحاضر. وقد انقسم النقاد
حول الفيلم ما بين مادح له كنوع جديد من السينما غير المعتادة،
التي لا تسير بخط منتظم، أو كما قال عنه آخرون أنه من نوعيه أفلام
فيلليني المعتادة في ذاتيتها وغموضها وشهوانيتها ومجونها
وسرياليتها المجانية.
بعد "المهرجون" (1970) و"روما" (1972) أخرج فيلليني أحد أكبر وأقوى
أعماله، وهو تحفة سينمائية أخرى، "أماركورد" (1973) (أنا أتذكّر،
باللهجة المحلية)، الذي نال عنه الأوسكار الرابع والأخير كأفضل
فيلم أجنبي. وتدور أحداثه خلال الثلاثينات أثناء الفاشية، بمدينة
فيلليني الساحلية ريميني، ويتمحور حول عائلة بها ابن مراهق مهووس
بالجنس "تيتا"، الذي ينشأ وسط أسرة متسلطة أفرادها غير طبيعين،
ويتلقى تعليمًا كاثوليكيًا خطابيًا فاشيًا، الأب ملاحظ عمال سريع
الغضب فوضوي معارض للفاشية، والأم بليدة مُسيطرة، أحد أخواله في
مستشفى المجاذيب، والخال الآخر عاطل وفاشي، الجد دموي وبه حيوية
وطاقة غريبة، الأخ الأصغر متمرد وغير مهذب. والفيلم عبارة عن مزج
لطيف بين الوهم الخيالي الفنتازي، والسخرية اللذيذة المؤلمة،
الزائدة في هذا الفيلم والواضحة فيه عن بقية أفلامه.
إنه مجموعة من المشاهد والصور السريعة المتلاحقة المتراوحة، بين
الميلودرامية والحميمية، والسخرية، والكاريكاتيرية. وبالفيلم
العديد من المشاهد الشيقة، التي هاجم فيها الفاشية وقام بتشريحها
بلا مباشرة. ليست فقط الفاشية بمفهومها العام، السياسي، بل كحالة
من حالات النفس الإنسانية بوجه خاص، والتي يرى أنها موجودة بأعماق
كل منا بدرجات متفاوتة، متوارية عن الأنظار، حيث الطاعة والخنوع
والموافقة الدائمة، والاستسلام التام للسلطة في كل صورها، حيث تجري
معاملة الفرد كطفل صغير غير بالغ ولا يراد له ذلك البلوغ.
"كازانوفا"
(1976)، بهذا الفيلم الصادم لقطاع عريض من الجماهير، قدّم فيلليني
كازانوفا آخر مغايرًا تمامًا لما في أذهاننا من صور ارتسمت لهذا
العاشق، زير النساء الذي صار اسمه محفوظًا ويضرب به المثل، حتى عند
الذين لم يقرؤوا مذكراته أو يشاهدوا الأفلام المصنوعة عنه. وها هو
المايسترو يأتي بفيلم يقدمه وقد شاخ وهرم، وصار وجهه مهزومًا،
ونظراته هيستيرية قلقة، ذو ضحكات مشدوهة، وقد انتهى به الأمر
أمينًا لمكتبة. صحيح أنه يقوم بمغامرات، لكن ليست كلها ناجحة.
يظن كازانوفا أنه مصاب بالزهري ويفكر بالانتحار! لكنه ينصرف عن هذا
ويصاب بما هو أسوأ، الشيخوخة، وانطفاء سحره وبريق جاذبيته، ويصير
في النهاية مهملا من جانب البلاط، وسرعان ما يسقط في دوامة ذكرياته
عن الماضي، وينتهي به المطاف يراقص دُمية ميكانيكية. هذا الفيلم
الذي يقول عنه المايسترو إنه مجرد فيلم شكلي عن "اللا – حياة"،
مازال معترفًا به كإنجاز عميق في مهنة فيلليني.
بعد ثلاث سنوات من التوقف عاد الأستاذ بفيلمه "القافلة تسير"
(1983) أو حرفياً "وتمضي السفينة". تبحر السفينة "جلوريا" من
نابولي، إبان الحرب العالمية الأولى، بعد صعود المسافرين إلى "إريمو".
يجمع لنا فيلليني في هذه السفينة نماذج مختلفة وشديدة التباين،
مغنيين، مديرو فرق أوركسترالية، صحفي، نبيل إيطالي، رماد مغنية
شهيرة سينثر في المياه، خرتيت، صربي انتشلته السفينة بعد أحداث
سراييفو، يلقي بقنبلة على باخرة نمساوية/مجرية، ترد بدورها وتغرق
السفينة جلوريا. ينجو الصحفي، ونشاهده وهو مستقل قاربًا ويجدف
مسرورًا، وفي مقدمة القارب الخرتيت الذي نجا بدوره ويجتر غذاءه في
سلام وهو يتطلع لعرض البحر.
إنه حقًا فيلم غريب، قال بعض النقاد إن فيلليني في هذا الفيلم يصفي
حساباته مع فن الغناء الأوبرالي ونجومه، ويزعم أن المايسترو كان لا
يستسيغه كفن على الإطلاق! كل ما يمكن قوله عن هذا الفيلم، أن
المايسترو أثبت فيه أن ميله للوصف اللافت المتوهج لم يفقد مهارته
الكوميدية أو التهكمية.
اعتبر بعض النقاد "صوت القمر" (1993)، آخر أفلام المايسترو، هذا
العمل المليء بالإشارات والأفكار الحنينية، فيلم غريب وحزين. صوت
القمر هو الذي ربط كل الهواجس والموضوعات التي كانت تشغله منذ فيلم
"ثمانية ونصف"، بالإضافة إلى سلسلة المشاهد الغرائبية والفنتازية
كعهدنا مع فيلليني، لكن في هذه المرة يكاد العرض يماثل رقة وعذوبة
الشعر نفسه.
إننا إزاء تمكن ثلاثة قرويين من اصطياد القمر، الذي يقال إنه يصدر
أوامر إلى صغار الشياطين على الأرض، وتقييده داخل أحد العنابر. "إيفو"
(روبيرتو بينيني)، الذي تقول له جدته مقولة رائعة تلخص فيها فلسفة
فيلليني الحياتية برمتها "إن الذكرى أجمل بكثير من الحياة نفسها"،
يبقى في نهاية الفيلم يثرثر مع القمر بناء على دعوة منه بذلك. |