خلال عام 2014، وبين قاعات السينما والمهرجانات العالمية والعربية
والمحلية، وشاشة المنزل والإنترنت، شاهدت 185 فيلما طويلا جديدا،
بالإضافة إلى 401 فيلم قصير. ساعات وساعات انقضت أمام الشاشات، من
بينهما دائما لحظات لا تُنسى، أدونها بتواريخها دائما حتى تظل في
الذاكرة. وخلال العام المنقضى، كانت هذه هي أمتع اللحظات
السينمائية.
3
يناير: اندفاع
كان من الحظ الحسن أن أفتتح مشاهدات العام بواحد من أفضل وأمتع
الأفلام التي شادتها خلال الأعوام الأخيرة. «اندفاع» أو
«Rush»
لرون هوارد، الفيلم الذي يوهم من لا يعرف أنه مجرد فيلم رياضي آخر
عن سباقات السيارات، قبل أن يدرك أنه أكثر من هذا بكثير، لا سيما
لو كان كنت من محبي الرياضة على أرض الواقع، لتشاهد الصراع الرياضي
الكلاسيكي الأشهر على الإطلاق مجسدا على الشاشة في حكاية نيكي
لاودا وجيمس هانت بطلي سباقات الفورمولا وان.
بيليه ومارادونا، شيكابالا وأبو تريكة، وكل أشكال الصراع الأزلي
بين المهذب المجتهد مازج الموهبة بالتدريب، وبين الموهوب البوهيمي
الذي يخرج عن النص بنفس قدرته على الإبهار وخلب العقول. أفضل ما في
الفيلم أنه لا ينتصر لنموذج من الاثنين، ويقدم الحقيقة التي يرفضها
محللو البرامج الرياضية وجمهور الدرجة الثالثة: كلاهما عظيم،
متصالح مع نفسه، يمارس اللعبة من زاويته الشخصية. كلاهما جدير
بالحب والاحترام، وهو تصالح لن يدركه إلا من يعرف جوهر التنافس
الرياضي الحقيقي.
تتابعات السباق الختامي للموسم، وسط الأجواء الكابوسية الموحية
بكارثة آتية في الطريق، على العكس تماما من معظم الأشكال السابقة
لتقديم مضمار السباق على الشاشة، تظل واحدة من أمتع لحظات العام
السينمائية.
14
يناير: 12
عاما من العبودية
الفيلم الذي شغل ذهني لأطول فترة في 2014، شاهدته في الأسبوع
الثاني من العام ولم أكتب عنه إلا في بداية أكتوبر، بعد إعادة
مشاهدة لفيلمي المخرج ستيف ماكوين السابقين «جوع» و«عار»، واللذين
جاء بعدهما «12 عاما من العبودية» أو «12
Years A Slave»
ليكمل ثلاثية من نوع خاص، يطرح فيها المخرج بثلاثة حكايات في أزمان
وأماكن مختلفة، هما إنسانيا أصيلا هو العلاقة المعقدة بين الجسد
والروح، وكيف يمكن لإنسان أن يعيش صراعا تختبر فيه صلابة روحه في
مواجهة القدرات المحدودة للجسد البشري.
نفوس
البشر تتباين، ولكن جسد البطل والشهيد لا يفرق كثيرا عن جسد أي لص
حقير، كلاهما محاصر بالهواجس الثلاثة المخيفة التي طرحها ماكوين
تباعا: الحاجة والرغبة والألم. الحاجة كانت عدوا بطلا «الجوع»،
والرغبة حطمت حياة بطل «العار»، قبل أن يأتي سولومون نورثوب بطل
«12 عاما.. » ليواجه الهاجس الأكثر وحشية. «الألم» الذي يجعل
الإنسان يوافق أن يعود لنقطة الصفر أو تحتها بقليل، يتوقف عن
المطالبة بحريته التي يستحقها، ويخبئ حقيقة كونه قادرا على القراءة
والكتابة، بل ويوافق على تغيير اسمه نفسه، فقط ليحافظ على وجوده
المادي، وحماية جسده من التمزق ألما بسياط النخاسين والسادة البيض
المؤمنين بأن الزنوج هم عبيدهم وممتلكاتهم التي يحق لهم التصرف
فيها كما يحلو لهم.
هو أكثر فيلم عظيم تناوله المحيطون باستخفاف، تعلق تحديدا بأقوى
عناصره: السيناريو، تلك الحكاية المفزعة عن خروج الروح دائما خاسرة
عند أي صدام تخوضه مع قدرات الجسد.
9
فبراير: درب
الصليب
هذه متعة لن أنساها ما حييت: صباح اليوم الأول لي في مهرجان برلين
الذي طالما حلمت بحضوره، الفيلم الأول الذي أشاهده في قصر
البرلينالي، ليأتي عملا عظيما يستحق بشكل مجرد وبدون أي ظروف
مساعدة أن يظل محفورا في الذاكرة.
«درب
الصليب» أو
«Stations of The Cross»،
وهي الترجمة الصحيحة وليست دروب الصليب كما يشاع بين النقاد العرب،
فهو مصطلح لرتبة طقسية كنسية. الدرب مكون من محطات، 14 محطة تحديدا
تروي مراحل عذاب المسيح من الحكم بموته فصلبه وحتى وضعه في القبر.
اختار المخرج الألماني الشاب ديتريش بروجمان هذا الطقس كإطار سردي
لحكايته عن التطرف الديني: فيلم مكوّن من 14 مشهدا، يحمل كل منها
عنوانا لإحدى خطوات درب الصليب، على أن يكون كل مشهد مكونا من لقطة
واحدة طويلة، ليكون الفيلم في النهاية عبارة عن 14 لقطة سينمائية
فقط.
الاختيار نظريا غارق في أمرين، الذهنية والشكلية، فهو قائم بالأساس
على خيار ذهني بحت هو تحويل مراحل الدرب لمشاهد، عبر خيار شكلي بحت
هو المشهد أحادي اللقطة. خياران كفيلان في أي حالة أخرى لتحويل
الفيلم لتجربة سينمائية خالية من المشاعر الحقيقية. لكن بروجمان
تمكن من تحويل صياغته الخاصة إلى عمل فائق الإمتاع، قادر على الجذب
من الدقيقة الأولى، مدهش في بنائه وتركيبه وعمقه الفكري. عمق تجسد
فيه البطلة الصغيرة حال كل من يشوهه التطرف، حتى لو كان طيب القليب
سليم النية. عمل لا يشبه إلا نفسه، وهي نوعية نادرة الوجود.
13
فبراير: صبا
في البرلينالي أيضا شاهدت تجربة ريتشارد لينكلاتر البديعة والفريدة
«صبا» أو
«Boyhood»،
الفيلم الذي تم تصويره على مدار 12 عاما كاملة، ظل المخرج خلالها
يقوم كل عام بتصوير بعض مشاهد لحكاية ممتدة، ترصد في مشاهد روائية
فترة طفولة وصبا طفل وطفلة من عائلة أمريكية.
المدهش في الفيلم هو تفكيرك في تكوين شخصيتي الطفل والطفلة اللذين
لعبا دور الأبناء، وقضيا مراحل تشكيلهما النفسي بينما تعيش داخلهما
ـ حرفيا ـ شخصية أخرى، تخرج من حين لآخر لتؤدي دورها أمام
الكاميرا. وبينما يعود المخرج ليمارس عمله ويصنع أفلامه، كانت
شخصيتي ماسون وسامانتا تكبران وتتطوران داخل الموهبتين الصغيرتين،
في خبرة يصعب الإمساك بحدود تأثيرها عليهما.
حميمية التجربة جعتلني كمشاهد أشعر للحظة داخل الفيلم بشعور لم
أعتده، وهو أني أشاهد شيئا لا يفترض أن أشاهده، أشاهد جزءا حقيقيا
من حياة أفراد، يحمل من الزخم والحراك الداخلي قدرا يوازي خوائه
السطحي من الشكل التقليدي للحدث والدوافع الدرامية، حياة حقيقية
مكانها خلف جدران المنازل وليست على شاشات السينما، وهو شعور حقيقة
مربك حتى لمن اعتاد مشاهدة أكثر الأفلام شططا، لكنه إرباك ممتع
ومغلف بمذاق غير معتاد.
21
مارس: بستاردو
محسن باستاردو، طفل لقيط يكبر في حي عشوائي مغلق يحكمه جزار أشبه
بالفتوة، ويدخل صراعا لتغيير موازين القوة في الحي مع لرنوبة، ابن
الفتوة والحاكم الجديد للحي، والذي يتناقض شكله وتصرفاته المخيفة،
مع كونه طيب القلب محبا للأرانب التي صار اسمه مقرونا بها. وبين
الرجلين تقف بنت السنجرة، الفتاة التي يجتمع حولها الحشرات أينما
ذهبت، والتي تحب باستاردو وترغب فيه، لكنها في نفس الوقت تمارس
الجنس مع لرنوبة صاحب السلطة والمال!
هذا المزيج الغريب من الشخصيات هو سمة تكاد تجعل المخرج التونسي
نجيب بلقاضي صانع أفلام فريدا من نوعه في منطقة اعتادت تقديس
الواقعية بتنويعاتها، ليأتي نجيب منذ فيلمه الأول
«VHS
كحلوشة» بمعادلات جديدة، كلمة السر فيها هي القدرة على رسم عوالم
خاصة تجمع بين الفانتازيا والخيال الجامح في شكل الشخصيات
وعلاقاتها، وبين ارتباط هذا العالم الفانتازي الوثيق بالواقع.
الوحشية في عالم الفيلم، البشر كالحيوانات على الصعيدين الرمزي
والفعلي، حس السخرية العام وهوان كل شيء: الممتلكات والأرواح هينة
عند الشخصيات، والشخصيات نفسها هينة عند المخرج. عبثية تليق بفيلم
يبقى في الذاكرة.
7
يوليو: تحت
الجلد
عمل مدهش بصريا، يأخذ فيه المخرج جوناثان جلازر يدك، ليدخلك معه
إلى عالم من الهواجس السمعية والبصرية، عالم متخلص من تعقيدات
الحكي الكلاسيكية، اختار صانعه أن يقدم معالجة لرواية، فيجردها من
كل ما فيها من تفاصيل، ليكتفي فقط بخط عام لفضائية تأتي للأرض
لامتصاص أجساد الرجال، فتدخل في مشكلة وجودية تتعلق بتكوينها
وهويتها. حكاية غريبة، والأغرب منها اختيارات الصورة: مشاهد المخبأ
المجردة من الزمان والمكان والمرجعيات البصرية المعتادة، ومشهد
الرجل المشوه الذي زرع أول بذرة للإنسانية في نفس الفضائية الجميلة.
هو فيلم كابوسي بامتياز، حوّل مخرجه مدينة جلاسجو الاسكوتلاندية
إلى مسرح للخوف الحقيقي وليس خوف الأفلام المعتاد، خوف الوحدة
والضعف والحاجة لأنيس تكون نهايتك بيديه. لقطة الرضيع المتروك
وحيدا على الشاطئ بعد أن غرق والداه في البحر الهائج، بالتناقض بين
ضعفه وهشاشته، وبين غضب العالم المحيط به، هو كابوس ظل يطارد ذهني
لأيام.
13
سبتمبر: عمر
أبرز ما يميز سينما هاني أبو أسعد بشكل عام هي استيفاؤها لشرطي
الإمتاع والتفكير، فهي من جهة سينما تطرح فكرة مهمة تتعلق عادة
بالقضية الفلسطينية التي صار المخرج أبرز المتحدثين عنها سينمائيا،
ومن جهة أخرى أفلام ممتعة للمشاهدة بعيدا عن أي حسابات فكرية.
«عمر» يتحقق فيه هذا الشرط بوضوح، فيلم يرسم مأساة شكسبيرية
كلاسيكية في سياق معاصر، عن انعدام اليقين حتى في أمور يفترض أنها
بسيطة ومحسومة لكنها بالطبع ليست كذلك.
عمر الشاب الذي يحاول أن يناضل ضد الاحتلال كمعظم بني وطنه يجد
نفسه في مأزق إنساني مخيف، فمن السهل تخيل الشك في خيانة الآخرين،
لكن من المرعب أن يشك الإنسان في ذاته، ألا يعرف يقينا إذا ما كان
بطلا أم خائنا. عمر هو صورة سينمائية لموقف سياسي واجتماعي يزداد
تعقيدا كل يوم، وتتشعب فيه درجات الحقائق الرمادية بعدما كان قبل
نصف قرن بالأبيض والأسود. «عمر» فيلم ممتع عن قصة حب وصراع قوى،
لكنه في نفس الوقت فيلم مشحون بموقف إنساني نبيل من ضعف الإنسان في
مقابل مزايدات السياسيين.
19
سبتمبر: جزيرة
الذرة
يلتقط جورجي أوفاشفيلي ظاهرة طبيعية نادرة ليحولها لدراما بصرية
بديعة. الظاهرة هي الجزر التي تظهر في النهر الفاصل بين جورجيا
وأقليم أبخازيا لعدة شهور سنويا في موسم انحسار النهر، ليتجه إليها
بعض المزارعين ليعيشوا فيها خلال هذه الشهور، يزرعون الذرة
ويحصدونها، قبل أن تهطل الأمطار ويأتي الفيضان لتختفي هذه الجزر من
الوجود تماما، حتى تمر الشهور وتعود الكرة مجددا. هذه المرة لم تسر
الأمور بصورتها المعتادة للمزارع العجوز بطل الفيلم وحفيدته، بفعل
قوى بشرية متمثلة في الدوريات الحدودية التي تشغل المنطقة المليئة
بالقلاقل السياسية، وقوى طبيعية أزلية هي الطبيعة الباطشة، بكل
عنفها وجبروتها الذي لا يقف في وجهها شيء.
فيلم «جزيرة الذرة» أو
«Corn Island»
يربط بصريا الرجل بالأرض، التي يمد يده في ترابها ويبذر فيه جهده
وعرقه وروحه ليزرع فيه الحياة. صورة تقليدية للعلاقة بالجذور، لكن
الجديد هنا أن هذه الجذور هشة يعلم الجميع مسبقا أنها لن تبقى، حتى
لو لم يأت الجنود ولم تهب العاصفة، ففي النهاية الجزيرة محكوم
عليها بالغرق والرجل محكوم عليه بالرحيل. حقيقة مقبضة تجعل الأمر
يتخطى حدود الرمز الكلاسيكي ليصبح ممثلا لحياة البشر على وجه
الأرض، المليئة بالشقاء والجهد من أجل العيش، بينما يعلم الجميع أن
كل هذا إلى زوال. ولا يوجد ما هو أبدع من مشهد النهاية، الذي تهدأ
فيه العاصفة بعد رحيل الرجل وحفيدته، وتبدأ الجزيرة في الظهور من
جديد، ليصل إليها مزارع آخر، يدب يده في ترابها، يخرج دمية الحفيدة
التي دفنتها العاصفة، ويمسكها ليبدأ دورة جديدة من العبث.
5
أكتوبر: المؤتمر
لو كان هناك مشهد واحد سيعيش في ذاكرتي من العام كله، فسيكون مشهد
وقوف الممثلة روبن رايت في دائرة مكونة من مئات الكاميرات تلتقط كل
ملليمتر فيها بكل انفعالاتها، كي تحولها لنسخة رقمية تستخدمها
الشركات في صناعة أفلام لا تملك حق الاعتراض عليها. فشلها في
الالتزام بخطوات عملية المسح، تدخل وكيلها هارفي كيتل وحكايته عن
ماضيه ومتاجرته بالتشوهات ـ وهل التمثيل إلا شكل من أشكال التشوه؟
ـ تفاعل روبن وتساقط دموعها الممزوجة بالضحك. هذا مشهد عظيم يصعب
أن يخرج من نفس كل من يشاهده ويفهم ما وراءه.
بخلاف المشهد المذكور، يقدم «المؤتمر» أو
«The Congress»
سببا جديدا لحب سينما المخرج الإسرائيلي أري فولمان، المشبعة
بالخيال القاتم، اللقطات الحية قوية التأثير المختلطة بالرسوم
المتحركة البدائية. هذه المرة في حكاية عن عجلة التكنولوجيا التي
صارت واقعا رغم عن كل الأنوف، عجلة إن لم تقفز فيها ستسحقك تحتها.
وسواء قفزت أو سُحقت، تظل السعادة حلما بعيد المنال.
17
أكتوبر: زينيا
لحظة مثالية لسب الرقابة، وقبلها العقلية المحافظة المسيطرة على
الثقافة المصرية الحالية. هذا فيلم كنت أحلم بعرضه في مصر لكنّي
اضطررت لتجاوزه من تلقاء نفسي لعلمي أنه من المستحيل أن يحصل على
تصريح بالعرض، ليس لأنه فيلم دموي أو يروج للعنف والعنصرية كعشرات
المواد التي تبث يوميا في كل مكان، لكن لأن بطله ليس من النوع الذي
يرضى عنه المصريون: شاب مثلي في السادسة عشرة من عمره.
«Xenia»
للمخرج اليوناني بانوس كوتراس، حكاية مؤلمة عن عقدة الأب، عن أخين
يعانيان اغترابا مزدوجا، تارة لأنهما من أصل ألباني يلقيان تلقائيا
معاملة من الدرجة الثانية، وتارة لأن والدهما اليوناني تركهما
وهرب، ليصبح مجرد حلم في ذهن الصبي، حلم لصدر مشعر كان يوما ما
يساوي الأمان المفقود.
عبقرية الفيلم في تشوش شخصية الابن الأصغر عقليا وجنسيا، في اختلاط
بحثه عن علاقة ببحثه عن أب، بالعبثية التي يعيش بها في عالم لم
يشعره للحظة بالاحتضان، في تعبيره بموتيفات قد تبدو نظريا مقززة عن
مشاعر رقيقة يمكنها أن تمرر أي شيء. فيلم لا يجب أن يعرض إلا في
مكان يحترمه ويحترم الإنسان.
25
أكتوبر: حمامة
جلست على غصن تتأمل في الوجود
في عصر ما بعد الأساطير السينمائية والمدارس الجديدة، لا يزال
العالم يضم عددا محدودا جدا من أصحاب البصمة الخاصة، الذين يقدمون
سينما تعد بشكل ما اختراعا أو إضافة لطرق توظيف اللغة السينمائية
في صياغة فيلم سينمائي. أحد هذه الأسماء المعدودة هو المخرج
السويدي روي أندرسون، والذي ختم هذا العام ثلاثيته في الألفية
الجديدة بفيلم غريب الاسم، بديع الصنع، نال من التقدير ما يستحقه.
أندرسون العجوز السبعيني يقدم حكمة السنوات ونظرة خاصة عن الموت
الذي يعيشه البشر كل يوم في حياتهم الخاوية والاعتيادية، بينما
يعتقدون أنهم يقابلونه في نهاية أعمارهم فقط. حكايات تتزواج فيها
الكوميديا بالسوداوية بالإعداد البصري المتقن، وتسرد بشكل حداثي
ينحو في بعض مناطقه للفانتازيا، مأزق الخواء والموت عندما يصبح
حدثا يوميا عارضا، لا على طريق الدول المنكوبة التي يسقط منها موتى
بالمئات، ولكن على الطريقة الاسكندنافية الباردة، التي يمثل فيها
الركود والرتابة صورة أكثر قسوة للموت. لتكون النتيجة عمل غير
اعتيادي على الإطلاق، قد يجد البعض صعوبة في هضمه، ولكن من يتمكن
من ذلك سيظل فترة طويلة يشعر بالشبع.
26
أكتوبر: ذيب
الإنجاز الأكبر للسينما العربية في 2014، ليس لأنه صاحب التتويج
الأهم «أحسن مخرج من مسابقة آفاق في مهرجان فينيسيا»، ولكن لأنه
عمل ذو قيمة سينمائية مكتفية بذاتها، صاغ فيه المخرج ناجي أبو
نوّار حكاية ممتعة على صعيدها الخارجي: ويسترن سباجيتي في الجزيرة
العربية، رحلة يخوضها الطفل البدوي ذيب يواجه فيها مخاطر أكبر
بكثير من تصوره، والأهم هو قيمة الحكاية على صعيدها النفسي
والتاريخي: هذه قصة مكان يعيش ثورة تغيير، يمثله ذيب الذي لم يكن
من الممكن أن يتفادى مصير عالمه حتى لو أجل تعرضه لهذا المصير.
وكما هي الحال في أي تحول مفصلي يكون أكثر المتضريين هم أصحاب
المكان، وهم هنا البدو الذين أوجدوا صيغة تفاهم تاريخية مع
الطبيعة، فلم يخرقوا الاتفاق أو تخرقه الجزيرة، لكن الغزاة الآتين
من الخارج أجبروهم على التواجد داخل صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
طرح كهذا من الممكن أن يحول أي فيلم لثرثرة ثقافية فارغة، لكن
المخرج الشاب يحوّل هذا التغيير إلى أسطورة تدور أرجاءها في موقع
سينمائي بكر، لم يتم استغلال ماضيه وحكاياته من قبل بالشكل الأمثل
حتى جاء أبو نوار ليغير المعادلة.
28
أكتوبر: بيات
شتوي
في حديث سابق أجراه بعد فيلم «حدث ذات مرة في الأناضول» اعترف
التركي نوري بيلجي جيلان أنه لا يحب المشاهد الحوارية، ويخاف من
تنفيذها، لذلك يحاول أن يجرد أفلامه منها. اعتراف ظل في الذاكرة،
حتى سمعت عن حصول فيلمه الجديد «بيات شتوي» على سعفة كان الذهبية،
ثلاث ساعات ونصف تدور في فندق بأحد الجبال التركية، فكان من
الطبيعي أن يكون التوقع هو فيلم شعري تأملي، يمزج الدراما بالطبيعة
كعادته وعادة الموجة التي كان جيلان أهم مطلقيها في تركيا.
لكن عندما حانت فرصة مشاهدة الفيلم في أبو ظبي كانت المفاجأة بأنه
أبعد ما يكون عن التوقعات المسبقة. فيلم حواري بحت، ثلاث ساعات
ونصف من الحوار الشيق والذكي والمحمل بعشرات الأفكار والتفسيرات،
عن الوحدة والعزلة، عن الثروة الصغيرة وفسادها، عن شروخ الأخوة
والزواج. أفضل ما في العمل هو كيفية استخدام أداة الحوار التقليدية
في خلق شحنات عاطفية بصورة غير تقليدية، جيلان يقدم «مسرحية شديدة
السينمائية» إن جاز لنا الوصف. هذا فيلم من الطراز الثقيل، فيلم من
أفضل أفلام العام والأعوام السابقة.
29
أكتوبر: يومان
وليلة
المبهر دائما في سينما الأخوين داردِن هو قدرتهما العجيبة على
صناعة أفلام عظيمة بأقل تكلفة ممكنة. فيلم «ملتزم» بالمعنى
الاجتماعي للكلمة دون أن يفقد سينمائيته، يتحرك اعتمادا على
سيناريو محكم يتصاعد بوتيرة لاهثة، مقترنا في نفس الوقت بتطور
الحالة النفسية لشخصية البطلة التي تجسدها ماريون كوتيار بأداء
مبهر، وبما تكشفه الحكاية من فساد وانعدام للعدالة الاجتماعية في
المستوى الذي ينتمي إليه العاملون في المصنع، انعدام يضعهم رغما
عنهم في تجربة عسيرة للاختيار بين الإنسانية والقوت، فحتى من يرفض
مساعدة البطلة ويهددها، هو في النهاية مجبر على التمسك بالأمل الذي
بدا له في حياة أفضل ولو قليلا. تفهم المشاهد لمواقف من يفترض أن
يكونوا «أشرار الفيلم» هو أنبل ما تمكن جان بيير ولوك داردِن من
تحقيقه في فيلمهما.
10
نوفمبر: زي
عود الكبريت
مفاجأة العام السارة، فيلم غير متوقع على الإطلاق، فوجئ الجميع
بوجوده دون معلومات سابقة عن التحضير عنه، ليكتشفه مهرجان القاهرة،
ونكتشف معه أن حسين الإمام اختار قبل رحيله أن يكون أول من يرثي
نفسه، ويحتفي بمسيرته على طريقته الخاصة العابثة، يمزج لقطات من
أفلام والده حسن الإمام، بلقطات صورها خصيصا لتوضع فتجعل للمشاهد
القديمة معنى آخر عبثيا.
تاجر المخدرات يحتار كيف يقوم بتصريف بضاعته، فيختار بين الفتيات
الثلاث العاملات في الملهى الذي يمتلكه، أنيسة (ماجدة الخطيب)،
لولا (هند رستم)، وليلى (فاتن حمامة). عماد حمدي يتحول بفعل ألاعيب
الحوار والمونتاج إلى قاتل محترف، ويتغير مسار حوار عصابي يجريه
محمد صبيح عبر الهاتف إلى نقاش حول ضروره قيامه بتغيير البنطلون
والكلسون بعد أن «عمل على نفسه» من الرعب!
حسين الإمام الذي كان كتلة من البهجة والسخرية والسعادة تمكن من
توديع العالم بصورة تليق به، أما نحن فاستمتعنا بفيلم من نوع غير
معتاد إطلاقا في السينما المصرية.
11
نوفمبر: باب
الوداع
«هناك
أشياء ثلاثة يمكن القيام بها مع امرأة، أن تحبها، أن تعاني من
أجلها.. أو أن تحيلها إلى مادة للأدب». عبارة لورنس داريل توجز
باقتدار إنجاز المخرج كريم حنفي في فيلمه «باب الوداع»: تحويل الهم
الخاص جدا إلى مادة للسينما الجميلة، علاقة مركبة بالأم بين الحب
والخوف والاحتضان والمعاناة، تتحول إلى فيلم بصري من الطراز
الثقيل، الدراما فيه ساكنة سكون من يشتعل في مكانه، وهذا وصف يصعب
على الكثيرين تقبله، تماما مثل الفيلم الخلافي الذي انقسم الرأي
حوله بين سعيد وكاره.
صورة العروس الصغيرة التي طالما ما شاهدناها في طفولتنا، التي
يفترض أن تكون لعبة أطفال جميلة، لكن رداءة صنعها تحولها لمسخ صغير
مخيف. صورتها وهي محبوسة في الخزانة وشريط الضوء يمزق وجهها
لنصفين، هما أحد كوابيس العام السينمائية، كابوس ثلث قوته فقط آت
من الفيلم، وثلثاه من ذاكرة بصرية يشاركنا المخرج في الكثير من
تفاصيلها. ربما يعني هذا أن الفيلم موجه لمجموعة محدودة من البشر،
لكنّي أؤكد أني واحد من هذه المجموعة.
1
ديسمبر: مامي
أغرب ما يميز المخرج الظاهرة زافيه دولان هو مزج سينماه ـ نعم
الشاب ذو الخمسة وعشرين عاما صار لديه سينما خاصة جدا ـ بين
نقيضين: جديد الابتكار وثقة الخبير. دولان يجرب ما يحلو له، يخترع
لغته السينمائية الخاصة، لا يلتزم بأي شيء قياسي، لا زمن الفيلم
ولا شكل سرده ولا حتى حجم الكادر المعتاد الذي يتحول في «مامي» إلى
مربع صريح. يستخدم مشاهد فوتومونتاج على أغنيات بكثرة تسيء لأي
فيلم آخر، باختصار يفعل كل شيء يمكن في الظروف الطبيعية أن يحول
الأفلام لكارثة، لكن من قال أن هذا شخص طبيعي؟
هذا صانع أفلام موهوب حقا، موهوب لدرجة أنه يمارس كل هذه الخيارات
الغريبة والجديدة بثقة متناهية وإتقان نتيجته ثلاث ساعات أو أكثر
من الدراما، دراما نفسية ثقيلة لا تعرف كيف تمكن من وضعها شاب في
مثل عمر دولان. لكن مجددا دراما كهذه تحتاج إما لخبرة حياتية كبيرة
أو لموهبة استثنائية، وهو لديه الثانية.
10
ديسمبر: فينيكس
آخر مفاجآت العام السارة من الألماني كريستوفر بيتزولد في فيلم
يختلف عن التصورات المسبقة. فيلم بعنوان «العنقاء» عن امرأة يهودية
تنجو من معسكرات اعتقال النازي، لا يوجد أكثر من هذا ليمنحك تصورا
عن فيلم دعائي حول قيام اليهود من الرماد. لكن الفيلم يأتي على
خلاف المتوقع تماما، حكاية تشويقية مثيرة، نواتها أزمة إنسانية
واختبار ضخم تخوضه البطلة المجبرة على التعامل مع ماضيها بأغرب
صورة ممكنة: أن تتظاهر أنها نفسها، بمشاركة أقرب الناس إليها وأكثر
من أساء لها. تتابعات النهاية الكاشفة مع صوت البيانو وظهور وشم
معسكر الاعتقال، هي نهاية تبشر ببداية صراع جديد، سيشغل خيال من
يشاهد الفيلم للأيام التالية، وكأنه فيلم عظيم يمهد لآخر أعظم.
بشار إبراهيم يكتب لـ« لسينماتوغراف»
«مهرجان
الخليج السينمائي».. عودة النبض إلى البيت الخليجي
عبر سنواته، ودوراته، استطاع «مهرجان الخليج السينمائي» أن يكون
بيت السينمائيين الخليجيين، وهم الذين لا بيت سينمائياً لهم.
يحتاج السينمائيون الخليجيون لحاضنة تجمعهم، وترى أعمالهم،
وتعرضها، وتضعها في سياق الفعل السينمائي، والمسابقة، والمنافسة…
يحتاج السينمائيون الخليجيون لفرصة اللقاء، فيما بينهم، بعضهم
البعض…
كما يحتاجون للقاء مع سينمائيين، وأفلام، من العالم العربي والعالم
شرقه وغربه.
هل هناك أولى من دبي في فعل ذلك؟
وهل هناك أفضل من «مهرجان الخليج السينمائي» في تحقيق هذه الأمنية؟
على مدى سنوات، منذ العام 2007، استطاع «مهرجان الخليج السينمائي»
فعل الكثير: لقد تحوّل إلى بيت للسينمائيين الخليجيين، حاضنةً لهم،
منبرهم، لحظة تألقهم، وتكريمهم، واستعادة ما تحقق من قبل، وترقب ما
ينتظر أن يتحقق…
سريعاً… تحوّل «مهرجان الخليج السينمائي» إلى مؤسسة كبرى… لها
هيكلها، ونظامها، وآليتها، وبنيتها… كما لها معجبوها، ومنتسبوها،
ومشجعوها، وباذلوا كل شيء من أجل استمرارها.
لا أظن أن ثمة فنان خليجي لا يتمنى عودة «مهرجان الخليج
السينمائي»… واستعادته.
ودبي لا تخيّب الظن أبداً.
دبي لا تتخلّى عن ريادتها في المجالات كلها.
ودبي تعرف أن «مهرجان الخليج السينمائي» جزء من إبداعاتها.
ودبي تعرف…
عندما تشارك أفلام خليجية في المسابقات الرسمية في «مهرجان دبي
السينمائي الدولي».
عندما تفوز مخرجة يمنية بجائزة أفضل فيلم روائي في «مهرجان دبي
السينمائي الدولي».
عندما تفوز مخرجة إماراتية بجائزة أفضل فيلم وثائقي في «مهرجان دبي
السينمائي الدولي».
عندما يكون عدد من أفضل الأفلام العربية التي عُرضت هذا العام،
أفلاماً خليجية، لمخرجين أطلقهم «مهرجان الخليج السينمائي»، مثل
الإماراتي وليد الشحي، والبحريني محمد راشد بوعلي، واليمنية خديجة
السلامي، والإماراتية نجوم الغانم، والإماراتي مصطفى علي،
والإماراتي فاضل المهيري…
عندها ليس لنا سوى أن نقول:
عودة «مهرجان الخليج السينمائي»، هو عودة النبض إلى البيت الخليجي،
عودة الحياة، والحيوية…
عودة الالتقاء الذي يجمع الفنانين الخليجيين في مكان هو دبي، وفي
موعد هو «مهرجان الخليج السينمائي».
ودبي تسع الجميع، وتتسع لهم، وتتوسع بهم… |