بعد أسابيع من انقضاء العام الذي تذكرت فيه فرنسا رحيل فرانسوا
تروفو، ها هي جمعية «متروبوليس» تقيم في بيروت موسماً يكاد يكون
شاملاً لسينما هذا المخرج الفرنسي الكبير تعرض فيه عدداً من أبرز
أفلامه هو الذي كان عرض في لبنان عام 1973 واحداً من أجمل هذه
الأفلام وناقش خلال عرضه جمهوراً عريضاً، ونعني به فيلمه «الليل
الأميركي». هنا للمناسبة نستذكر فرانسوا تروفو وبعض ملامح سينماه.
كان تروفو علماً من أعلام السينما والفن في أوروبا وفرنسا. وهو حين
رحل عن عالمنا في العام 1984، كان في قمة مجده، هو الذي كان واحداً
من الذين أسسوا الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في سنوات
الخمسين، كما كان واحداً من أبرز مؤسسي النقد السينمائي الحديث في
فرنسا... وهو بدماثته وهدوئه وحبه المطلق لفن السينما وتكتمه
الشديد على كل ما يتعلق بحياته الخاصة، كان مثالاً يحتذى. ولئن كان
تروفو قد وضع نتفاً من حياته ومن سيرته في عدد لا بأس به من
أفلامه، فإنه بالكاد كان يمكن لأحد أن يربط تماماً بين تلك النتف
والسيرة الشخصية لصاحبها، حتى وإن كانت حكايات أنطوان دوانيل (عبر
أربعة أفلام هي من أجمل ما حقق تروفو)، كانت تبدو انعكاساً لبعض
حياة تروفو وأفكاره، ما جعل كثراً يعتبرون أنطوان دوانيل (ولعب
الدور دائماً جان - بيار ليو منذ كان صبياً صغيراً، حتى أصبح رجلاً
أخرق) صورة ما لتروفو نفسه.
حين رحل تروفو عن عالمنا خلّف وراءه أكثر من عشرين فيلماً طويلاً،
كان آخرها «يا حبذا يوم الأحد» وهو فيلم بالأسود والأبيض أتى ليخفي
خلف مرحه وخفة موضوعه قدراً كبيراً من الحزن. ولسوف يتبين لاحقاً
أن تروفو كان حين حققه، يعرف أن مرضه العضال لن يسمح له بالعيش
طويلاً. وهو حتى، من دون أن يحاول أن يجعل من هذا الفيلم وصيته
الفنية، أغرقه في مزاجية حادة. ولعل ما يلفت هو ان رفيقة تروفو في
ذلك الحين الممثلة فاني أردان، وضعت له ابنته الأخيرة بعد الانتهاء
من العمل في الفيلم، علماً أن أمه كانت ماتت فور انتهائه من تصوير
فيلمه الأول «الضربات الأربعمئة» قبل ذلك بربع قرن بالتمام
والكمال.
وربع القرن هذا هو، بالتحديد، عمر فرانسوا تروفو المهني. فمساره
كمخرج، والذي ابتدأ في العام 1959 انتهى في العام 1984. لكن حب
تروفو للسينما وذوبانه التام فيها كانا قد بدآ قبل ذلك بزمن
طويل... بالتحديد، وكما يخبرنا في فيلمه الأول، منذ كان صبياً،
يهرب من الصف ليتسلل إلى صالات السينما ويشاهد الأفلام، ومنذ كان،
في غفلة عن حراس الصالات، يسرق صور الأفلام المعلقة على الجدران.
السينما والحياة
مع فرانسوا تروفو، يصح تماماً القول إن الحياة هي السينما والسينما
هي الحياة، وعلى أية حال، كان هو، كما نعرف، صاحب القول الأشهر في
حب السينما: «من يحب السينما يحب الحياة.. ومن يحب الحياة يحب
السينما». ومن هنا لا يعود غريباً ذلك الاندماج بين السينما
والحياة لدى هذا الفنان الكبير.
في الحياة إذن، ولد فرانسوا تروفو يوم 6 شباط (فبراير) 1932 لأمه
جانين دي مونفران... التي كانت حملت به من دون زواج. وإذ تزوجها
لاحقاً رولان تروفو، قبل هذا الرجل أن يمنح الطفل اسمه ورعايته...
ولكن لشهور قليلة، بدا الطفل بعدها وكأنه عبء على الزوجين البائسين
اللذين صار كل همهما التخلص منه أو الحد من نزعته التمردية حين شب
عن الطوق. أما هو فسنعرف بعد عقود طويلة أن سؤالاً واحداً راح
يقلقه: من هو أبوه؟
وفي السينما، ولد فرانسوا تروفو، بعد مخاض سنوات، في العام 1959،
حين أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول «الضربات الأربعمئة» وعرضه في
المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» لذلك العام، حيث نال جائزة
الإخراج. والحقيقة أن الولادة كانت في ذلك اليوم مزدوجة: ولادة
مخرج، وولادة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. وكان مخاض هذه
الولادة الأخيرة قد دام نحو عقد من السنين. أي منذ تحلق تروفو وجان
لوك غودار وأريك رومر وكلود شابرول وجاك ريفيت، من حول «أبيهم»
جميعاً بالتبني أندريه بازان، ومن حول مجلة «كراسات السينما»،
راغبين في تثوير الفن السابع عبر خلق نمط جديد من العلاقة مع
الشاشة.
المهم هنا، هو أن العام 1959، كان مفصلياً في حياة تروفو، حيث من
النقد والاهتمام الثقافي بالسينما، إلى الإخراج، خطوة خطاها، في
نفس الوقت الذي قام فيه شابرول وغودار والآخرون بخطوات مماثلة.
وكان السر أفلاماً من غير كلفة باهظة، لا نجوم كباراً فيها ولا
ديكورات، أفلاماً تخرج السينما الفرنسية من بلادة وثرثرة كانت تعيش
فيهما.
وهكذا، اذا كانت سيرة فرانسوا تروفو قبل 1959، تبدو متنوعة ومتموجة
ومأساوية أحياناً، فإن سيرته بعد 1959، تبدو ممتزجة تماماً بأفلامه
وهنا حتى «الأسرار» المتعلقة بحياة تروفو الشخصية خلال النصف
الثاني من حياته وحتى مماته، إذا كان زمن قد مضى قبل الكشف بسبب
تكتم تروفو، وظهوره الأنيق الدائم تحت سمات الرجل الذي لا مشاكل
لديه، فمرة أخرى لابد من القول إن الإمعان في دراسة تفاصيل افلامه،
سيقول لنا الكثير: سنجد الرجل غير المستقر، الذي يغير امرأته في
شكل متواصل... وهو ربما صاحب كل ممثلة مثلت معه، من كلود جاد إلى
كاترين دونوف، ومن فرانسواز دورلياك إلى جولي كريستي، وصولاً إلى
فاني آردان آخر نسائه. وسنجد الإنسان القلق الباحث عن انتماء عائلي
لا يجده أبداً. وسنجد الرجل الشهواني الذي يبحث في منتصف الليالي
عن عاهرات يقضي معهن وقتاً.
في ثنايا أفلام تروفو سنجد كل شيء. لكننا سنجد أيضاً، وبخاصة،
السينما. وإلى جانب السينما سنجد ذلك الولع بالأدب البوليسي،
وبالعلاقات بين الناس... وبأمور عديدة هي التي شكلت العلامات
الأساس في نحو دزينتين من أفلام حققها تروفو... وخاض عبرها، عدداً
لا بأس به من الأنواع السينمائية.
والحقيقة أن في وسعنا أن نتبع هنا تقسيماً لسينما فرانسوا تروفو
يأتي على الشكل التالي:
الأفلام التي تدنو من الذاتية عن طريق الأنا - الآخر: أنطوان
دوانيل، وقام بالدور جان - بيار ليو كما أشرنا، منذ أول فيلم في
هذه المجموعة («الضربات الأربعمئة» 1959)، وحتى الأخير «الحب
الهارب» (1978) مروراً بـ «قبلات مسروقة» (1968 )، و «منزل زوجي» (
1970 ). والحقيقة أن في إمكاننا أن نضيف إلى هذه الأفلام الأربعة
فيلمين قصيرين لتروفو هما «البستون» (1957) و «أنطوان وكوليت»
(1962). في «الضربات الأربعمئة» كان أنطوان دوانيل في الرابعة
عشرة، مشرداً في الشوارع هائماً بحب السينما يتساءل حول العائلة
والحرمان. أما في «قبلات مسروقة» فلدينا أنطوان وقد صار راشداً
الآن يعيش ارتباكاً واضحاً أمام كل امرأة... لكنه لا يزال حالماً.
من حول انطوان هذا، وضع تروفو في هذا الفيلم جملة من شخصيات غريبة
وحنونة في فيلم مسلٍ لكنه عميق.
في «منزل زوجي» يحدث لأنطوان أن يصعد في السلم الاجتماعي فيتزوج.
ولكن من دون أن يتخلى عن أحلامه وارتباكه وإخفاقاته. وإذا كان
تروفو قد حقق هذا الفيلم استجابة لطلب هنري لانغلوا (رئيس
السينماتيك الفرنسية) الذي حين شاهد «قبلات مسروقة» عبّر عن رغبته
في أن يشاهد ثنائيّه يتحرك على الشاشة من جديد، فإنه - أي تروفو -
عاد وحقق لاحقاً «الحب الهارب» ليصور أنطوان دوانيل في لحظة رسم
جردة لحياته وقد أضحى الآن في الخامسة والثلاثين، متذكراً كل
اللحظات الكبيرة والحاسمة في تلك الحياة، وقد عزم على أن يظل
مراهقاً إلى الأبد.
بين الأدب والمسرح
بعد تلك المجموعة الأولى من أفلام تروفو تأتي مجموعة ثانية تتألف
من فيلمين ويطلق عليها اسم «تروفو والطفولة». والحقيقة أن هذين
الفيلمين لا يمكن أبداً فصلهما عن المجموعة الأولى، حتى وإن لم تكن
لأي منهما علاقة مباشرة بسيرة تروفو الذاتية. فالفيلم الأول
وعنوانه «الطفل الضاري» ، هو عمل بالأسود والأبيض حققه تروفو في
العام 1969، انطلاقاً من حكاية حقيقية يرويها دكتور يدعى آيتار
(يقوم تروفو بدور الدكتور في الفيلم) عن اكتشافه لطفل منعزل ضار،
وتولّيه أنسنته وتربيته. والحقيقة أن هذا الفيلم إنما يكشف اهتمام
تروفو الدائم ليس فقط بمسألة الطفولة، بل كذلك بمسألة العلاقة مع
الأب. إذ، حتى لو كان هو الأب هنا، فإن الطفل أيضاً (بتمرده
وعلاقته بالآخر: الدكتور) يبدو صورة مواربة لتروفو... في علاقته،
مثلاً، مع أندريه بازان. أما الفيلم الثاني الذي يكمل هذه
«المجموعة» فهو «مصروف الجيب» الذي حققه تروفو في العام 1976، من
حول أستاذ وزوجته الحامل وعدد من تلامذته... حيث - بقدر كبير من
الحنان والتعاطف - يصف لنا المخرج الحياة اليومية لأولئك الصغار
الذين يعيشون على هامش حياة الكبار، في هواجسهم اليومية ومخاوفهم.
هنا أيضاً، في هذا الفيلم، لم يفت النقاد أن يروا جزءاً من سيرة -
ولو متخيلة - لفرانسوا تروفو. وكذلك فعل النقد بالنسبة إلى فيلم
«آديل ه». الذي حققه تروفو لاحقًا عن سيرة ابنة فكتور هوغو.
فرانسوا تروفو، المولع بالسينما حتى الوله، وحتى الاندماج
الخالص... والمولع كذلك، من خلال السينما بكل أنواع الفنون
والأداب، كان لا بد له في أفلام أساسية حققها أن يغوص في الأدب وفي
الفن... كما في السينما نفسها، معلناً أن ما من خلاص لكآبة الكون
ورتابة الحياة إلا في الفنون وعبرها. ولعل في إمكاننا أن ننظر إلى
واحد من أول وأجمل أفلامه وهو «فهرنهايت 451»، المأخوذ عن رواية
للأميركي راي برادبري على أنه فعل إيمان حقيقي بالأدب وبالكتابة في
شكل عام. هذا بالنسبة إلى الأدب والكتاب، أما بالنسبة إلى السينما،
فإن تروفو هو الذي سيحقق في العام 1973، واحداً من أجمل الأفلام
التي حققت عن السينما في تاريخها: «الليل الأميركي» الذي هو، من
خلال لعبة الفيلم داخل الفيلم، ومن خلال تصوير تروفو لنفسه كمخرج
يحقق فيلماً جديداً له، قدم تحية حب لهذا الفن الذي ما كان في وسع
مخرج من طراز تروفو أن يفصله عن الحياة نفسها. ولم يكن صدفة أن
يفوز هذا الفيلم، عام عرضه، بأوسكار أحسن فيلم أجنبي في هوليوود،
مع أن لا حكاية فيه ولا خدع سينمائية، بل فن السينما في نقائه
الخالص.
وإلى جانب الأدب والسينما، وإلى جانب حكاية الحب الرومانسية التي
كانها واحد من أول وأجمل أفلامه، «جول وجيم» كان للمسرح كذلك نصيب
من فن تروفو، وذلك عبر فيلم «المترو الأخير» وهو أحد من أجمل
الأفلام التي حققها وأقواها. ولقد فاز «المترو الأخير» في العام
1980 بعشر جوائز سيزار متوجاً مسار تروفو وفنه، قبل أربع سنوات من
رحيله. وهذا الفيلم الذي يلعب بطولته كاترين دونوف وجيرار ديبارديو،
تدور أحداثه في باريس أيام احتلال النازيين الألمان لها، من حول
ممثلة مسرح هرب زوجها من النازيين فتولت هي إدارة العمل مكانه،
فيما اختبأ الزوج في قبو المسرح، يشهد حزيناً، غراماً يتقد بين
زوجته وممثل المسرحية الرئيسي. هنا وبصرف النظر عن موضوع الفيلم و
«رسالته» عرف تروفو كيف يعيّش متفرجيه وسط أجواء المسرح ويصوّر زمن
الاحتلال الفرنسي تصويراً خلاقاً... ما جعل الفيلم فيلم أجواء ولا
يزال يعتبر إلى اليوم واحداً من أجمل الأفلام الفرنسية التي حققت
خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
في الأدب أيضاً، ولكن هذه المرة في الأدب البوليسي التشويقي الذي
كان من الطبيعي لعاشق سينما هيتشكوك أن يشغف به أيضاً، حقّق
فرانسوا تروفو خمسة أفلام - منها ثلاثة بوليسية خالصة، واثنان
يقتربان، قليلاً أو كثيراً، من عالم السينما البوليسية، ومعظمها
مقتبس من روايات أميركية الأصل.
إطلالة تروفو الأولى على فيلم التشويق كانت إذاً، مبكرة، أي في
العام 1960، حين حقّق «أطلقوا النار على عازف البيانو» من بطولة
شارل أزنافور... وهو فيلم تختلط فيه الجريمة بالفن بعالم الليل
بالحب، من خلال حكاية عازف يعمل في بار ليلي ويعيش مكتئباً هناك
منذ انتحار زوجته واكتشافه خيانتها له. وهناك في البار يلتقي نادلة
تقرّر أن تخرجه من الحال التي هو فيها... لتعيده إلى فنه، لكن
الثمن لن يكون زهيداً.
وفي العام 1968، اكتشف تروفو، ضمن قراءاته البوليسية كاتباً لم يكن
معروفاً في ذلك الحين هو ويليام آيريش، وعلى الفور وقع في هوى أول
رواية قرأها لآيريش ليحقق انطلاقاً منها فيلمه «العروس كانت ترتدي
ثياب الحداد»، من بطولة جان مورو، عن عروس قتل زوجها يوم عرسهما،
فتقرر - وتنفّذ - انتقامها العنيف والبطيء من كل أولئك الذين
اكتشفت أنهم تآمروا على عريسها وخطّطوا لقتله وقتلوه.
يومها ما إن عرض هذا الفيلم وراح يحقق نجاحاً، حتى كان تروفو قد
شرع في تحقيق تال له، عن رواية أخرى لويليام آيريش عنوانها هذه
المرة «حورية الميسيسيبي»، وجعل البطولة لكاترين دونوف، في دور
عروس آتية من أميركا ليقترن بها صناعي فرنسي ثري كان تعرّف بها عن
طريق المراسلة.
أما آخر حبة في عنقود هذه المجموعة فهو الفيلم الأخير الذي حقّقه
فرانسوا تروفو: «يا حبذا.. يوم الأحد» (1984) والذي عاد فيه إلى
الأسود والأبيض وإلى بساطة الموضوع وكأنه يترك عبر فيلم تشويقي -
كوميدي، وصيته السينمائية الأخيرة. هذا الفيلم اقتبسه تروفو، على
عادته في أفلامه التشويقية، من رواية للكاتب تشازلز وليامز، لكنه
حوّر كثيراً في المناخ العام ليربط الفيلم بما اعتاده من مناخات...
ولقد نجح الفيلم ما كان يعد بانطلاقة جديدة لهذا الفنان، كان من
أوائل مشاريعها فيلم «السارقة الصغيرة» الذي رحل من دون ان يبدأ في
تصويره، فحقّقه كلود ميلر، الذي كان شاركه في كتابة السيناريو.
شراب أزرق «مشبوه» لتنقية المجتمع من حروبه وشروره
بيروت - فجر يعقوب
لم يشأ صنّاع الفيلم اللبناني «فيتامين» إطلاق عنوان «فياغرا» عليه
لسبب مرتبط ربما بنوع الكوميديا التي يذهبون إليها. هذا ليس فألاً
سيئاً على أية حال. ربما يبدو العنوان أكثر حرفية وإغراء من التوجه
الحرفي المباشر للجمهور الذي قد يتقلب هنا على جمر إغراء المصطلح
من دون أن يحظى بالكثير مما هو رابض في مخيلته التي ترتبط هنا
بمفعول الحبة الزرقاء السحرية. الفيلم لا يوفر هذا ولا ذاك. يطلق
العنان لمخيلة كوميدية، أقرب إلى الفانتازيا الريفية المشبعة
بالموقف، بالطبع من دون أن يتجاهل الدعوة للعودة إلى «الضيعة» التي
تتصدى لها نجمته زمردة (ماغي بوغصن) حتى أنها تقنع بسحرها وشقاوتها
وجنونها التحري جمال ابن مدينة بيروت «كارلوس عازار»، للعودة في
النهاية إلى هواء الضيعة وترابها ويعاف الحياة المدينية التي كان
يغرق فيها لاهياً ومستأنساً بين فتياته الكثيرات، وهو له وجهة نظر
خاصة هنا مقتنصة من سحر الأفلام التي يذهب فيها التحري السمين
للبحث عن زميله الأكثر ذكاء فيعثر عليه تائهاً في مغامرة عاطفية
ينشد فيها سكينة وطمأنينة روحية ولا يعثر على ضالته. حياة المدن
تغرقه في الضياع واللاجدوى، فنجده منطوياً على نفسه تائهاً ومغللاً
بوعي وجودي سطحي على الأغلب، وليس أمامه إلا الانطلاق في مغامرة
سيُكلّف بها حتى يعثر على الترياق الروحي المفقود في المدينة.
سينما هذا الجمهور
بالطبع، لا يمكن اختزال فيلم «فيتامين» للمخرج اللبناني إيلي ف.
حبيب الذي يعرض في الصالات اللبنانية منذ منتصف الشهر الماضي،
بالحديث عن نجميه فقط. وفق بعض الاستبيانات فهو يحظى بأعلى نسبة
مشاهدة وحضور حتى اللحظة. في الفيلم سنطل على رواية كلود صليبا
(المؤلفة) على ضيعة بير المير التي هزمت فيها زراعة الحشيش على يد
الدولة، وهي الزراعة التي كان يعتاش منها كثر، ما تسبب بانصراف
الشباب خلف أرزاقهم في هجرة جماعية وبقي فيها بعض المسنين والمسنات
الذين يعيشون على الذكريات الوردية التي غرقوا وتجللوا بها يوماً.
ذلك العجوز الذي كان يرفع الأثقال بيد واحدة ها هو اليوم بقايا
إنسان يسير على متكأ حديد بالكاد يمكنه رفع قبعة القش. وذلك البئر
الذي كان يدفق بالماء بالكاد تستطيع العمة العجوز أن ترفع ربع سطل
منه. وكذلك ضرع البقرة الذي يجف وينتج بضع قطرات من الحليب، وحقل
القصب اليابس وشعر المسنات الذي لا يعود يكفي لإظهار حسنهن
وجمالهن، وحتى العصفوران العاشقان في القفص يتأثران بأحوال الضيعة
كما يخبرنا عجوز بذلك.
إذاً، نحن أمام حالة مَحْلٍ وجفاف تضرب الضيعة التي ستعيش من الآن
فصاعداً على إيقاع مغامرة زمرد ورافعة وإسعاف. ثلاث فتيات بقين في
الضيعة لأسباب مختلفة بالتعاون مع وحيد الذي يستنطق مغارة جبلية
ويعيش فيها بين المدافع والحشوات النارية كأنه أضغاث أحلام من حرب
سابقة ويرى أن ما يحدث خارج كهفه ليس إلا مؤامرة يشترك فيها
الجميع. ستقوم الفتيات الثلاث بالتعاون مع وحيد بالسطو على سيارة
يتبين أن ليس فيها المال المنتظر، وأن حمولتها ليست إلا صناديق من
الفياغرا تعود في ملكيتها لآل «الدح». لا تغيب عن المخرج فكرة
إشراك النجمة السورية شكران مرتجى في دور مدام «الدح». ليس الدور
في حاجة إلى شرح هنا. هذا الزواج غير المقدس بالنسبة لهما، يظهر
علاقتهما غير إنسانية وغير سوية ويتخللها مناغشات بأصوات حيوانية
قد تقود إلى فهم لمجريات الحكاية التي يريد حبيب إيصالها للمشاهد.
نحن أمام ارتباط غير شرعي وزواج للسلطة برأس المال وما يدور أمامنا
على الشاشة ما هو إلا تكثيف لنوع هذه العلاقة، بالتالي يمكن فهم
هذا التأرجح الذي تبديه مفاصل العمل الأخرى التي لا تخلو من
مبالغات ظرفية كان يمكن إعادة تدويرها في سياق مونتاجي – ربما – مع
التخفيف من نوع «الإيفيهات» المفتعلة إلى حد السماجة التلفزيونية
طبعاً التي سيستخدمها الجميع بغية انتزاع الضحك من الجمهور. في
ضيعة بير المير التي تعيش أحداث المطاردات بين التحريين طلال وجمال
اللذين يجيئان من بيروت بتكليف من آل «الدح»، سيعيش الأول على وقع
غرامه بفتاة «فايسبوكية» صودف أنها كانت واحدة من الفتيات الثلاث
(إسعاف)، وسينسى المهمة التي جاء من أجلها، وسيقول بصريح العبارة
أنه لم يعد يقبل لعب دور محامي الشيطان، وأن على آل «الدح» التوجه
إلى الدولة والتبليغ عن الحمولة المفقودة إن لم تكن مخالفة. حمولة
الفياغرا الشريرة التي تلقي بها زمردة (العقل المدبر) في بير المير
هي رمز القداسة الريفية العليلة هنا، فزمردة فتاة متعلمة حاصلة على
شهادة في الكيمياء الزراعية من بيروت وعلى الجميع الاستماع إليها
لأنها تدرك أنه المكان الأمثل، ربما بإدراك غير واع منها، ويحدث أن
تمطر وتغرق البضاعة الشريرة بالماء، وحين يقبل أهل الضيعة على
البئر لنقل الماء والشرب منه وسقي المزروعات به والتأثر به، سيبدأ
الرجال الهرمون بمطاردة نسوة الضيعة وإشباع رغباتهم، وسنحصل على
فواكه وخضار ضخمة وسيعثر الحبيب على ضالته في حبه المفقود. هذا
سيبدو مفهوماً تماماً بنتيجة هذه المغامرة غير المحسوبة، ولكن حين
نقع على كامل أهل الضيعة يتأثرون بشرب الماء المخلوط بالفياغرا لن
يشرح لنا المخرج كيف كان يعيش الناس هنا من دون ماء، وإن كان الأمر
مجازاً ما، لم تقع الفتيات الثلاث على نصيبهن منه حتى نعرف مدى
تأثيره فيهن. ناهيك عن أن ضيعة بير المير في أزقتها وشوارعها
الأنيقة لم يكن يظهر عليها تأثير المحل والجفاف إطلاقاً. حتى أن
سناء احتفظت بـ «اللوكاندة» التي تذكّرها بزوجها من دون تعليل
للسبب، إذ كيف يمكن الإبقاء عليها في ضيعة غادرها أهلوها ولم يبقَ
فيها إلا بعض المسنين؟ وما نفع هذه اللوكاندة وجدواها إن لم تكن
تغص بالزبائن والسياح؟ من المؤكد أن المخرج حبيب أرادها رمزاً لزمن
آفل كان يعيش فيه اللبنانيون، في زمن الضيعة السعيد، على وقع
الأغنيات الريفية الجميلة التي لا تستعاد اليوم.
سينما طموحة ولكن... باللون الرمادي
الدار البيضاء – مبارك حسني
يندرج شريط «هم الكلاب» الذي مثل السينما المغربية في الكثير من
المهرجانات والمناسبات، ضمن مجموعة أفلام مخرجين مغاربة من الجيل
الجديد يرتكزون في عملهم السينمائي على صورة غربية الشكل بموضوع
مغربي صميم. ﻻ يستند هذا التوجه إلى تميز ما، وﻻ إلى جديد، بمقدار
ما يروم الحكي لتحقيق جماهيرية ما، بخاصة في الغرب لتدليل المبدعين
الشبان على قدرتهم على مجاراة هذا الغرب في ما يعدونه مميزاً له من
تقنية حديثة ومن حرية طرح رأي في الخارج. أما في المغرب فللظهور
بمظهر المنخرط في الهم العام والقادر على «تصوير» جريء و «ثوري» إن
أمكن تحقيق ذلك. «هم الكلاب» فيلم يجعلنا نتبين هذين المعطيين
عيانياً.
حراك بنغمة رمادية
من جهة الموضوع، يتعلق الفيلم بما عرفه العالم العربي من ربيع على
ما يبدو، أي بذلك الحراك البشري الذي انطلق في الشوارع العربية
مطالباً بالتغيير. سينمائياً لن يحلم مخرج بثيمة أقدر على جلب
اﻷنظار، ومغربياً تظهر حركة 20 فبراير بما حركته مجتمعياً وسياسياً
مجاﻻً للتخصيب والتوظيف الصوري السينمائي في سابقة تمنح المخرج
ريادة، شريطة التناول في العمق بالانحياز الحقيقي للطرح «التمردي»
للحركة بما أعلنته دفاعاً عن العدالة والكرامة والمساواة ضداً على
ما تسميه بسطوة المستبدين أي الـ «هؤﻻء» أو الـ «هم» الذين تمت
اﻹشارة إليهم في عنوان الشريط بأداة لغوية لا غير، في حين ظلت
الإشارة الفعلية المحددة لهم عامة. وحامل فكرة الشريط هذه أشخاص
متحلقون حول شخصية محورية هي «المجهول» أو صاحب الرقم السجني 404،
أوجده المخرج كما لو كان قسراً في خضم تظاهرات، بما أنه ينتمي إلى
زمن سابق وحركة سابقة هي إضرابات سنة 1981 ذات الخلفية النقابية
والمنحى السياسي اليساري، والتي خلفت ضحايا وأسرى، وكانت فاصلة في
تاريخ المغرب السياسي.
هي حيلة «أدبية» جاذبة إذاً، تمنح الكتابة متسعاً للتوظيف السردي
والتوالدي للحكايات، استعارها المخرج في مجال سردي مختلف يعتمد على
الحكي بالصورة، وهو ما قد يمس ببلاغة الخطاب المقصود تأثيره في
المشاهد. قصة الشريط إذاً، هي حكاية «المجهول» الذي وجده صحافيون
في الخضم تائهاً ومختلفاً ومن دون أسس تركيز في واقع يتجاوزه،
ويحاولون عبر طموح تحقيق سبق تلفزي ما، إفراغ مخزونه من الغرابة
ومما راكمه من «تاريخ» غير مدون لكن يحمله في جسده وشرايينه وفي
عمق عينيه.
نتتبع الفيلم إذاً، نزوﻻً في رحم ذاكرة وفي حمى حراك جماهيري، وفي
الأماكن السود لمدينة الدار البيضاء عبر تواز سردي غير محمود وﻻ
مضمون العواقب. الفيلم ليس له حينذاك سوى ركوب أسلوب التحري كي
يطور ماكينة الحكي التي نسجها بتوخي النهل من لغة وحوادث وقفشات
الشارع. نرى مغرباً بلون الرماد والبين بين من خلال رصد شخص لا
يعرف حركية الزمن المتنامية بعد أن سجن ذات تظاهرة عارمة، وبعد أن
قضى ردحاً من الزمن خارج الحياة بمعناها الطبيعي. التوقف هنا له
ميزة القول أن لا شيء تغير وبأن العيش ليس مرتبطاً بالتطور
والتغيير والنمو، بل فقط بالمسايرة والمهادنة ولو كانت كل الظروف
تعاكس الطموح للرقي، وتعاكس كل عيش أفضل.
نرى الفكرة تمتح من الشائع المجتمعي الذي نعرف أنه ينبني على
الإشاعة والعاطفة والأمية والقصدية السلبية التي تتراوح بين
المُغرض والمبيَّت والمعتقد العام وإن كانت مشيدة على النية
الحسنة، لكنها سينمائياً مثيرة وفي ذلك ما يفسر خضوع المخرج لها،
بل وحفرها بالعمق واسثتمارها طويلاً وفي كل المناحي ولو أفقدت
العمل السينمائي تركيزه الخاص، طالما أن كل شيء خيال في خيال لا
يمس الخطوط الفاصلة، وبما أن الحرية في القول الملون بالسواد مسموح
بها منذ زمن.
خلفية سينما الأنفاق
النقل في الفيلم يبدو في الحقيقة محترماً وجريئاً لكنه ﻻ يضيف
جديداً بعد أن جُرب في أفلام مشابهة سابقة، ما يخلق تياراً في حد
ذاته كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. تيار له شكل خاص نتبينه هنا أيضاً.
فالمخرج يتميز هنا بتخيره الأجواء السينمائية المقبلة من سينما
الأندرغراوند النيويوركية والسينما المستقلة والفردية الفرنسية
التي يصنعها سينمائيون ﻻ يدخلون ضمن سينما الإنتاج التجاري، ولهم
رغبة في التعبير إبداعياً، وليس فقط تحقيق الفرجة العابرة. كما
بالاعتماد على جماليات التصوير «التلفزي» في تأسيسه على الكاميرا
المحمولة والسرعة وخلط الصور واللقطات واللعب أحياناً على التوثيق
الحي وأحياناً على الاختلاق اللحظي للصور ما يسفر عن تركيبة تتراوح
ما بين الواقعي المحض والمتخيل. هذا من دون نسيان أثر التكنولوجيا
«الإنترنيتية» وتصورها الخاص للصورة وإنتاجها المتسم بالضآلة
والصخب والضجيج والسيل والأثر المفارق عند المشاهدة. هذا كله يجعل
الشريط منخرطاً في عصره العام وفي عصر المجتمع الذي يود الحديث
عنه. لكنه في المحصلة الأخيرة يمنحنا عملاً سينمائياً عاماً، قد
ننقله من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر، من دون أن تتغير الأمور
كثيراً، بما أن الهدف الكامن وراء تحقيقه هو التأثير السينمائي
الجماهيري مع الإلحاح على بعض مميزات الوضع المغربي الذي لم تعد
مناطق الظل والرماد فيه خافية على أحد منذ ما لا يقل عن عقدين من
نشر شتى الوثائق وفتح الدواليب السرية والدراسات التي تفضح وتبين
وتفتح الأبواب على المعرفة التي كانت متخفية.
صحيح أننا هنا أمام فيلم يحقق فرجة سينمائية ممتعة وحقيقية، لكنه
عمل سينمائي من أعمال العصر الشبابي المغربي الذي تنقصه المعرفة
العميقة للأشياء التي لا تنقذها الصورة الحديثة، ولا التناول
الشبيه بما يحقق شباب مجتمعات غربية.
«سيلما» حراك سلمي يهزم قسوة العنف ويعيد العنصرية إلى الواجهة
مونتريال - «الحياة»
بعد ما يقرب من 50 عاماً على الأحداث التي أدت إلى اعتراف سلطات
الولايات المتحدة الأميركية بالحقوق المدنية للسود، يبدو أن مسألة
العرق لم تنته فصولاً. فما شهدته مؤخراً بعض المدن الأميركية (خاصة
فيرغسون ونيويورك) من تظاهرات احتجاجية دامية، أعاد إلى أذهان
السود أن ممارسات الشرطة العنصرية لم تتغير وأن اليوم أشبه
بالبارحة ومعركة الحقوق المدنية لم تحسم بعد.
نموذج نضالي
هذه المشاعر التي يتقاطع فيها الإحباط بالأمل ترددت أصداؤها عبر
الفيلم الدرامي التاريخي «سيلما» -Selma
الذي بدأت عروضه الأولى في صالات مونتريال في التاسع من كانون
الثاني – يناير الجاري، ولاقى إقبالاً واسعاً قل نظيره. الفيلم
أميركي طويل ( 122 دقيقة )،من إنتاج أوبرا وينفري (تلعب فيه بنفسها
دور آلي لي كوبر إحدى أبرز شخصيات الحراك السلمي للمرأة السوداء).
وهو من إخراج آفا دوفيرناي عن سيناريو بول ويب. أما أدوار البطولة
فأسندت إلى كل من ديفيد اويلو ممثلاً القس مارتن لوثر كينغ داعية
الحقوق المدنية للسود الأميركيين، وتوم ولكنسون في دور الرئيس
الأميركي الأسبق ليندون باينس جونسون.
حقبة قاتمة
يسلط «سيلما « الضوء على حقبة قاتمة من تاريخ الولايات المتحدة
الأميركية كانت قد شهدت عام 1965 سلسلة احتجاجات شعبية منظمة
للمطالبة بحق التصويت للسود أسوة بمواطنيهم البيض. وسرعان ما تطورت
إلى معركة لنيل الحقوق المدنية تزعمها قادة من الأفارقة السود
والأميركيين البيض وقضى بعضهم دفاعاً عنها كونها جزءاً لا يتجزأ من
المبادئ الديموقراطية. كما يركز على رمزية «سيلما» ليس كاسم لمدينة
في الجنوب الأميركي تقطنها غالبية من السكان السود وحسب، وإنما
كمهد لثورة سلمية أرّخت لحركة نضالية تحررية وجوبهت بشتى أنواع
القمع والعنف والإذلال وسقوط الضحايا خاصة يوم «الأحد الدامي» في7
آذار (مارس) عام 1965. حينذاك انطلقت من سيلما مسيرة ضخمة ضمت في
بدايتها حوالى 3200 شخص وظلت تكبر ككرة الثلج حتى وصلت إلى حوالى
25 ألفاً بعدما قطعت مسافة 85 كيلومتراً سيراً على الأقدام وحطت
رحالها في مدينة منتغمري عاصمة ولاية الاباما التي يشكل السود
حوالى 50 في المئة من سكانها ولا يتمتع بحق التصويت منهم سوى نسبة
ضئيلة لا تتعدى 2 في المئة. كما كان حاكمها تيم روث (جورج دالاس)
واحداً من أشرس المعارضين للاعتراف بالحقوق المدنية للسود ورمزاً
للفصل العنصري في أميركا. ويلفت الفيلم إلى دور المرأة الفاعل
والمؤثر في الحراك السلمي لمدينة سيلما عبر الشخصية التي تمثلها
اوبرا وينفري في دور آني لي كوبر الناشطة الأميركية من أصل افريقي
والمناضلة من أجل حق التصويت في الانتخابات. وهي التي اشتهرت
بمواقفها الجريئة وإصرارها على تسجيل اسمها في لوائح بلدتها سيلما
وإقدامها على صفع رئيس الشرطة فيها بعد أن أمعن في حرمانها من هذا
الحق بشتى الوسائل.
وفي السياق ذاته يقدم الفيلم صورة مشرقة لمارتن لوثر كينغ ليس
كرسول لحركات اللاعنف أو كقائد تاريخي وحسب، وإنما كـ «ديبلوماسي
ومفاوض بارع» استطاع، لأول مرة وفي لحظة تاريخية معقدة، أن يقنع
رئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق ليندون جونسون بإصدار
قانون يعطي حق التصويت للسود الأميركيين.
وخلافاً لهذه الصورة البراقة كان جهاز «اف بي آي» الأميركي يجري
خلف المفاوضات محاولات حثيثة لإجهاضها ويترصد كينغ في حركاته
وسكناته، ويتسلل إلى حياته العائلية ويحاول تشويهها والإيقاع بينه
وبين زوجته كوريتا سكوت كينغ (الممثلة كارمن ايجوجو) من خلال
تسجيلات كاذبة تتهمه بالخيانة مع زوجات أخريات.
أقوى من العنف
وينتهي الفيلم باستعراض حاشد لآلاف المتظاهرين الذين وصلوا لتوهم
إلى باحة مونتغمري الرئيسية فخاطبهم لوثر كينغ (يظهره الفيلم
بشخصية كارزمية جذابة) بكلمة حماسية شدد فيها على أن «حراكنا
السلمي أقوى من العنف وأننا سننعم بشمس الحرية قريباً». إلا أنه
وإن لم ينعم بما وعد به أو أن إيمانه بمقولة «حلم واحد يغير العالم
« لم يتحقق، إلا أنه تحول بعد اغتياله عام 1968 إلى رمز وطني مقاوم
لدى كل إنسان لا فرق أسود أو أبيض تنتهك حقوقه المدنية.
يبدو من خلال عرضه الأول أن «سيلما» قد حظي بشبه إجماع من جمهور
النقاد الكنديين. فالناقد في جريدة «لابرس» مارك اندريه رأى أن «
توقيت الفيلم قد جاء في لحظة تاريخية مواتية جداً على مختلف
المستويات العاطفية والتجارية ما يعزز ترشيحه المنتظر للفوز بجائز
اوسكار». في حين اعتبره اوديل ترامبلي الناقد في صحيفة «لو دوفوار»
فيلماً «يؤرخ لحقبة تاريخية من النضال السلمي لحركة السود
الأميركيين لم يتطرق إليها أو إلى حياة قائد مسيرتها كينغ أي فيلم
روائي أو درامي على هذا القدر من النجاح» .
أما زميله مانون دومي فيعتقد أن «سيلما» هو» أفضل وأكثر أفلام
السير الذاتية صدقاً، رغم تطوره الدراماتيكي البطيء وتوتراته
العرقية التي تكشف كيف تمزّق النسيج الأميركي الاجتماعي».أما مؤسسة
«ميديا فيلم» الكندية فأشادت ببراعة المنتجة آفا ماريا دوفرناي في
«معالجتها للبعد الاستراتيجي لقيادة مارتن لوثر كنغ وكيف أن
الاحتجاج اللاعنفي يكون في أقصى فاعليته لدى مواجهته بالعنف».
قال نقاد إن فيلم «سيلما»مرشح قوي للفوز بجائزة أوسكار. وبرعت
المخرجة آفا ماريا دوفرناي في معالجة البعد الاستراتيجي لقيادة كنغ
وكيف أن الاحتجاج اللاعنفي يكون في أقصى فاعليته لدى مواجهته
بالعنف. واختيرت مدينة سيلما تحديداً بسبب وحشية شرطتها وقسوة حاكم
الولاية العنصري جورج والاس.
الشمال أولاً... وللعالمية والعربية مكان
غوتنبرغ - قيس قاسم
يفرض الإقرار بكونه أكبر المهرجانات السينمائية في دول الشمال،
تحديات دائمة على مهرجان غوتنبرغ السينمائي، من بينها المحافظة على
مستواه والمجيء بأفكار جديدة وابتكار ثيمات تزيد من حيويته وتكرس
تفرده كمنصة لعرض وتقديم سينما شمال أوروبا وفي شكل خاص
الإسكندينافية منها، وأيضاً الموازنة الدقيقة مع عالميته التي تفرض
أيضاً شروطها عليه. وهذا ما يفلح في تحقيقه وفي شكل لافت كل عام
إلى درجة صار السؤال بالنسبة للمتابعين والجمهور لا عن جودة مستواه
كمهرجان أوروبي جماهيري الطابع، بل عما سيقدمه من مقاربات جديدة
تُشبع رغبة جمهور سويدي طموح يكرس جُل وقته في هذة الفترة من كل
عام من أجل متابعته والمشاركة في فاعلياته ومشاهدة أكبر مقدار من
الأفلام المعروضة فيه.
فن تشكيلي وسينما
وكما توقع المدير الفني للمهرجان يوناس هولمبيري، فإن عدد التذاكر
المباعة ربما سيتجاوز هذة السنة كل سابقاتها لأسباب ذكرها في
المؤتمر الصحافي وكتب بعضها في مقدم كاتالوغ الدورة الثامنة
والثلاثين. ومن بينها زيادة الأفلام المعروضة، والتي بلغت 500
فيلماً ثلثها من دول الشمال والبقية من كل قارات العالم. وتوافقاً
مع الذكرى المئوية لعرض أول فيلم تحريك سويدي، نظمت الدورة
برنامجاً خاصاً لهذا النوع من الأفلام ما سيوسع من مساحة المعروض
منها إلى جانب ما سيرافقها من فاعليات أُطرت في عنوان «الفن
التشكيلي والسينما» وعليه ستشهد معارض المدينة ومتاحفها عروضاً
كثيرة لفن «الفيديو آرت» وسيشارك سينمائيون ورسامون تشكيليون في
الحديث عن سينما التحريك في ندوات مختلفة تقدم مراجعات تاريخية
لهذا الفن ونماذج قديمة من بينها فيلم فكتور بريدال الأب الروحي
لسينما التحريك في السويد «الشراب السحري». كما ستحضر الفنانة
والسينمائية التشيكية ميكائيلا بافلاتوفا التي تعد واحدة من بين
أبرز المشتغلين في حقل التحريك. وعلى المستوى العربي ستكون هناك
مشاركة من خلال فيلم «النبي لجبران خليل جبران» الذي ساهم في
إنجازه مجموعة مخرجين من بينهم الخليجي سعيد حارب، مخرج مسلسل
التحريك التلفزيوني «الفريج» إلى جانب روجرز آلز وجوان جراتر
وتكفلت بإنتاجه الممثلة سلمى حايك التي تلعب فيه دوراً صوتياً.
والفيلم كما بات معروفاً مقتبس من كتاب جبران خليل جبران الشهير.
وسبق أن عرض في مهرجان «أجيال» في الدوحة.
عرب في كل مكان
السينما العربية حاضرة في شكل جيد هذا العام، رغم غياب مصر،
وأفلامها توزعت على خانات كثيرة وذات قيمة اعتبارية على عكس
السنوات الماضية حيث انحصر تقريباً وجودها في تظاهرة «القارات
الخمس»، ففيلم «تمبوكتو» لعبدالرحمن سيساكو وضع بين «الماستر» الذي
ضم أسماء سينمائية مهمة من بينها الراحل آلان رينيه ولاف دياز،
ياسيكا هاوزنر، برونو دومون وفريدريك وايزمان. فيما أدرج «الوهراني»
للمخرج الجزائري لياس سالم ضمن أفلام «أسبوع النقاد». واختارت
الدورة، التي تستمر من مساء اليوم الجمعة حتى الثاني من شهر شباط
(فبراير)، فيلم الأردني ناجي أبو فوّاز «ذيب» بين «مفضلات
المهرجان». وفي «الكوميديا الإلهية» وهي التسمية الجديدة لخانة
«الكوميديا» القديمة مع تغييرات في محتواها، سيعرض الفيلم اللبناني
«غدي» لأمين درّة وإلى جواره فيلمان كثُر الحديث عنهما، الأول
كراوتي - بوسني مشترك في عنوان «جزيرة الحب» ومخرجته ياسميلا
جبانيتش في تجربتها الكوميدية الأولى بعد ما عرف عنها شدة عتمتها
السينمائية، والتي تجلت بوضوح في فيلمها الرائع «لهؤلاء الذين لا
يبوحون بالحكايات» عن النساء البوسنيات المغتصبات أثناء الحرب
الأهلية اليوغسلافية. أما الثاني فمن إسرائيل القليلة الكوميديا
وعنوانه «دوافع صفر» التي وضعت فيه مخرجته تاليا لافي، وربما من
المرات القليلة، المرأة كبطل في حكاية تدور أحداثها في ساحات
الجيش، وعليه حصلت على جائزة أفضل فيلم في الدورة الأخيرة لمهرجان
ترايبكا السينمائي. أما في قسم «أصوات جديدة» فأدرج العمل الأول
الطويل لباتين قبادي «مردان» والمرشح عن العراق للمنافسة على جائزة
الأوسكار لأفضل فيلم غير أميركي. ومن إنتاج كردستان العراق، أيضاً،
سيُعرض فيلم شوكت أمين كوركي «ذكريات منقوشة على حجر». أما شريط
«أنا مع العروس» فأخذ مكانه بين أفلام «أوروبا أوروبا» لاشتراك
الإيطاليين أنطونيو أوجوجليارو وغابرييل ديلغراندي مع السوري خالد
سليمان الناصري في إخراجه، فيما ظل «فيلا توما» بلا وطن، كما ورد
في كاتالوغ المهرجان، بعد أن نسبته مخرجته سهى عراف أثناء عرضه في
مهرجان فينيسا إلى فلسطين ما أثار حفيظة إسرائيل التي طالبتها
بإعادة مبالغ الدعم التي قدمتها للفيلم.
وبالنسبة للأفلام الوثائقية فحصّتها معقولة هذا العام من بينها:
«ماء الفضة - سوريا: صورة ذاتية» للسوري أسامة محمد الذي سيساهم مع
عبدالرحمن سيساكو في ندوة في عنوان «العنف والمقاومة» وفيها
سيناقشان مع الجمهور دور السينما في تناول ظاهرة العنف والتطرف
الديني. كما أُدرج ضمن البرنامج رغم تقادمه النسبي فيلم «شلاط
تونس» لكوثر بن هنية إلى جانب الوثائقي السوداني «على إيقاع
الأنتونوف» لحجوج كوّكا الذي يسجل فيه فصولاً من الحرب بين الشمال
والجنوب وعلاقة الشعب السوداني تاريخياً بالموسيقى وكيف يستخدمها
مواطنو ولايتي النيل الأزرق وجبال النوبا كوسيلة للدفاع عن النفس
في مواجهة غارات طائرات «الأنتونوف» وهي تُسقط قنابلها عليهم.
سينما الشمال
يجمع غوتنبرغ مثل بقية المهرجانات العالمية أفضل ما هو معروض في
المهرجانات الكبيرة التي تسبقه ويقدمها لجمهوره دفعة واحدة وخلال
مدة زمنية محدودة. واللافت أثناء مراجعة برنامج الدورة الـ38
لمهرجان غوتنبرغ السويدي وجود أكثر من عشرين فيلماً مهماً فيه عرضت
قبله في أبو ظبي، ما يشير إلى تقارب في ذائقة مبرمجي المهرجانين في
شكل يستدعي النظر إلى الأمر بتمعن، وإلى قراءة بعض المهرجانات
العربية بمقاييس أبعد من محليتها. كما يحرص غوتنبرغ على إضافة أهم
الأفلام التجارية والمتنافسة على جوائز الأوسكار إلى برنامجه
لتقارب توقيت إقامته مع إعلانها بفارق أن الدخول لمشاهدتها أرخص
بكثير للجمهور من مشاهدته في الصالات السينمائية خلال الأيام
العادية. لكن، يظل اهتمامه الأكبر بسينما الشمال فيسعى جاهداً
لتقديم الجديد منها ويدخل أفضلها إلى مسابقة «التنين» التي تبلغ
جائزتها مليون كرونة سويدية (ما يعادل 150 ألف دولار أميركي) ومن
المفارقات التاريخية أن المخرج النرويجي الكردي الأصل هشام زمان قد
حصل عليها مرتين متتاليتين على فيلميه «قبل سقوط الثلج» و «رسائل
إلى الملك» وهذا ما لم يحدث خلال تاريخ المهرجان قط، ما يشير ضمناً
إلى ظهور جيل من المخرجين المهاجرين في إسكندينافيا يتمتع بمواهب
لا يمكن التغافل عنها، وأيضاً إلى تطور لافت في السينما النرويجية
التي كرست الدورة لها برنامجاً خاصاً وكرمت في «منجز العمر»
الممثلة العملاقة ليف أولمان عن مجمل أعمالها السينمائية وستعرض
لها بالمناسبة فيلمها الأخير «الآنسة جولي» الذي وقفت فيه خلف
الكاميرا كمخرجة، كما سيكون فيلم الافتتاح «مفتاح منزل المرايا» من
الجارة الإسكندينافية.
أما السينما الدنماركية فتظل صاحبة المفاجآت الكبيرة التي ينتظرها
الجمهور السويدي بترقب، ومن بين ما ستقدمه فيلم «تدفق» العمل
الروائي الطويل الأول للمخرج الدنماركي العراقي الأصل فنار أحمد،
إلى جانب أفلام أخرى منتقاة بعناية من فنلندا وآيسلندا.
قصص مستقلة تقارب السينما
راسم المدهون
وحـــدها درامــا القصص المستقلة من تنجح في إقامة علاقة وثيقة بين
الدراما التلفزيونية والسينما. في هكذا أعمال تجدنا أمام «رواية»
تلفزيونية كاملة خلال سهرة واحدة، أي أننا من جديد أمام فن الدراما
البصرية وقد استعاد ميزته الأهم والأكثر جاذبية وأعني التكثيف
والاتكاء على الصورة في درجة أساسية، مع ما يعنيه كل ذلك من البعد
عن الثرثرة والزوائد وكل ما لا يقدم ولا يؤخر ولا يؤثر حذفه في
تماسك العمل أو بنيته.
هي دراما يركب كاتبها الصعب، إذ عليه في تقاليد الحلقات الثلاثين
أن يقدم ثلاثين رواية تلفزيونية تمتلك كلها الجاذبية والتشويق
وتحمل في الوقت ذاته قيماً ومضامين فكرية إنسانية واجتماعية راقية
ومفيدة للمشاهدين.
بعض هذه الأعمال يقوم على وجود شخصيات محددة الأسماء والملامح
لكنها تعيش في كل حلقة أدواراً جديدة وتواجه مصائر متباينة، فيما
يقوم الأهم على حلقات ذات قصص جديدة في كل شيء بما في ذلك الشخصيات
ذاتها، والتي تنسحب في نهاية كل حلقة لتأتي بعدها شخصيات جديدة
تعيش في الحلقة اللاحقة قصصاً وحياة مختلفة تماماً.
النوع الثاني إذ تتغير شخصياته وأبطاله يتغير ممثلوه بالطبع وهي
ميزة تمنحه تنوعاً وخصوبة ضروريين لإكساب الدراما عوامل نجاح أكبر،
بل حتى لمنحها مساحة أوسع لملامسة قضايا الحياة وشؤونها التي لا
تحصى دون إيقاع الملل في نفس المشاهد.
مع ذلك هي دراما لا يعشقها المنتجون ولا شركات الإنتاج، بل هي إلى
حد كبير لا تروق للممثل الذي لا يجد رغبته في دور تلفزيوني لحلقة
واحدة يخرج بعدها من العمل كله مفسحاً مكانه في الشاشة لغيره من
الممثلين ومعهم أحـداث قصة أخرى.
ولأننا نتحدث عن دراما تلفزيونية تقارب السينما أو بكلمات أخرى
تشبهها (في التكثيف على الأقل)، فإننا بالتأكيد نتحدث عن فن أكثر
إبداعاً أو إذا جازت العبارة أكثر فناً.
هل يستطيع الفن أن يكون أكثر فناً؟
نعم هو يستطيع حين يقارب لغة بصرية ذات جماليات خاصة أي لغة الصورة
التي لا تحتاج في غالبية الأحيان عوامل إسناد من خارجها تكبلها
بقيودها. |