فيلم 'زوجتي والكلب' للمخرج الراحل سعيد مرزوق مثل انقلابا في مسار
الفيلم المصري التقليدي السائد من خلال مسحة الغموض الموجودة بين
ثنايا الصورة والموضوع.
في أوائل السبعينات كنا طلابا في الجامعة، وكان أبناء جيلي من
الشباب الحالم، وكذلك أبناء الجيل الذي سبقنا، يحلمون بـ”السينما
الجديدة” في مصر، أي بمولد حركة تهز أركان السينما التقليدية
القديمة وعروشها التي تروي قصصا ميلودرامية تدور حول نفس الأفكار
والثنائيات المتهالكة، التي كما نعتقد أنها لا تملك أدوات فنية
رفيعة تسمح بالاستمتاع بالصورة، بل كانت عبارة عن ترجمة مصورة
لمسلسلات الإذاعة.
وكانت صفحات السينما في الصحف المصرية وقتها مزدهرة بل كانت مجلة
واحدة مثل مجلة “الكواكب” تلعب دورا كبيرا تحت رئاسة تحرير رجاء
النقاش في الدعوة إلى “السينما الجديدة”. وكنا قد قرأنا أيضا
الكثير في مجلة “المسرح والسينما” التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة
المصرية في عهد الدكتور ثروت عكاشة، عن “الموجة الجديدة” في
السينما الفرنسية وأعلامها من السينمائيين الشباب: جودار وتريفو
ورينيه ولوي مال وجاك ريفيت وغيرهم.
وكانت أفلام كلود ليلوش قد بدأت تغزو الشاشات المصرية مع عرض فيلمه
الشهير “رجل وامرأة”، ثم فيلمه التالي “الحياة للحياة”، وكان
استخدامه لافتا للصورة والكاميرا وطريقته في استخدام المونتاج حيث
يحطم البناء التقليدي في السرد، ويجعل من الفيلم عملا أشبه
بالقصيدة، خصوصا أن ليلوش لم يكن يروي قصة بالمعنى المتعارف عليه،
ولم يكن اهتمامه كبيرا بالحبكة وتحليل العلاقات بين الشخصيات، بل
كان ينقل عبر الصورة، مشاعر وأحاسيس ترتبط بالمكان وبنوع غامض من
الجاذبية الساحرة.
السينما الجديدة
بعد ذلك ظهرت في مصر “جماعة السينما الجديدة” للدعوة إلى إنجاز
أفلام مختلفة تنقل السينما من مجال السرد القصصي الذي ينتهي
بالمواعظ والحكم الأخلاقية إلى مجال التعبير عن “رؤية للعالم”
وكانت تلك الجماعة التي انضم إليها الكثير من السينمائيين الذين
أصبحوا بعد ذلك نجوما في سماء الفن السينمائي مثل محمود ياسين وعلي
عبدالخالق ورأفت الميهي وداود عبدالسيد ومحمد راضي وعلي بدرخان
وغيرهم. وقد أنتجت الجماعة بمساعدة مؤسسة السينما الحكومية وقتها،
فيلم “أغنية على الممر” للمخرج علي عبدالخالق، الذي حقق نجاحا
متواضعا، وكان من الناحية السياسية مقبولا في إطار الروح التي كانت
سائدة وقتذاك، والتي عبر عنها يوسف شاهين في فيلمه الشهير
“العصفور”، أي فكرة رفض الاستسلام للهزيمة والصمود إلى حين أن تتاح
الفرصة لتحرير الأرض.
أما من الناحية الفنية فلم يكن الفيلم يعكس بشكل حقيقي “الفكر
الجديد” لجماعة السينما الجديدة كما كنا نتصور، رغم محاولات مصوره،
استخدام الكاميرا المحمولة على الكتف في بعض مشاهده، والإضاءة
الطبيعية بطريقة تضفي الكثير من الملامح ذات الدلالات على الصورة،
لكن كان هناك نوع من “الجمود” في معظم المشاهد بسبب فقر الإنتاج
عموما، والطابع المسرحي للعمل نفسه، والاعتماد على الموقع الواحد
الذي لا يتغير، واللجوء إلى أسلوب “الدوبلاج” أي تركيب الصوت بعد
التصوير وليس التسجيل المباشر للصوت، وكان هذا يجعل الأفلام في تلك
الفترة، تخلو كثيرا من الحميمية والواقعية التي تميز شريط الصوت
بالضرورة، وتثريه.
زوجتي والكلب
كانت آمالنا من “السينما الجديدة” أكبر كثيرا من مجرد الجرأة
السياسية أو الطابع الوطني الذي لا يختلف في الحقيقة مع ما كان
مطروحا على مستوى النظام الحاكم، بل كنا نتطلع إلى ما هو أكثر من
ذلك، إلى جرأة في الشكل، وتحد للسائد في المضمون. وكان أمامنا مثال
آخر لم يأت من داخل معطف جماعة السينما الجديدة، بل من خارجها
تماما، ولكنه كان نموذجا مبهرا هو فيلم “زوجتي والكلب” (1971)
لسعيد مرزوق، الذي أنتجه وقام بتصويره مدير التصوير الكبير
عبدالعزيز فهمي. وكان سعيد مرزوق من المخرجين الواعدين المبشرين
منذ بدايته، أي منذ أن قدّم للتليفزيون أفلامه الثلاثة القصيرة
“أنشودة السلام” و”أعداء الحرية” ثم “طبول”، وإن لم يدرس السينما
ولم يلتحق بجماعة السينما الجديدة. وعندما أخرج “زوجتي والكلب”
اعتبر هذا الفيلم انقلابا في مسار الفيلم المصري التقليدي السائد،
وانقسمت الآراء حوله كما لم يحدث من قبل، فلم يكن الفيلم “مسيّسا”
كما كان ينتظر أصحاب التوجه السياسي، لكن مسحة الغموض الموجودة بين
ثنايا الصورة والموضوع، أثارت اهتمام الكثير من النقاد الذين أخذوا
يتبارون في تفسير مغزى الإشارات والرموز الكامنة فيه.
لا شك لديّ الآن أن سعيد مرزوق الذي رحل أخيرا عن عالمنا بعد
معاناة طويلة مع المرض الذي أرغمه على التوقف عن العمل في السينما،
كان متأثرا كثيرا بالموجة الجديدة ، لكنه لم ينقل ولم يقتبس
أفكارا، بل تأثر فقط بالأسلوب الجديد في استخدام الكاميرا
والمونتاج وبالجو العام الشائع في الأفلام الذي انتقل من فرنسا إلى
سينما أوروبا الشرقية بل وإلى الفيلم البريطاني والأميركي نفسه.
وكان مرزوق يعتمد هنا على قصة قصيرة تصف الحالة النفسية لرجل يعمل
حارسا لفنار في منطقة معزولة على ساحل البحر يدعى الرئيس مرسي
(محمود مرسي) الذي يعاني من عاهة ترغمه على السير بصعوبة، يقضي
لياليه الخاوية يقص على زميله الشاب الذي التحق حديثا بالعمل في
الفنار (نور الشريف) قصص مغامراته العاطفية القديمة مع الكثير ممن
عرفهن من نساء متزوجات. وتشاء الظروف أن يبعث مرسي برسالة إلى
زوجته الشابة (سعاد حسني) مع الشاب نور الذي سينزل في عطلة. وبعد
أن يغادر الشاب تبدأ الهواجس تطارده، عما يمكن أن يقع بين الشاب
وزوجته وهو المعزول في منطقة نائية.
عندما أخرج 'زوجتي والكلب' اعتبر هذا الفيلم انقلابا في مسار
الفيلم المصري التقليدي السائد، وانقسمت الآراء حوله كما لم يحدث
من قبل
وكان أهم ما في فيلم “زوجتي والكلب” أسلوب التصوير والإضاءة
التعبيرية التي وصلت إلى أفضل مستويات السينما في العالم بفضل دأب
وإبداع المصور عبدالعزيز فهمي ودراسته المتأنية للشخصيات ولطبيعة
المكان وموضوع الفيلم نفسه.
الخوف
ثم ازدادت مساحة الاهتمام بسعيد مرزوق فنيا ونقديا مع ظهور فيلمه
الروائي الطويل الثاني “الخوف” (1972). وكان مرة أخرى، عملا طليعيا
في التصوير وأسلوب الإخراج، بل واختيار الموضوع، مع تحميله هذه
المرة رموزا سياسية أكثر وضوحا، وكان يتجه إلى رفض الاستبداد
والديكتاتورية، ولعله كان أيضا من أكثر الأفلام التي ظهرت في تلك
الفترة، جرأة في التعبير عن الحب كمعادل للرغبة في التحرر، في
مجتمع يسحق أحلام الفرد أو يجعلها مؤجلة باستمرار. وكان من الطبيعي
أن ينبري عدد من الكتاب الذين كانوا يوجهون من قبل التنظيم السياسي
القائم في تلك الفترة “الاتحاد الاشتراكي” للهجوم على الفيلم
وتوجيه شتى الاتهامات إليه. وكان يصور علاقة شاب وشابة (نور الشريف
وسعاد حسني مرة أخرى) مخطوبين ويبحثان عن سكن يعثر عليه نور في شقة
تحت الإنشاء في عمارة خالية، يقيم عليها حارس شرس يراقب حركاتهما
ويشعرهما بالتهديد طول الوقت. وكان من ضمن ما ورد في نقد الفيلم
أنه يجعل من البواب المسكين مستبدا. لكن سعيد مرزوق حفر بهذا
الفيلم الذي ظلم كثيرا، اسمه كأحد أهم السينمائيين في السينما
العربية بموهبته التي استمدها من الرسم والنحت رغم أنه لم يدرس
الإخراج السينمائي.
أريد حلا
بعد هذه الفترة التي تميزت بالبحث في الشكل، اتجه سعيد مرزوق إلى
أفلام القضايا الكبرى، في فيلم “أريد حلا” (1975) الذي نجح رغم
موضوعه الاجتماعي الطاغي وكثرة حواراته، في ابتكار الكثير من
المشاهد التي لا تنسى من الناحية البصرية، مع السيطرة المذهلة على
أداء فاتن حمامة ورشدي أباظة.
وانتقل بعد ذلك لتعميق مفهومه السينمائي في النقد السياسي من خلال
فيلم غير تقليدي في بنائه وأسلوب سرده هو فيلم “المذنبون” (1976)
الذي يقدم فيه تشريحا سياسيا واجتماعيا لمجتمع الهزيمة من خلال
سيناريو يعرض لشرائح مختلفة من الطبقة الوسطى، يكشف من خلالها فساد
البنية السياسية والخواء الداخلي الذي كان يسيطر على تلك الطبقة
مما أدى إلى وقوع الهزيمة بينما هي غارقة في فسادها. ولا شك في
تماسك الفيلم سينمائيا، وفي جرأته التي جعلته أول فيلم يشير إلى
ممارسات جهاز المخابرات في عهد صلاح نصر، من خلال الرمز والتورية.
وكان سيناريو الفيلم الذي كتبه ممدوح الليثي يستند إلى قصة لنجيب
محفوظ. لكن هذا الفيلم واجه القمع والمنع بدعوى تشويه سمعة البلاد،
ولعلّي لا أغالي إذا ما قلت إن سبب المنع والحظر والتحقيق مع مخرجه
سعيد مرزوق وتهديده، يعود أساسا إلى اجترائه على الإشارة في الفيلم
إلى بعض ممارسات أصحاب النفوذ والسلطة.
رحم الله سعيد مرزوق الذي أثّر عليه كثيرا ما تعرض له بسبب
“المذنبون” وأدى إلى هبوط مسيرته السينمائية في أفلامه التالية بكل
أسف. |