Altman 2014 "ألتمان"
هو آخر أفلام المخرج والمنتج التسجيلي الكندي رون مان، ويتناول فيه
قصة حياة المخرج المتميز روبرت ألتمان، الذي حطّم الكثير من
القواعد الراسخة في نظام العمل والاستوديو بهوليوود، وصار واحدًا
من أعظم المخرجين الأمريكان.
يعتبر الفيلم نظرة عميقة لحياة الراحل روبرت ألتمان، المخرج
والإنسان. وقد حاول فيه مان رصد رحلة حياة المخرج منذ أن كان
طيارًا في الحرب العالمية الثانية، ومرورًا بتاريخه المهني في
السينما، مستعينًا في ذلك بأرشيف من الصور وأفلام أسرته، إلى جانب
بعض الأفلام القصيرة التي لم ترَ النور، والمقاطع المُصورة أثناء
إخراجه لأفلامه. وهي في حدّ ذاتها مادة شديدة الغزارة واحتلّت ما
يقترب من نصف زمن الفيلم، الذي يزيد عن ساعة ونصف الساعة تقريبًا.
نال ألتمان، "بوب" كما يطلقون عليه في الفيلم، الكثير من الإشادة
والتقدير والجوائز في أنحاء العالم نظرًا لأسلوبه المتميز في
الإخراج، الأمر الذي أكسبه صداقة العديدين، في حين كان لأسلوب
ألتمان في تنفيذ أفلامه الكثير مما هو غير سائد ومتصادم مع العادي
والشائع آنذاك وبالذات مع مدراء الاستوديوهات في هوليوود، الأمر
الذي أكسبه أيضًا عداوة الكثيرين. غير أن ألتمان نجح في أن يُمهِّد
لنفسه الطريق كي يكون واحدًا من الرواد والآباء المؤسسين بحق
للسينما المستقلة في أمريكا، عندما أخرج أول أفلامه وكان بعنوان
"المنحرفون" (1957).
ينطلق الفيلم من فكرة محورية تدور حول السؤال الذي طرحه مخرج
الفيلم، "ما هي الألتمانية؟" (نسبة إلى ألتمان). هذا السؤال، وجهّه
المخرج إلى العديد من المتعاونين مع ألتمان على مدار حياته المهنية
في صناعة السينما أو خارجها حيث الأصدقاء وحتى أسرته. وبالطبع مع
كل إجابة يتكشّف لنا شيئًا فشيئًا الكثير مما نجهله، سواء فيما
يتعلق بأسلوب ألتمان وطريقته في العمل أو فيما يتعلق بحياته الخاصة
وعائلته وأصدقائه، أو وجهة نظره هو تجاه الحياة بصفة عامة، والتي
ننصت إليها بصوته في مراحل متعددة من حياته، وذلك عبر الاعتماد على
عدد كبير من المواد الأرشيفية والمقابلات الصحفية والتليفزيونية
واللقاءات المسجلة معه على مدى حياته، إضافة إلى أشرطة الفيديو
والتسجيلات والصور الفوتوغرافية المملوكة لعائلة ألتمان، والتي
عملت أرملته "كاترين ألتمان" على إمداد المخرج بها.
وقد لجأ مان أيضًا إلى ابنيّ ألتمان، روبرت وستيفن، كي يوضحان
العديد من المواقف أو يستكملان الكثير من الفجوات التي لم تفلح
الشرائط الفيلمية والمواد الأرشيفية في استكمالها أو توضيحها
والإجابة عنها. أيضًا تطرّق مان لمناقشة علاقة ألتمان بابنيه
وأمهما وغيرها من الأمور الأسرية، التي جاءت الإجابة عنها على نحو
خجول وموارب كثيرًا، في حين صرّح ستيفن بجرأة شديدة أن والده كان
كثير التغيُّب، وكيف أنهما لأغلب الوقت لم يكونا من ضمن أولوياته
على الإطلاق. كذلك تظهر على نحو أساسي في الفيلم أرملته كاترين ريد
ألتمان، التي رافقته في مسيرته المهنية منذ البداية وتعرف العديد
من المعلومات والأسرار عن مهنة زوجها ومشاريعه والكثير مما كان
يفكر فيه. وكاترين، كما ورد بالفيلم، في التسعينات من عمرها. وتقول
إن زواجها بألتمان استمر لستة وأربعين عامًا تقريبًا، وقد وصفت
حياتهما معًا بكونها صعبة، لكنها كانت رائعة في ذات الوقت.
تطرّق الفيلم إلى مهنة ألتمان ككاتب، حيث كانت أولى مساهماته في
الحقل السينمائي ككاتب مشارك في قصة فيلم بعنوان "عشية عيد
الميلاد" في عام 1947، وكيف واصل ألتمان الكتابة السينمائية حتى
قبل وفاته بسنوات قليلة، وفي رصيده التأليفي ما يزيد عن خمسة
وثلاثين عملا. وكيف أنه وقبل أن ينتقل إلى الإخراج السينمائي، مارس
العمل كمخرج مُنفِّذ لعدة سنوات، ثم انتقل للإنتاج بعد ذلك، حتى
شارك بأول فيلم روائي من إخراجه في عام 1957، وكان بعنوان
"الجانحون".
أطلق هذا الفيلم شهرة ألتمان، ودشنّه كمخرج سينمائي لافت ومتميز،
وهو أيضًا الذي جعل المخرج الكبير ألفريد هيتشكوك يختاره كي يكلفه
بإخراج مختارات من سلسلته التليفزيونية الشهيرة "ألفريد هيتشكوك
يقدم"، والتي قدمها هيتشكوك في الفترة من عام 1955 وحتى عام 1962.
وقد أنجز ألتمان المهمة باقتدار، وقدم تلك السلسلة في جزأين حملا
عنوان "الشاب" و"معًا". وقد أسهمت تلك النقلة في فتح المجال على
اتساعه أمام ألتمان ليعمل أكثر بالتليفزيون بوتيرة سنوية استمرت
حتى منتصف الستينات تقريبًا.
ومع انتصاف الستينات قرر ألتمان ترك التليفزيون والعمل بالمسلسلات
رغم ما حققه من شهرة ونجاح لافت، وذلك للاشتباك الجدي مع المنتجين
والاستوديوهات من أجل تقديم أفلامه. وقد تحقق له هذا بالفعل في
مطلع السبعينات، وتحديدًا عام 1970 مع فيلمه الذي حقق نجاحًا
تجاريًا وجماهيريًا، وكان بعنوان "ماش"، وهو فيلم حربي درامي
وكوميدي، بطولة دونالد سازيرلاند وروبرت دوفال. وكان عن الحرب
الكورية، وقد أخرجه ألتمان وهو في الرابعة والأربعين من عمره، وفاز
عنه بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان".
وقد ركّز بعض النقاد والكثير ممن عملوا مع ألتمان، على عدد من
التقنيات المغايرة التي كان يستخدمها في أفلامه مثل البطء أو
اللقطات المقربة على نحو شديد من عدة كاميرات وبأكثر من زاوية،
والكثير من المشاهد المرتجلة التي تحيد تمامًا عن النص الأصلي.
كذلك لجوء ألتمان لبعض الحيل الجديد مثل الميكروفونات الصغيرة جدًا
التي يسجل بها حوار كل ممثل، ثم يقوم بعد ذلك بدمجها معًا على نحو
مكثف، بحيث تبدو كضوضاء متداخلة أو كأصوات متراكبة.
من الشخصيات المعروفة التي ظهرت بالفيلم، إضافة إلى زوجة ألتمان
وابنيه، الممثل الراحل روبن وليامز، والممثلة جوليان مور، والممثل
بروس ويلز، والممثل جيمس كان، والممثل كيث كاردين. وأيضًا المخرج
بول توماس أندرسون، الذي أهدى فيلمه "سيكون هناك دم" لألتمان،
والذي قال عنه "لقد سرقت من بوب بقدر ما أمكنني".
يقول الراحل روبن وليامز عن الألتمانية، إنها "توقُّع ما هو غير
متوقَّع"، في حين أجاب بروس ويلز على نفس السؤال قائلا، "ركل مؤخرة
هوليوود". وبعد الكثير من النقاش حول هذا السؤال المحوري المطروح
من جانب مخرج الفيلم والحصول على العديد من الإجابات المتنوعة،
نخرج في النهاية بإجابة مفادها أن الألتمانية ليست فقط مجرد أسلوب
أو نهج إخراجي ما، بل هي قدر من الحساسية المضادة للمؤسسة،
والمؤيدة للاستقلالية الفردية، وقد تتسّم بالخشونة والصخب، لكنها
في النهاية غاية في الإنسانية والصدق.
ليس ثمة شك في أن الفيلم يعتبر من أقوى المداخل للتعرف على سينما
وحياة المخرج الكبير روبرت ألتمان لمن لا يعرفه. وهذا ما يذكره
مخرج الفيلم صراحة، ويعترف بأنه بإخراجه لهذا الفيلم يكون قد أدّى
ما عليه تجاه الرجل والأجيال التي ترغب في التعرُّف على عمله.
لكن، وبالرغم من نبل المحاولة والكثير من الجهد المبذول من جانب
مان، نجد أن الفيلم في النهاية، من الناحية الفنية والتقنية، لم
يكن سوى مجرد تلخيص سردي عادي لحياة المخرج الراحل. وقد جاء هذا
التخليص غير متوازن بعض الشيء، ويعتمد كثيرًا على العديد من
المقاطع المأخوذة بكاميرا ألتمان المنزلية له ولأطفاله ونزهاتهم
إلى آخره، من دون أي سبب واضح، سوى الإعجاب بتلك المادة، التي
منحها له آل ألتمان.
وفي النهاية لم يفلح رون مان في الاقتراب كثيرًا من روح ألتمان
الفنان والمخرج في أعماله كمبدع ومبتكر ومجدد في لغة السينما،
وكذلك الاقتراب من الكيفية التي صنع بها العديد من الأفلام المهمة
والناجحة أو التي لم تلقَ القبول والنجاح أيضًا. لكن رون مان أفلح،
على أية حال، في تقريبنا من ألتمان الإنسان وأطلعنا على تجربته على
نحو استعراضي شامل، يتسِّم بالصدق والإخلاص لموضوعه قدر الإمكان.
لقد صنع العديد من الأفلام التي كان يرغب في صناعتها وعلى النحو
الذي يريد، دون أن يلجأ للحيل أو المساومات أو الحلول الوسط، إلا
فيما ندر. يقول مان، وقد اعتاد قول هذا كثيرًا لطلابه ومريديه، "لو
حاول أي مخلوق أن يعبث بفيلمك، احرق النيجاتيف". ليس ثمة شك في أن
ذلك الرجل، بتلك التركيبة الشديدة التعقيد والجنون والجموح، والتي
شاهدنها في الفيلم، لم يكن ليتردد بالمرة في الإقدام على هذا الفعل.
ولد المخرج الكندي رون مان في تورنتو عام 1959، وهو أيضًا منتج
سينمائي معروف في مجال السينما التسجيلية التي تركز على الفن
والثقافة الشعبية المعاصرة. ومن أشهر أفلامه التي أخرجها "كتاب
كوميدي سري" (1988)، و"العشب" (1999)، و"اذهب لأبعد من ذلك" (2003).
مهرجان سالونيك: رحلات، أفلام وبشر..
قراءة في ملامح الدورة السابعة عشر لمهرجان سالونيك الدولي للأفلام
التسجيلية
رامي عبد الرازق - اليونان
من بين عشرة أقسام ضمّتها الدورة السابعة عشر لمهرجان سالونيك
الدولي للأفلام التسجيلية (13-22 مارس) شهد قسمي"رحلات إنسانية" و
"تكريمات" محاولة للاحتكاك مع التفاصيل والسياقات الفكرية التي
ينجز من خلالها المخرجين تجاربهم، وبالتحديد أربعة من أهم مخرجي
العالم سواء في مجال الأفلام الوثائقية أو الروائية.
في قسم رحلات إنسانية الذي عرض 22 فيلما من أصل 185 فيلم، هم حصيلة
برامج المهرجان العشر، قدم المخرج الدنماركي كريستيان تومسون فيلم
"فاسبندر: أن تحب دون متطلبات" عن المخرج الألماني الراحل راينر
فيرنير فاسبندر (1945-1982) بينما قدّم الألماني كونستانتين وولف
فيلمه "ايرليش سيدل: المخرج أثناء العمل" عن السينمائي النمساوي
صاحب "ثلاثية الجنة" و "موديلز" و "تصدير واستيراد".
في حين كرّم المهرجان في قسم التكريمات اثنين من صناع السينما
الوثائقية الأوروبيين والذين أنجزوا أفلاما تنحاز في المقام الأول
إلى الإنسان قبل الحدث، وهما الفرنسي النمساوي الأصل "هيبرت سوبير"
والروماني "ألكسندر سولومون" وذلك بعرض خمسة أفلام لكل منهم في
إطار برنامج التكريمات التي يمنحها المهرجان كل عام لصناع السينما
الوثائقية في العالم.
فاسبندر المسكون بالعاطفة
في عام 1982 توفى المخرج الألماني الشاب راينر فاسبندر على إثر
جرعة زائدة من المهدئات، فيما تأرجحت الآراء بعدها هل كان انتحارا
أم لا! وبقدر ما كانت نهاية مأساوية للمقربين منه، كانت أيضا صدمة
للأوساط السينمائية العالمية التي أبهرها هذا الشاب الألماني خلال
سنوات عمره القليلة بأفلامه المغايرة "الخوف يأكل الروح" و "الحب
أكثر برودة من الموت" و "ليلي مارلين".
كان فاسبندر شاب يعاني من ثنائية الميول الجنسية وهو ما ورطّه في
الكثير من العلاقات الغريبة والشاذّة عبر سنوات عمره مع الكثير ممن
عمل معهم لإنجاز أفلامه سواء كممثل شاب في بداية السبعينيات، أو
كمخرج واعد صاحب رؤى متطورة في العلاقة ما بين البصري والدرامي
والنفسي.
وفي عام 1982 وقبل وفاة فاسبندر بثلاثة أسابيع، كان مساعده
الدنماركي الشاب آنذاك كريستيان طومسون يجلس معه في غرفته الفندقية
أثناء حضور فعاليات مهرجان "كان" بمفردهم مع الكاميرا التي سبق وأن
سجل بها كريستيان العديد من المقابلات والجلسات الودية بينه وبين
فاسبندر منذ أن التقاه للمرة الأولى عام 1969 في مهرجان برلين
واستمر في العمل معه حتى وفاته.
بعد هذا التاريخ بحوالي 22 عاما قرر كريستان أن يصنع فيلما وثائقيا
عن الرجل الذي كان له أكبر الأثر في حياته فكريا ومهنيا، مفرجا
للمرة الأولى عن اللقاءات المصورة التي كان يجريها مع فاسبندر عبر
عدة سنوات والتي كان أهمها بالطبع الجلسة الأخيرة في "كان "82. وقد
أضاف كريستان على تلك المادة عددا من اللقاءات الحديثة التي أجراها
مع زوجة فاسبندر السابقة ومساعديه وعدد من الممثلين الذين عملوا
معه في أفلامه، متخذّا من شكل السيرة الذاتية إطارا عاما له ولكن
بتوجه أساسي يكمن في الوصول إلى هدف محدد، وهو أن المخرج الشاب
كان يعيد إنتاج الحياة كما عاشها في سنوات عمره القليلة من خلال
تصفيتها من شوائب الاجتماعيات والمواقف الأسرية، وبثّها في شكل
انفعالات وعواطف مصورة عبر أفلامه.
إنه فيلم عن السينما والحياة وما بينهما من علاقة جدلية، فلا أحد
يدري تحديدا أيهما يصنع الآخر، ففي اللقاءات المطولة التي عرضها
المخرج يبدو فاسبندر مستسلما للحكي عن نفسه وأسرته ومشاعره، ثم
ينتقل المخرج مباشرة إلى مشاهد ولقطات ومقاطع من أفلامه أو
كواليسها ليطابق أو يقارن بين فاسبندر الإنسان المستلقي أمام
الكاميرا الـ 16 مم، وفاسبندر المخرج الرابض خلف كاميراه التي لا
تدع شخصية من شخصيات أفلامه مكسوة أو مستورة بأي بشرة اجتماعية
أنيقة.
مغامرة وثائقية أقدم عليها كريستيان تومسون بفرد مساحة واسعة
للقاءات، سواء المادة المفرَج عنها من أرشيفه، أو تلك اللقاءات
الحديثة مع أصدقاء فاسبندر حيث تلكأ الإيقاع في كثير من الفصول.
وباستثناء المواد التي تحتوي على لقاءات فاسبندر أو بعض اللقاءات
القصيرة مع مساعديه ومعارفه، إلا أن الكثير من اللقاءات مع زوجته
السابقة وبعض أصدقائه بدا مكررا سواءً لمن يعرفون المخرج الشاب أو
حتى بالنسبة للمعلومات أو التفاصيل التي تبدو واضحة خلال سياقات
بصرية ومقابلات أخرى خلال الفيلم. وبالتالي كان الطول النسبي لزمن
الفيلم في غير صالح الإيقاع لكنه في النهاية اختبأ داخل تلك
اللمعات والشطحات النفسية التي كان يطلقها فاسبندر عن ذاته أو
السينما، أو عن علاقته بالآخرين أو نظرته للحياة خلال مجموعة
المقابلات التي عُرضت لأول مرة في سياق الفيلم.
"سيدل"
وعورات الحضارة
يعتبر المخرج النمساوي ايرليش سيدل صاحب وضع استثنائي بالنسبة
لمهرجان سالونيك بفعالياته الوثائقية في شهر مارس والروائية في شهر
نوفمبر (الدورة السادسة والخمسين سوف تتخذ موقعها الزمني في الفترة
من 6 - 15 نوفمبر القادم).
فأفلام
سيدل هي حالة خاصة من "تأليف الوثائقي" - بحسب المصطلح الفرنسي -
فهي حلول بصري ودرامي في منطقة الما بين، وهي منطقة مظللة يصعب
الخوض فيها ذهنيا ولكنها تحتاج إلى متلقِّي حر لا يشغل باله بالشكل
في مقابل الاستغراق داخل مضامين وتأويلات عديدة بعضها مفهوم وبعضها
الآخر محسوس رغم غموضه.
شهدت الدورة السابعة عشر عرض أحدث أفلام سيدل "بداخل القبو" في قسم
"قصص تروى" وهو تجربة وجودية سياسية اجتماعية رائعة عن فكرة القبو
النفسي للبشر، فالعالم قد تغير منذ أن قال أرسطو جملته (تكلم حتى
أعرفك) وأصبح الآن (قل لي ماذا في قبو منزلك أقل لك من أنت!) إنها
الشوارع الخلفية لنفوس وأذهان شرائح وطبقات وأنماط من البشر أقرب
للعينة المعملية لكشف عورات الحضارة الأوروبية على وجه الخصوص
والإنسانية بشكل عام. الأقبية هي مساحات خاصة وداخلية يمارس فيها
ساكن البيت حريته بالكامل دون قيود اجتماعية ودون تخوُّف من حضور
ضيف مفاجئ أو تلصص جار، إنها الأماكن التي توازي كل ما هو سفلي
وباطني وحر.
يعرِّي "سيدل" عورات الحضارة عبر تتبُّع عورات الأقبية السفلية في
العديد من المنازل، فأحدهم يصنع من قبوه متحفا لتاريخ النازية
ويجتمع هو وأصدقائه ليحيون صور هتلر وجوبلز ويمارسون طقوسهم
العنصرية بكل فخر واستمتاع. وآخر يسكو جدران قبوه برؤوس الحيوانات
المحنطة ومختلف أنواع الأسلحة وأدوات الصيد الذي يمارسه بولع وشبق
عميق. ناهينا عن الأقبية التي حولّها أصحابها إلى أماكن لممارسة
الجنس السادي والشذوذ بمختلف أنواعه، كل هذا عبر كاميرا ثابتة
وكادر واسع أقرب للبورتريه (الصورة الشخصية) للمكان والأشخاص،
وكأنه يصطحب عيوننا وأفكارنا إلى دواخل الآخرين / أقبيتهم بشكل
يجعلنا نعيد التفكير في أقبيتنا الخاصة سواء في منازلنا أو نفوسنا.
في قسم "رحلات إنسانية" قدّم المخرج الألماني قنسطنطين وولف محاولة
للنفاذ خلف الأسوار الباردة والعالية لعوالم سيدل المغرقة في عرق
النفوس وعورات البشر، من خلال تصويره كواليس أحدث أفلامه "بداخل
القبو" كتجربة لاستقراء وتحليل عناصر الصورة التي يصنعها سيدل ومدى
قربها من أفكاره وتصوراته التي يريد طرحها على العالم.
أجرى وولف عدة لقاءات مع سيدل في مواقع تصوير الفيلم، بالإضافة إلى
حضور بروفات إحدى المسرحيات التي كان يقوم بالإعداد لها والتي
مثّلت انطلاقة لثلاثية "الجنة" التي نفذ من خلالها أسفل المسامات
الغريزية والمادية لثلاثة من أكثر الاسئلة التي تؤرِّق البشر: ما
الإيمان، ما الحب، وما الأمل؟!
ولكن تجربة وولف لا تعدو أكثر من مجرد تحقيق تليفزيوني، أو هي أقرب
لتصوير كواليس إحدى أفلام مخرج كبير تحت مبدأ (المخرج في موقع
التصوير) وهو نمط تليفزيوني معروف يُستخدم أحيانا للدعاية، ولكنه
هنا يبتعد عن مساحة الدعاية دون أن يقترب كثيرا من مساحة التحليل
الواعي والدقيق، بل تبدو الكاميرا منبهرة أو تعكس انبهار صانع
"التقرير" الوثائقي عن المخرج الكبير، والانبهار آفة من آفات
التوثيق لأن الضوء المبهر عادة ما يعيق الرؤية ويطمس الملامح تماما
مثل الضوء الضعيف أو الظلال الكثيفة.
سوبير: أنا لست كاميرا
وفي إطار تكريم المخرج الفرنسي النمساوي الأصل هيبرت سوبير عرض له
خلال فعاليات برنامج التكريمات خمسة أعمال هي: "على الطريق مع
إميل" إنتاج 93، "بمفردنا مع قصصنا" إنتاج ،2001 ثم ثلاثيته
الأفريقية "يوميات كنشاسا"1998،"كابوس داروين"2004 ، "جئنا
كأصدقاء"2014.
بكاميرا صغيرة وبضعة مساعدين استطاع سوبير أن يُقدِّم الكثير من
التفاصيل المسكوت عنها في اللحظة الحضارية الآنية التي يدّعي فيها
البشر أنهم بلغوا من الإيمان والعلم والرقي ما لم يبلغه أجدادهم،
إن مشاهدة واحدة لثلاثية أفريقيا كاملة، كفيلة بأن تجعلنا نستشعر
أن السنوات الأخيرة من عمر البشرية ما هي إلا حشد مكثف لكل الآثام
والخطايا التاريخية التي مارستها الشعوب لأجيال.
يقول سوبير
: "إنني
أصنع الأفلام كي أشارك العالم أفكاري ومشاعري تجاه الأحداث
والآخرين، ولكن هذا يتطلب وقتا وجهدا كبيرا، فأفلامي ذات أشكال
محددة ونحن نغرق في عشرات الأشكال الوثائقية كل يوم مع انتشار
الفضائيات، ولكن الأهم بالنسبة لي أن أصنع تلك الشرارة ما بين
الحدث والمتلقي، وبحثي الدائم هو عن الشكل الذي يصنع هذه الشرارة."
لا يضع سوبير تعليقا صوتيا في أفلامه، يتحدث إلى المتلقي عبر نظرات
العيون السمراء إلى الكاميرا، يصنع الحكاية عبر التقابلات
المونتاجية بين مشهد وآخر، تتحدث شخصيات أفلامه إلى الكاميرا في
حميمية وكأنها جلسة أصدقاء لا مقابلة رسمية.
يقول سوبير : أنا أؤمن جدا بالمصطلح الفرنسي (تأليف الوثائقي) فهو
أمر له علاقة بالشكل وليس المضمون، فأنا ليس لدي ممثلين يقولون
حوارا كُتب لهم مسبقا بل هم أشخاصا حقيقيين، ولكن كيف أقوم
بتصويرهم، كيف أُضيئ وجوههم، ما الخلفية الموسيقية أو الصوتية التي
أختارها لحديثهم، أو ما هو حجم الصمت المطلوب في مشاهدهم، حين
يسألني أحدهم عن التقرير الذي أقوم بتصويره حاليا أقول له أنا لست
مراسل إخباري أنا صانع أفلام، وفي صناعة الوثائقي أكثر ما يشغلني
هو الحقائق وليس الإحصائيات أو الأرقام.
في نهاية برنامج التكريمات نظمت إدارة المهرجان نقاشا مفتوحا ما
بين سوبير وضيوف المهرجان وجمهوره، تحدث فيها سوبير بكل أريحية عن
أفكاره وموضوعات أفلامه وأساليبه في التعبير عن وجهة نظرة في
العالم عبر وسيط السينما الوثائقية.
يقول سوبير:
"عندما
أصنع فيلما لا أريد أن أبدو مثل قسّ تبشيري يأمر الناس بعبادة
الله، بل أريد فقط أن أدعوا لاكتشافه تاركا حرية الإيمان مرهونة
بحجم الاكتشاف والقدرة على الوصول إلى الأفكار التي أطرحها في
أفلامي، أنا لا أضع موقع إلكتروني للتبرعات في نهاية أي فيلم، أريد
فقط أن أجعلك تفكر فيما تريد أن تفعله، هذا التشوُّش الذي تُحدثه
الأفلام ريما يصبح مطلوبا، أنا لست كاميرا تصوير أنا أعمل لسنوات
على الفيلم، أفكر وأطرح أسئلة وهذا جهد أكبر من أن أكون مجرد
كاميرا."
سولومون: العائش في الزمن
ثاني تكريمات الدورة السابعة عشرة ذهبت لعروض أفلام الروماني
المخضرم ألكسندر سولومون والذي عُرض له خلال فعاليات المهرجان
أفلام: "أعظم العمليات الشيوعية لنهب البنوك" إنتاج2005 و"كالا ب"
إنتاج 2006 و"موجات باردة" إنتاج 2007 و"نهاية العالم على
عجلات"2008 و"العولمة معادلاتنا المتطورة"2010.
منذ عام 1992 بدأ سولمون في تقديم تجاربه الوثائقية القصيرة طوال
فترة التسعينيات، ثم أتبعها مع منتصف العقد الأول من الألفية
بتجاربه الطويله المميزة التي جعلته أحد أهم صناع السينما
الوثائقية في شرق أوروبا في مرحلة ما بعد انهيار المعسكر الشرقي
وتفكُّك الإمبراطورية السوفيتية خلال الربع قرن الماضي.
سولمون هو مخرج عائش في الزمن حيث يتحرك في أفلامه داخل سياق
الماضي والحاضر لبلده تاركا استقراء المستقبل أو معايشة الواقع
رفاهية متاحة لمتلقي أفلامه. فتجربة أعظم العمليات الشيوعية تدور
تفاصيلها عام 1959 حين أقدم ستة من الأعضاء السابقين في الحزب
الشيوعي والبوليس السري على نهب البنك الوطني.
وفيلمه "كارلا بي" يقوم بالأساس على مواد أرشيفية وهي مجموعة صور
من عصر الاضطهاد العرقي في أوروبا خلال القرن العشرين، من خلال
إعادة بناء حكاية المصورة التي تدعى كالا بي عبر أحد مشرفي الأرشيف
الوطني الشباب والذي يكشف كم كبير من الصور والمواد المكتوبة حول
حياة هذه المرأة المجهولة التي تُمثِّل الوجه الآخر لعمليات
الاضطهاد العنصري وحروب الأجناس في أوروبا.
لا يَعتبر سولومون التاريخ حاجزا أمام السينما، بل يحاول دوما أن
يخوض مغامراته الوثائقية عبر الذاكرة الحية سواءً التي أبقتها
الصور والمواد الأرشيفية أو التي لا تزال تنبض في عقول المعاصرين
للأفكار والحوادث التي يُقدِّمها في أفلامه.
لا يُقدِّس سولومون التاريخ في تجاربه بل يتشكك فيه، تاركا هذا
الشك يمتدّ في خيط نفسي وذهني على استقامته إلى الحاضر، حيث يعرف
كيف يقيس المسافة ما بين الرواية الرسمية وبين الحقيقة تاركا
الانحياز كمساحة حرة للمشاهد، فإما أن يقبل التاريخ كما يروى له،
أو يرفض الإملاء ويشتهي البحث والاكتشاف.
في فيلمه "الموجات الباردة" يكشف ببساطة شديدة ودون صخب كيف كانت
تستخدم الحكومة خلال سنوات الثمانينيات - قبل الانهيار الشيوعي
الكبير - محطة الراديو الرسمية في صناعة منهج دعائي ساذج من أجل
محاولة إحكام السيطرة على الواقع اليومي للشعب الذي يستمع إلى
الراديو ليل نهار.
تكريم كل من هيبرت سوبير وألكسندر سولمون خلال فعاليات الدورة
السابعة عشرة لمهرجان سالونيك، بما يُمثِّلاه من تيار مناهض ومعادي
للعديد من القيم الغربية الراسخة والمعادلات الأيديولوجية
والاقتصادية التي قامت عليها أوروبا ولا تزال تمارس سلطتها عبر
الحاضر وتُهدِّد المستقبل، هو تكريم يحمل هرمونية شديدة الاتساق
والعمق، خاصة مع الظروف الاقتصادية التي تعانيها اليونان، والأمل
في القفز من فوق فوهة السقوط الحضاري والدولي عبر التشبث بالحكومة
اليسارية الجديدة التي تولّت دفة الحكم عبر الانتخابات الشعبية
الشهر الماضي.
إن المهرجانات ليست مجرد واجهة ثقافية أو نظم دعاية سياحية بإقامة
مريحة ونزهات صباحية، بل هي نسق حضاري وثقافي وفني متكامل يعكس
التوجّهات السياسية والاجتماعية والإنسانية للدول التي تقام فيها،
وكلما اتسقّت توجهات المهرجانات مع السياسيات الثقافية لبلدانها
دون رقابة أو توجيه، ولكن عبر احترام حرية التعبير والرأي الآخر،
كلما أصبحت ذات ثقل حقيقي في الأوساط السينمائية والفنية واستطاعت
أن تساهم في تشكيل وعي الجماهير المحلية التي تصبح أكثر الأطراف
المستفيدة من إقامة تلك الفعاليات فوق أرضها وعلى شاشاتها. |